الزّهـرة العجيبـة
كان الأمجدُ رجلاً صالحًا يُحِبُّ العَمَلَ والاجْتِهادَ. فكان يُمْضِي وَقْتَ فَراغِهِ في حَدِيقتِهِ المَنْزِلِيَةِ، يَتَفانَى في العِنايَةِ بِها، حتّى أَصْبَحَتْ حَدِيقَةً جَمِيلَةً تَمْلأُها الأزْهارُ الزَّاهِيَةُ والثِّمارُ الطَّيِّبَةُ. وكان ابْنُهُ "وحيدٌ" وَلَدًا ذكِيًا ومُطِيعًا، إلاَّ أنَّهُ يُكْثِرُ مِنْ رَمْيِ الأَوْسَاخِ في الحَدِيقَةِ أثْنَاءَ لَعِبِهِ فِيهَا. فَكانَ الأمْجَدُ يُسَارِعُ إلى تَنْظِيفِ الأَوسَاخِ في كُلِّ مَرَّةٍ حتّى يُحَافِظَ على جَمالِ حَدِيقَتِهِ. ورَغْمَ أنَّ الأَبَ يُحِبُّ ابْنَهُ كَثِيرًا فَقَدْ كانَ يَنْزَعِجُ مِنْ سُلُوكِهِ اللاَّمَسْؤُولِ. لِذَلِكَ حَاوَلَ بِكُلِّ الطُّرُقِ أَنْ يُعَلِّمَهُ الحِرْصَ على النَّظَافَةِ. لَكِنَّ وحيدًا كَانَ دَائِمًا يَنْسَى ما عَلَّمَهُ أبُوهُ، ويَعُودُ إلى رَمْيِ الأَوْسَاخِ.
واحْتَارَ الأَبُ في ذَلِكَ، وأَطَالَ التَّفْكِيرَ حتّى قَرَّرَ في النِّهايَةِ اسْتِشَارَةَ رَجُلٍ حَكِيمٍ كانَ يَسْكُنُ في طَرَفِ المَدِينَةِ، وهوَ رَجُلٌ مُسِنٌّ عَلَّمَتْهُ تَجَارِبُ الحَيَاةِ الكَثِيرَ، فَلَمْ يَكُنْ يَبْخَلُ بِالنَّصِيحَةِ على كُلِّ منْ يَطْلُبُهَا. فَقَصَدَهُ الأَمْجَدُ ذَاتَ يَوْمٍ، وَطَلَبَ مِنْهُ مُسَاعَدَتَهُ على تَعْلِيمِ ابْنِهِ احْتِرَامَ الحَدِيقَةِ ومَا فيهَا منْ نَبَاتَاتٍ. فَاسْتَمَعَ إِلَيْهِ الحَكِيمُ بِانْتِبَاهٍ، ثُمَّ أَعْطَاهُ بَذْرَةً صَغِيرَةً، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لاِبْنِهِ لِيَزْرَعَهَا.
وعَادَ الأَبُ إِلى حَدِيقَتِهِ لِيُوَاصِلَ عَمَلَهُ. وعِنْدَمَا اِلْتَحَقَ بِهِ وَحِيدٌ لِيَلْعَبَ كَعادَتِهِ قالَ لَهُ:
- يَا بُنَيَّ، أَنْتَ تَلْعَبُ دَائِمًا في الحَدِيقَةِ، لَكِنَّكَ لَمْ تَزْرَعْ فِيهَا نَبْتَةً وَاحِدَةً !
فَبُهِتَ وَحِيدٌ، وظَهَرَ الوُجُومُ على وَجْهِهِ دُونَ أنْ يَجِدَ ما يَقُولُهُ. فَابْتَسَمَ الأَبُ، واقْتَرَبَ مِنْهُ ورَبّتَ على كَتِفِهِ وقَالَ لَهُ:
- لاَ عَلَيْكَ يا وَلَدِي، يُمْكِنُكَ أنْ تُشَارِكَ في الزِّرَاعَةِ إِنْ شِئْتَ.
فَالْتَمَعَ وَجْهُ وَحِيدٍ فَرَحًا، وسَأَلَ:
- وكَيْفَ؟ يا أَبِي.
- سَأُعْطِيكَ بَذْرَةً لِتَزْرَعَهَا. لَكِنْ عَلَيْكَ أَوَّلاً أنْ تُعِدَّ لَها مَكانًا.
فازْدَادَ وَحِيدٌ فَرَحًا، وشَعُرَ بالحَماسِ والنَّشَاطِ، وتَنَاوَلَ الرَّفْشَ واسْتَعَدَّ لِلْعَمَلِ. فَسُرَّ أَبُوهُ، وسَاعَدَهُ في إِعْدَادِ حَوْضٍ مُنَاسِبٍ. ثُمَّ أَعْطَاهُ البَذْرَةَ، فَبَذَرَهَا وحِيدٌ وسَقَاهَا.
ومُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ شَعُرَ وَحِيدٌ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ عَنِ العِنَايَةِ بِبَذْرَتِهِ كَمَا يَفْعَلُ أَبُوهُ بِغِرَاسَاتِهِ. وصَارَ يَتَفَقَّدُها ويَسْقِيها وَيَنْْتَظِرُ إِنْبَاتَها.. وما هي إِلاَّ أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ حتى ظَهَرَتْ أُولى وَرَقَاتِها. فَفَرِحَ بِها كَثِيرًا، وأَخْبَرَ والِدَيْهِ فَشَارَكَاهُ فَرْحَتَهُ. ثُمَّ نَمَتْ النَّبْتَةُ بِسُرْعَةٍ فَنَبَتَتْ لها بَراعِمُ وارِفَةٌ وأَوْرَاقٌ خَضْرَاءُ نَاعِمَةٌ. وأَصْبَحَ وَحِيدٌ يَجِدُ سَعادَةً كَبِيرَةً في العِنَايَةِ بِنَبْتَتِهِ والجُلُوسِ بِجَانِبِهَا ومُدَاعَبَةِ أَوْرَاقِها وتَأَمُّلِ جَمَالِها، فَشَغَلَهُ ذَلِكَ عَنِ اللَّعِبِ وإِلْقَاءِ الأَوْسَاخِ. فَاطْمَأَنَّ أَبُوهُ لِذَلِكَ وأَدْرَكَ أَنَّ الحَكِيمَ قَدْ قَدَّمَ لَهُ نَصِيحَةً ثَمِينَةً.
ثُمّ أَزْهَرَتْ النَّبْتَةُ زَهْرَةً بَيْضَاءَ كَبِيرَةً غَايَةً في الجَمَالِ ونَشَرَتْ أَرِيجَها الفَوّاحَ، فَكَادَ وحِيدٌ يَطِيرُ سُرُورًا حَالَمَا رَآهَا. وما إِنْ اقْتَرَبَ مِنْها وهَمَّ بِلَمْسِها حتى بَادَرَتْهُ قائِلَةً:
- مَرْحَبًا بِكَ يا صَاحِبِي العَزِيزَ.
فَتَسَمَّرَ وَحِيدٌ في مَكَانِهِ مَبْهُوتًا، إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أنْ سَمِعَ زَهْرَةً تَتَكَلَّمُ. ولَمّا لاَحَظَتْ الزَّهْرَةُ دَهْشَتَهُ قالتْ لَهُ:
- مَا بَالُ صَاحِبِي مُنْدَهِشًا؟
فَتَرَدَّدَ وحيدٌ لَحْظَةً، ثمّ قالَ لَها وهو يَتَلَعْثَمُ:
- الحَقُّ... أَنَّنِي... لَمْ أَسْمَعْ... في حَيَاتِي... زَهْرَةً... تَتَكَلَّمُ.
- مَعَكَ حَقٌّ، فَأَنَا لَسْتُ كَبَاقِي الأَزْهَارِ، أنا زَهْرَةٌ عَجِيبَةٌ.
فَاسْتَغْرَبَ وحيد الأَمْرَ. لَكِنَّ كَلاَمَ الزَّهْرَةِ أَبْهَرَهُ، فَانْدَفَعَ يَسْأَلُها عَنْ أَمْرِها. فَأَجَابَتْهُ قائِلَةً:
- أنا مَبْعُوثَةُ الأَزْهَارِ والنَّبَاتَاتِ خُلِقْتُ لِأَعْرِضَ لِلنَّاسِ مَبَاهِجَ الحَدَائِقِ وأُرْشِدَهُمْ إلى احْتِرَامِ الطَّبِيعَةِ. وما دُمْتَ قَدْ غَرَسْتَنِي واعْتَنَيْتَ بِي فَسَأَتَّخِذُكَ صَدِيقِي وأُكَافِئُكَ. هَيَّا، تَأَمَّلْ أَوْرَاقِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً.
فَتَلَمَّسَ وحيد الوَرَقَةَ الأُولَى فَوَجَدَها ناعِمَةً كَالحَرِيرِ، ونَظَرَ فِيها فَرَأَى حَدِيقَةً غَنَّاءَ مَلِيئَةً بِأَصْنَافِ النَّبَاتَاتِ والأَزْهَارِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍٍ، وغَمَرَتْهُ عُطُورُها الذَّكِيَةُ فَأَنْعَشَتْ فُؤَادَهُ، ورَأى الفَرَاشَاتِ المُلَوَّنَةَ تُرَفْرِفُ فَوْقَ الأَزْهَارِ، والعَصَافِيرَ تُغَرِّدُ بِأَشْجَى الأَلْحَانِ. ثمّ أخَذَ يَنْتَقِلُ مِنْ وَرَقَةٍ إلى أُخْرَى فَيَجِدُ في كُلِّ وَاحِدَةٍ مَنَاظِرَ طَبِيعِيَّةً تَخْلِبُ الأَلْبَابَ وتَأْخُذُ الأبْصَارَ، والزَّهِرَةُ تُحَدِّثُهُ عَنْ عَجَائِبِ النَّبَاتَاتِ.
بَعْدَ أَنْ قَضَى وحيد مَعَ زَهْرَتِهِ وَقْتًا مُمْتِعًا أَخْبَرَ وَالِدَيْهِ بِالأَمْرِ فَلَمْ يُصَدِّقَاهُ، وقالاَ لَهُ إِنَّ الأَزْهَارَ لاَ تَتَكَلَّمُ. فَوَجَمَ وحيد قَلِيلاً، لَكِنَّهُ ازْدَادَ تَعَلُّقًا بِزَهْرَتِهِ، فَرَاحَ يَتَفَانَى في العِنَايَةِ بِهَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. وهيَ تَعْرِضُ أَمَامَ نَاظِرَيْهِ عَالَمَ الطَّبِيعَةِ الفَسِيحَ وتُحَدِّثُهُ عَنْ أَسْرَارِهِ المُدْهِشَةِ، فَتُمْتِعُهُ وتُدْخِلُ إلى قَلْبِهِ سُرُورًا يُنْسِيهِ تَعَبَ الدِّرَاسَةِ ويَمْنَحُهُ مِنَ النَّشَاطِ مَا يُسَاعِدُهُ على إِنْجَازِ كُلِّ دُرُوسِهِ بِشَكْلٍ مُمْتَازٍ، حَتَّى لاَحَظَ وَالِدَاهُ ومُعَلِّمُوهُ اجْتِهَادَهُ فَشَكَرُوهُ وأَعْطَوْهُ الجَوَائِزَ.
وقَدْ أَدْرَكَ وحيد فَضْلَ زَهْرَتِهِ عَلَيْهْ، فَازْدَادَ بِهَا شَغَفًا حَتَّى صَارَ يَهْرَعُ إِلَيْهَا ما إِنْ يَعُودَ مِنَ المَدْرَسَةِ، فَتَحْمِلُ إِلَيْهِ أُمُّهُ طَعَامَهُ فَيَأْكُلُهُ قُرْبَ الزَّهْرَةِ مُسْتَمْتِعًا بِصُحْبَتِهَا.
لَكِنَّهُ أَخَذَ يَتَكَاسَلُ عَنْ إِزَالَةِ بَقَايَا الطَّعَامِ دُونَ أَنْ يَنْتَبِهَ حَتَّى تَرَاكَمَتْ الأَوْسَاخُ قُرْبَ الزَّهْرَةِ. فَاضْطُرَّ الأَبُ إِلَى تَنْظِيفِهَا، أَمَّا الزَّهْرَةُ فَقَدْ أَحْزَنَهَا ذَلِكَ لَكِنَّهَا كَتَمَتْ حُزْنَها واسْتَمَرَّتْ فِي وَفَائِهَا لِصَدِيقِهَا.
وتَكَرَّرَ ذَلِكَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ حَتَّى انْشَغَلَ الأَبُ وظَنَّ أَنَّ وحيدًا قَدْ عَادَ إلى سَابِقِ تَهَاوُنِهِ. فَعَادَ إِلى الحَكِيمِ، وقَصَّ عَلَيْهِ القِصَّةَ كَامِلَةً. فَنَصَحَهُ بِأَنْ يَتْرُكَ ابْنَهُ وشَأْنَهُ معَ زَهْرَتِهِ، وأَلاَّ يُنَظِّفَ ما يَتْرُكُهُ مِنْ وَسَخٍ. فَفَعَلَ الأَبُ كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِ الحَكِيمُ.
وتَرَاكَمَتْ الأَوْسَاخُ حَوْلَ الزَّهْرَةِ المِسْكِينَةِ فَذَبُلَتْ أَوْرَاقُهَا وارْتَخَى عُودُهَا وخَبَا أَرِيجُهَا وسَكَنَ صَوْتُهَا. ولاَحَظَ وحيدٌ ذَلِكَ فَرَاحَ يَسْأَلُهَا عَنْ حَالِهَا فَلاَ تُخْبِرُهُ بِالحَقِيقَةِ. وسَأَلَ أَبَاهُ مَرَّاتٍ ومَرَّاتٍ، لَكِنَّ الأَبَ اعْتَذَرَ عَنِ الإِجَابَةِ وقَالَ إِنَّهُ لاَ يَعْرِفُ السَّبَبَ. وظَنَّ وحيدٌ أَنَّ نَبْتَتَهُ تَحْتَاجُ المَزِيدَ مِنَ الغِذَاءِ، فَضَاعَفَ لَهَا كَمِّيَةَ المَاءِ والسَّمَادِ لَكِنْ دُونَ جَدْوَى, حَتَّى لَوَتْ الزَّهْرَةُ عُنُقَهَا وقَارَبَتْ الهَلاَكَ.
وعِنْدَهَا حَزِنَ وحيدٌ حُزْنًا شَدِيدًا، وجَلَسَ قُرْبَ زَهْرَتِهِ يَبْكِي ويَنْتَحِبُ ولاَ يَدْرِي مَا يَصْنَعُ. فَلَمَّا رَأَتْ الزَّهْرَةُ حُزْنَ صَدِيقِهَا أَشْفَقَتْ عَلَيْهِ وقَرَّرَتْ إِخْبَارَهُ بِالحَقِيقَةِ. فَخَاطَبَتْهُ بِصَوْتٍ وَاهِنٍ:
- مَا بِكَ تَبْكِي؟ يَا صَاحِبِي العَزِيزَ.
فَشَعُرَ وحيدٌ بِبَعْضِ الارْتِيَاحِ لأنَّ زَهْرَتَهُ تَكَلَّمَتْ أَخِيرًا. وأَجَابَهَا:
- إِنِّي حَزِينٌ لأَنَّكِ سَتَمُوتِينَ وتَتْرُكِينَنِي وَحِيدًا.
- أَلَمْ تَعْرِفْ السَّبَبَ؟
- لَقَدْ فَكَّرْتُ وسَأَلْتُ ولَمْ أَعْرِفْ. وحتَّى أَنْتِ رَفَضْتِ إِخْبَارِي.
– سَأُخْبِرُكَ. لَقَدْ لَوَّثْتَ تُرْبَتِي بِمَا تَرَكْتَهُ مِنْ أَوْسَاخٍ حَوْلِي فَتَسَمَّمْتُ ومَرِضْتُ، وإِذَا لَمْ تُخَلِّصْنِي مِنْ جَمِيعِ الأَوْسَاخِ اسْتَفْحَلَ بِي الدَّاءُ وهَلَكْتُ.
فازْدَادَ وحيد غَمًّا وعَوِيلاً عِنْدَمَا أَدْرَكَ أَنَّهُ المَسْؤُولُ عَمَّا أَصَابَ زَهْرَتَهُ، وشَعَرَ أَنَّهُ نَاكِرٌ لِلْجَمِيلِ بِإِسَاءَتِهِ إلى الزَّهْرَةِ الَّتِي لَمْ تُعْطِهِ إلاّ الخَيْرَ. لَكِنَّ الزَّهْرَةَ مَدَّتْ إِحْدَى أَوْرَاقِهَا المُرْتَعِشَةِ ومَسَحَتْ بِهَا دُمُوعَهُ وقَالَتْ لَهُ بِصَوْتِها الضَّعِيفِ:
- هَيَّا يا صَدِيقِي، كُفَّ عَن البُكَاءِ، فَلَسْتَ وَحْدَكَ من يُلَوِّثُ النَّبَاتَاتِ، بَلْ أَغْلَبُ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. هَيَّا، ارْفَعْ أَوْرَاقِي وانْظُرْ فِيهَا لِتَرَى مَا يَفْعَلُهُ بَنُو الإنْسَانِ بِالطَّبِيعَةِ.
فَأَخَذَ وحيد يَرْفَعُ الأَوْرَاقَ الذَّابِلَةَ فَيَجِدُ فِي كَلِّ وَرَقَةٍ مَشَاهِدَ تَتَفَطَّرُ لَهَا القُلُوبُ لِمَا يُصِيبُ الحَدَائِقَ مِنْ تَلَفٍ وتَلَوُّثٍ. فالرَّوَائِحُ كَرِيهَةٌ والأَغْصَانُ مَكْسُورَةٌ والأَزْهَارُ مَرْفُوسَةٌ بِالأَقْدَامِ ونُفَايَاتُ البْلاَسْتِيكِ في كُلِّ مَكَانٍ...
تَوَقَّفَ وحيد عن البُكَاءِ وأَسْرَعَ يُنَظِّفُ نَبْتَتَهُ ويَعْزِقُ تُرْبَتَهَا ويُزِيلُ أَوْرَاقَهَا المَيِّتَةَ ويَسْقِيهَا ويُسَمِّدُها مِنْ جَدِيدٍ. وما إنْ أَتَمَّ عَمَلَهُ حتَّى أَخَذَتْ النَّبْتَةُ تَسْتَفِيقُ وتَسْتَعِيدُ عَافِيَتَهَا. فَفَرِحَ وحيدٌ أَيَّمَا فَرَحٍ، وقَطَعَ على نَفْسِهِ عَهْدًا أَلاَّ يَعُودَ إلى تَلْوِيثِ الحَدِيقَةِ أَبَدًا.
وعَادَتْ الزَّهْرَةُ إلى سَابِقِ تَأَلُّقِهَا ومَشَاهِدِهَا الجَمِيلَةِ وأحَادِيثِهَا المُشَوِّقَةِ تَقُصُّهَا على صَدِيقِهَا كُلَّ يَوْمٍ. ورَأَى الأَبُ حِرْصَ ابْنِهِ على نَظَافَةِ الحَدِيقَةِ فَسُرَّ بِهِ وازْدَادَ لَهُ حَبًّا واحْتِرَامًا.
لَكِنَّ وحيدًا ظَلَّ يَحْمِلُ في قَلْبِهِ حُزْنًا دَفِينًا لَمْ يَسْتَطِعْ التَّخَلُّصَ مِنْهُ، لأَنَّهُ بَقِيَ دَائِمَ التَّفَكُّرِ في مَا شَاهَدَهُ في أَوْرَاقِ زَهْرَتِهِ مِنْ قَسْوَةِ النَّاسِ في مُعَامَلَةِ النَّبَاتَاتِ. وقَدْ تَعَمَّقَ حُزْنُهُ لأَنَّهُ صَارَ يَنْصَحُ أَصْدِقَاءَهُ في الحَيِّ وفي المَدْرَسَةِ بِالإِحْسَانِ إلى النَّبَاتَاتِ، لَكِنَّ أَحَدًا لَمْ يَسْتَمِعْ إِلَيْهِ. فَلَمْ يَكُنْ يُخَفِّفُ عَنْهُ غَيْرُ مُوَاسَاةِ زَهْرَتِهِ. فَقَدْ كانَ يَشْكُو إلَيْهَا إِهْمَالَ رِفَاقِهِ فَتَرُدُّ عَلَيْهِ قَائِلَةً:
- لا عَلَيْكَ، فالطَّبِيعَةُ قَادِرَةٌ على المُقَاوَمَةِ والصُّمُودِ في وَجْهِ كُلِّ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ التي تَتَعَرَّضُ لَهَا، ولِذَلِكَ سَيَسْتَمِرُّ سِحْرُهَا وخَيْرُهَا رَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ.
لَكِنَّ الزَّهْرَةَ المِسْكِينَةَ كَانَتْ تُدْرِكُ أَنَّها تُخْفِي الحَقِيقَةَ المُفْزِعَةَ إِذَا تَمَادَى النَّاسُ في العَبَثِ بالطَبِيعَةِ.
وبَقِيَ وحيدٌ حَزِينًا على الحَدَائِقِ مُفَكِّرًا في تَعَاسَتِهَا حَتَّى اهْتَدَى إلى فِكْرَةٍ أَذْهَبَتْ الحُزْنَ مِنْ قَلْبِهِ. فَسَارَعَ يُحَدِّثُ بِهَا زَهْرَتَهُ:
- أَبْشِرِي يا زَهْرَتِي الغَالِيَةَ.. لَقَدْ وَجَدْتُ الحَلَّ لإِنْقَاذِ الحَدَائِقِ مِنْ عَبَثِ النَّاسِ.
فَرَدَّتْ الزَّهْرَةُ وقَدْ آلَمَهَا تَذَكُّرُ مَا تَتَعَرَّضُ لَهُ أَخَوَاتُهَا النَّبَاتَاتُ فِي بَقِيَةِ الأَمَاكِنِ:
- ومَاذَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَفْعَلَ لِهَؤُلاءِ المُهْمِلِينَ العَابِثِينَ؟
- بِإِمْكَانِنَا أَنْ نَفْعَلَ الكَثِيرَ إِذَا تَعَاوَنَّا.
فَالْتَمَعَ لِلزَّهْرَةِ بَصِيصُ أَمَلٍ، وقَالَتْ لَهُ:
- هَيَّا حَدِّثْنِي عَنْ الحَلِّ الَّذِي وَجَدْتَهُ وسَأُسَاعِدُكَ بِمَا أَسْتَطِيعُ، فَلَعَلَّ الْفَرَجَ يَأْتِي على يَدَيْكَ.
فَتَحَمَّسَ وحيدٌ، وقَالَ لَهَا:
- ما رَأِيُكِ في أنْ تُعْطِينِي بُذُورَكِ فَأُوَزِّعَهَا على جَمِيعِ مَنْ أَعْرِفُهُمْ حَتَّى يَزْرَعَ كُلُّ وَاحِدٍ زَهْرَةً عَجِيبَةً فَتُعَلِّمَهُ احْتِرَامَ النَّبَاتَاتِ كَمَا عَلَّمْتِنِي..
فَفَرِحَتْ الزَّهْرَةُ فَرَحًا عَظِيمًا، وأُعْجِبَتْ بِذَكَاءِ وَحِيدٍ وإِخْلاَصِهِ لَهَا ولأَخَوَاتِهَا. وقَالَتْ لَهُ:
- أَنَا مُوَافِقَةٌ. لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّنِي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُنْتِجَ البُذُورَ إِلاَّ عِنْدَمَا أَنْفُضُ أَوْرَاقِي وأَمُوتُ.
فَعَادَ وحيدٌ إلى حُزْنِهِ. لَكِنَّ الزَّهْرَةَ العَجِيبَةَ قَالَتْ لَهُ:
- لاَ عَلَيْكَ يَا صَدِيقِي.. فَبِاسْتِطَاعَتِكَ أَنْ تَزْرَعَ مِنْ بُذُورِي فَتَنْبُتَ لَكَ صَدِيقَاتٌ جَدِيدَاتٌ. أَمَّا أَنَا فَبَعْدَ أَنْ أُعْطِيَ البُذُورَ أَكُونُ قَدْ أَدَّيْتُ مُهِمَّتِي وأَتْمَمْتُ وَاجِبِي، ولا بُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ حَيَاتِي.
فَاطْمَأَنَّ وحيدٌ عِنْدَهَا وتَذَكَّرَ أَنَّ أَبَاهُ يُجَدِّدُ نَبَاتَاتِ الحَدِيقَةِ بَعْدَ أَنْ تَمُوتَ بِإِعَادَةِ بَذْرِهَا مِنْ جَدِيدٍ. واتَّفَقَ مَعَ زَهْرَتِهِ ووَدَّعَهَا وَدَاعًا حَارًّا.
وبَعْدَ بِضْعَةِ أَيَّامٍ أَنْهَتْ الزَّهْرَةُ العَجِيبَةُ حَيَاتَهَا بِسَلاَمٍ. فَقَطَفَ وحيدٌ البُذُورَ، ووَزَّعَهَا على كُلِّ تَلاَمِيذِ المَدْرَسَةِ وسُكَّانِ الْحَيِّ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُمْ بِقِصَّةِ زَهْرَتِهِ. ورَغْمَ أَنَّ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوهُ في البِدَايَةِ فَقَدْ لاَحَظَ بَعْدَ مُدَّةٍ أَنَّ الْجَمِيعَ أَصْبَحُوا يُنَادُونَهُ بِصَدِيقِ الطَّبِيعَةِ، كَمَا اكْتَشَفَ أَنَّ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ أَصْبَحُوا يُشَارِكُونَهُ في الدِّفَاعِ عَنْ النَّبَاتَاتِ.