

الرماد الذي أنجب الضوء
لقد مرّ على مجيئ ذلك الفصل ثمانون يوما، مرّتْ كأنّها ثمانون سنة، لم يكن الفجر مختلفا عن سابقيه، كانت الأرض تتهيّأ ليوم جديد، الشمس تتثاءب خلف التلال، والأمهات يخبزن الأمل مع رغيف طبق المسخن، كان يوما هادئا، بريئا كطفل نائم
بدون شائعات ولا مقدمات
خرجوا من عمق المجهول
دخلوا بلدنا الجميل فجأة...
عمالقة؟
يبدو أنّ ملامحهم ليست هي الشيء الوحيد الذي جعلهم غير بشريّين.. كأنهم ولدوا بدون تاريخ، يحركهم شيء واحد، مكر وشر يتجاوز أطوالهم المرعبة....
كان هذا المشهد هو ما رآه أحمد بعد صلاة العصر، كان يحمل في يده كيسا من آيسكريم الفراولة، النكهة المفضلة لابنته سارة ذات الخمس سنوات، وبيده الأخرى وردة قطفها ليهديها لزوجته التي كان يعتبرها وطنه الغالي
سمع صوتا كأنّ السماء انشقت، أقدام تقرع بنعليها صدر المنطقة، دكُّ الأرض كأنّها درامز تزعزع كيان المدينة بإيقاع غير منتظم، وصوت الصرخات كمجموعة كورال.. يبدو وكأنّها سمفونيّة بشعة لنهاية العالم...
لم يفكر سوى في شيء واحد: سارة وزوجته وهما قابعتان في المنزل.
لم يكن أحمد سيّئا أبدا كرياضيّ، بل كان عدّاء ممتازا، في تلك اللحظة كان يجري كمن يجرّ شاحنة وكان ركام الخراب يزيد كلّما اقترب من بيته،، الوقت يتباطأ أينما ازدادت سرعته،،،، بينما يتخيّل أسوأ السّيناريوهات ككاتب يختار أقسى نهاية لقصته.
وفجأة، من بعيد،،،، رأى سارة،،، كانت تجري نحوه،، تنادي: بابا بابا.... تدمّرت قلاع وجدانه،، كانا يعدوان نحو بعضهما،، خطواته الشاسعة شساعة الأمل، وخطواتها الضيقة ضيق البراءة، لكن المسافة لا تقصر... تعثرت،، سقطت على قارعة الطريق، وهي تمدّ يدها كمن يطلب النجدة، فرأى جسدها ملقى على ذلك البساط الرماديّ الصلب، وقدم عملاق تهبط عليها كأنّها نملة،، لم يستشعرها حتى،،، حدث كل شيء بسرعة وبطء، لم يرد أن يصدّق الأمر، كأنّ كل شيء سُلِبَ منه في لحظة
صرخ
لم يدم ذلك طويلا حتى سقط عليه ركام بيت بجواره ليغرق في ظلام كثيف..
استفاق بعد وقت،لا يعرف كم مضى، عيناه بالكاد تنفتحان. وجد رأسه على وسادة من تراب، وصوت يقول:
ـ ’’ الحمد لله، استيقظت أخيرا؟’’
فتح عينيه. رأى رجلا بعضلات بارزة، ضمادة على كتفه العاري وتعبير جادّ على محيّاه يملؤه الحزن، قال:
ـ اسمي عماد، أعرف أنك مررتَ مثلي تماما بالكثير من اللحظات المرّة، وأنّ ما ستسمعه يصعب تصديقه، لكنّ بلدنا تمّ اجتياحه بالكامل. لقد استولى العمالقة على كل شيء، حقولنا، دروبنا، حتى مياهنا... لم يعد لنا شيء،، جلس أحمد بصعوبة، كلمة واحدة تتداعى من خلال أنفاسه المتقطعة.
ـ ’’زوجتي؟’’
سأل ثم أعاد السؤال،،
لم يجب عماد. أومأ فقط برأسه. فهم أحمد،، انهار،، ليس بالبكاء، بل بصمت القهر. شعور رجل سُلِبَتْ منه روحُه وهو حيّ،، انتهى كلّ شيء، إلا شيئا واحدا،،،،
بسرعة فتش في إرشيف ذاكرته، سقطتْ أضواء بصيرته على جذاذة قديمة كُتِبَ عليها " مِنَ القهْرِ تُولَدُ النّار ومن النّار ينشأ الضوء ". قرّر أنْ لا يموت قبل أن يأخذ بثأره.. نظر إلى عماد. تلاقى الخاطران على ربوة من الإصرار وذروة من الإباء،، تلاقحت الرؤى فأنجبت قرارا ساطعا قاطعا..
شكّل أحمد وعماد فرقة سموها ’’ الصامدون ’’، لم يكن فيهم جنديّ محترف، ولا قائد عسكريّ محنّك... الكلّ قائد، والكلّ جندي.. توالت الأيام،،،، كل واحد منهم يقارع بطريقته، وحتّى الطفل ذو الخمسة أعوام تراه يرمي الحجارة على العمالقة بلا خوف
مات بعضهم عطشا، مات آخرون جوعا، قـُصِفَ بعضهم بصخور عملاقة كأنها نيازك، لم تفرّق وحشيّة العمالقة بين مسجد أو مدرسة أو مستشفى.. خراب.. حطام،، ركام،، رائحة الجثث،، لكنِ الصّامدون كانوا كلّما سقط منهم شهيد، زادهم ذلك صمودا وإصرارا وتحدّيا.
كانو كلما قـُصِفوا، أعادوا البناء بأجسادهم، عاشوا في كهوف المعاناة وبين أحضان المآسي، تحت الأرض، فوق الجبال، في أعينهم نار لا تنطفئ.
وفي أحد الأيام، استيقظ أحمد على صوت دكّ عنيف،، مألوف، لا شك في ذلك، إنّها نفس السمفونية اللعينة،، خرج من خيمته مذعورا، فوجد أشخاصا في رواق ركاميّ عاتم، عماد وبعض رفاقه،، يحدّقون في الأفق
قال عماد بوجه شاحب:
ـ ما هذه الرائحة التي تنبعث من كل الجهات؟
رائحة كريهة جدا،، اشمأزّت من وقع أصدائها عصافير المدينة المنهارة، وتثاءبت الصباحات والمساءات من لون مجاريها الضحلة،، قال أحدهم:
ـ ’’إنها رائحة الخـ...يانة’’
ومن كل الجهات بدأ العمالقة يتوافدون. عشرات، مئات... كأنّ الأرض تلفظهم
علقت أرجل الصامدين في أوحال مستنقع المؤامرات، لكنّ أحمد صرخ
ـ لقد خسرنا كلّ شيء،، لكننا لم ولن نخسر أرواحنا المقاومة. فَلْنُرِهِمْ مَنْ نحن....
بسرعة انسلوا من عتمة المعنى، أخفوا ظلالهم في صمتهم،، صنعوا أسيافا ومتارس منْ بقايا عشقهم لتلك الربوع المنهارة،، لم تكن غيوم الظهيرة تحمل لهم تباشير الأفق الأرجواني، ولا القلاع المجاورة ترسل لهم باقات من أزهار الحياة،، كلّ ما في الأمر هو أنّهم استنشقوا منْ غبار تراب الركام رائحة الوطن المحفور في أكبادهم،،، ودون تردد استلّوا سيوفهم ورماحهم، كانت السنابل تتحوّل إلى قذائف وحبات القمح تؤول إلى شظايا وأنفاسهم تتناهى إلى فيضان من الحمم الجارفة، توحّدوا في صورة شرارة نار سقطت على ميدان الشرف فانتشرت أرواحهم حارقة مدمّرة،،، كان أحمد وعماد يقاتلان كأبطال أساطير قديمة، من هناك لمح أحمد سبعة من رفاقهم يبتعدون عن ساحة المعركة ثم يتحوّلون الى عمالقة،، شعر بتلك الرائحة تزداد انتشارا،،، لقد رأى وفهم كلّ شيء!! هؤلاء العمالقة هم بشر تخلوا عن بشريّتهم من أجل لذة الحياة، أشخاص يتحدثون نفس لغته، وَثِقَ بهم، تآلفوا، أفضى بعضهم إلى بعض،، وتناولوا الطعام على مائدة واحدة
وبقدر ما كان الأمر مؤسفا فإنّه لم يأخذ سوى رموش قليلة حتى رأى أحمد شبح عماد الذي كان عمادا للصامدين وبعضا من فرقته يتم ضربهم بصخور ضخمة كجبل يسقط على عش نمل، رأى إخوته يسحقون، حاول الوصول اليهم، لكنّ السّماء اسودّت فجأة. شيء ضخم قاتم ينزل بسرعة، كسوف، ليل في وضح النهار؟ لا، لا يعرف
ثم لا شيء. ظلام تامّ
استفاق أحمد. كان رأسه مستلقيا على شيء طريّ يشبه الوسادة، لكنه أكثر دفئا، وأنامل تلاعب شعره الكثيف، فتح عينيه فرأى وجه زوجته المبتسم مقلوبا، وبعضا من شعرها الناعم يلامس وجهه، وأنوار بسمات تتدفق من وجهها الناصع... قالت:
ـ لقد استيقظتَ أخيرا ! كان حلما فضيعا أليس كذلك؟
همس وهو في حيرة قاتلة:
ـ حلم؟
وقبل أن يكمل عبارته، قفزتْ سارة في حضنه:
ـ أبي
بكى... كما لم يبك من قبل، بكى كأنّه لم يرها منذ حقب وقرون
لم يفهم شيئا،، انتابته عواصف هوجاء من رياح التساؤلات: هل كان نائما و خرج من كابوس أحلام مزعجة أو كان مسافرا و استكمل رحلته التي بدأها قديما، أو أنّه قد غادر مدينة الأوهام ودخل مدينة الحقيقة.
فاجأته زوجته وهي ترنو إلى مشهد بعيد متلألئ:
ـ انظر إلى الأفق يا عزيزي فهناك كلّ من تعرفهم، يبدو أنّنا جميعا عبرْنا من خلال ذلك الكابوس المزعج، ولم يستيقظ منه إلا من كان صامدا شجاعا، رأى أحمد أشخاصا كثيرين،، وبسرعة ازداد تدفّق أولئك الأشخاص، وهم يظهرون في أجمل الصور وأزهى الملابس،، ومن هناك عماد كان يلوّح له،، ضحك أحمد وقال: ههههه إنّك لا تبدو أبدا كآخر مرّة رأيتك فيها يبدو أنّ الحلم قد انتهى فعلا.
التفتَ إلى الجهات الأخرى لمح عالما جميلا، أراضيَ خضراء على مدّ البصر، رائحة عطرة جدا وألوان ساحرة لا تشبه الألوان المألوفة، يبدو أن الخونة لا يستيقظون هنا، وهذه الفضاءات النقيّة لا يَلِجُها إلا الأنقياء، ولا يقتحمها إلّا من حارب الأوهام من أجل أنْ تسطع الحقيقة
نظر إلى ابنته وزوجته ورفاقه وقال في نفسه:
ـ سأحمل هذا الجمال، هذه المشاعر، لأكون طيْفا لكلّ من يزال يحارب في حلمه.