الثلاثاء ٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٣
إنه الأستاذ (محمد عفيفى) ..
بقلم أحمد كمال الوكيل

الساخر العظيم ـ أديب وزنه ذهب

أحمد كمال الوكيل ـ مصر

حديثنا اليوم يا سادة عن كاتب .. ولكنه ليس بكاتب عادى .. إنه كاتب ساخر .. ساخر إلى درجة أن يطلق عليه الأستاذ (محمود السعدنى) نفسه لقب (الساخر العظيم) .. من هو ذلك الساخر العظيم يا ترى ؟!

نعم إنه الأستاذ (محمد عفيفى) ..

كثير منا لا يعرفه .. وأكثرنا لم يقرأ أعماله .. فشأنه فى هذا الأمر شأن رائد الخيال العلمى العربى الأول بلا منازع أستاذ (نهاد شريف) .. العثور على عمل لأى منهما يستلزم أن تكون قارئا من طراز خاص .. طراز أشبه بصياد اللآلىء .. يعرف كيف يغوص فى الأعماق ويخرج ومعه درة فريدة من تلك الدرر التى كتبها أى من هذين الكاتبين الرائعين .. ولكنى سبق وأن تحدثت قبل ذلك عن الأستاذ (نهاد) .. فلأبدأ إذن وأحدثكم عن صاحب هذا المقال .. الساخر العظيم ـ محمد عفيفى ..

ولد الأستاذ (محمد حسين عفيفى) فى 25 فبراير 1922 م ، فى قرية تدعى قرية الزوامل بمحافظة الشرقية بجمهورية مصر العربية .. ولقد حصل على ليسانس الحقوق عام 1943 م ، ودبلوم الصحافة عام 1945 م .. تزوج فى نفس يوم عيد ميلاده ـ وهو أختيار جميل ، فالزواج يعد الميلاد الثانى للإنسان ـ عام 1950 م من السيدة إعتدال الصافى وأنجب ثلاثة أبناء .. الدكتور (عادل) طبيب ، والمهندس (نبيل) ، والأستاذ (علاء) المحامى .. ولقد توفى فى يوم 5 ديسمبر 1981 م بعد صراع ساخر مع المرض الخطير ! ..

وحتى أستطيع أن أوضح لكم من هو (محمد عفيفى) هذا الذى أتحدث عنه .. يكفى أن تقرأوا معى الآن خبر نعيه الذى كتبه هو بنفسه وأوصى بألا ينشر فى صفحة الوفيات بالطريقة العادية التى ينشر بها النعى .. وإنما كخبر خفيف ظريف أشبه بـ (نص كلمة) الشهير ، التى يكتبها الكاتب الكبير ـ والساخر أيضا ـ أستاذ (أحمد رجب) .. هاكم يا سادة خبر وفاة (محمد عفيفى) الذى قد كتبه بنفسه ـ قبل أن يرحل طبعا !!

 " عزيزى القارئ :
يؤسفنى أن أخطرك بشىء قد يحزنك بعض الشىء وذلك بأننى قد توفيت ، وأنا طبعا لا أكتب هذه الكلمة بعد الوفاة (دى صعبة شوية) وإنما اكتبها قبل ذلك ، وأوصيت بأن تنشر بعد وفاتى ، وذلك لإعتقادى بأن الموت شىء خاص لا يستدعى ازعاج الآخرين بإرسال التلغرافات والتزاحم حول مسجد عمر مكرم حيث تقام عادة ليالى العزاء .

وإذا أحزنتك هذه الكلمات ، فلا مانع من أن تحزن بعض الشىء ، ولكن أرجو ألا تحزن كثيرا . "

وهكذا .. يودع (محمد عفيفى) من أحبوه من القراء والأصدقاء .. ليرسم الابتسامة على شفاههم كما كانت عادته دائما فى حياته .. فيجعلها أيضا رسالته بعد مماته .. ولقد تم تنفيذ الوصية .. فلا نعى .. ولا عزاء .. ولا حزن إلا حزن باسم على ذلك الذى عاش يرسم البسمة على الشفاة بأسلوب يعجز عنه أكبر الأدباء الساخرين ..

فمن يقرأ أعمال (محمد عفيفى) لابد وأن يرى فيها لمسة خاصة لا تتوافر لأى كاتب آخر مهما ذاعت شهرته .. ولكن شهرة (محمد عفيفى) كانت ومازلت محدودة .. والسبب أن سخريته كانت هى أيضا من طراز خاص .. طراز لا يفهمه إلا الأذكياء والمثقفين .. ولست أقول هذا الكلام عن غرور .. فحتى لو كنت مثقفا قد تجد نفسك تقرأ إحدى العبارات لمحمد عفيفى ولا تفهم مغزى السخرية فيها .. وهذا يتوقف بالطبع على مدى ثقافتك وذكائك .. لكنك بقليل من التأمل يمكنك بعدها أن تضحك حتى تستلقى على قفاك من شدة الإبداع الذى تراه فى الصورة ، التى رسمتها لك يد (محمد عفيفى) ..

لو تتبعنا أعمال (محمد عفيفى) لوجدناها قليلة كمًا .. لكنها رائعة كيفًا وأدبًا .. فكاتبنا كان موسوعة ثقافية متنقلة .. عاشق للرحلات والتأمل .. ومن أشهر أعماله كتابه الرائع (تائه فى لندن) .. الذى حينما قرأته كادت تصيبنى كريزة من شدة الضحك تقتلنى قهقهة .. ولكن ليس الضحك فقط ما تكسبه من قراءة أعمال الساخر العظيم .. فهناك المعلومات العامة والطرائف والثقافة الجغرافية والتاريخية أيضا .. وكذلك فلسفته الشديدة للأشياء وهى أهم ما يميزه .. وذلك يتضح فى باقى أعماله :

ـ أنوار (مجموعة قصصية) ـ التفاحة والجمجمة (مسرحية) ـ بنت اسمها مرمر (قصة) ـ فانتازيا فرعونية (رحلات) ـ شلة الحرافيش (قصة) ـ سكة سفر (رحلات) ـ وسلاسل مقالاته (ابتسم من فضلك) ، (ابتسم للدنيا) ، (ضحكات عابسة) ، (ضحكات صارخة) ، (للكبار فقط) ..

ورائعته الأخيرة التى نشرت بعد وفاته .. وتعد أروع ما كتب بحق .. فهى تأملات رجل ينتظر الموت .. وروحه تشف .. فتراه يحدث جميع الكائنات المحيطة به من طير وشجر ونسمات هواء حتى .. تلك الصورة القلمية تسمى :
(ترانيم فى ظل تمارا) ..
بالطبع أنا لم اقرأ له كل هذه الأعمال ، فالعثور على أعماله صعب جدا كما سبق وأن ذكرت .. ربما قرأت نصفها تقريبا .. لكن كتاب واحد تقرأه لذلك العبقرى يكفى لأن تدمن أعماله إدمانا ، وتتمنى لو كان قد كتب ألفى كتاب لعلك تستطيع قراءتهم قبل أن يوافيك الأجل ..

يكفى أن نعلم أنه كان من تلك الشلة التى كونها أديب مصر العالمى أستاذ (نجيب محفوظ).. شلة (الحرافيش) .. وكان صديقا عزيزا لذلك الأخير .. بل أن (نجيب محفوظ) نفسه هو من اختار ذلك الاسم لكتابه الأخير .. فلقد تركه بلا عنوان ولم يمهله الأجل حتى يتمه كاملا .. ورغم ذلك أتى صورة فى غاية الجمال والروعة ..
ويكفى أيضا أن نعلم أن (محمد عفيفى) كان له أبرز الأثر فى إخراج أديب على انضج مستوى من العلم والثقافة .. هو أديبنا الشاب ـ وأستاذى العزيز ـ (د. أحمد خالد توفيق) .. ولقد أشار دكتور (أحمد) بنفسه عدة مرات أنه يعتبر الأستاذ (محمد عفيفى) أستاذه الذى أجاد أسلوبه وتفوق فيه أيضا .. بل إننا لا نخطئ إذ قلنا أن (د. أحمد) هو التلميذ الذى تفوق على أستاذه ، بحكم الزمن وتغيراته وأسلوبه الخاص به المتعمق فى العلوم الطبية، واستخدامه السخرية الرائعة فى مجال أدب الرعب الذى لم يسبقه إليه كاتب عربى من قبل سوى لمحطات عابرة ..

ولكن يبقى أن نقول أنه لولا أساتذتنا ما كنا نحن .. ولولا الماضى لما كان الحاضر ولم يكن ليشرق علينا فجر يوم جديد وإلا ويحيى سابقه .. فدعونا نحيى معا ذلك الكاتب الرائع .. والساخر العظيم .. أستاذ (محمد عفيفى) ..

أحمد كمال الوكيل ـ مصر

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى