الاثنين ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم سعيد بلمبخوت

السيدة الطيبة

عندما لاح ضوء الصباح لاحظ بان لون النهر تغير بعض الشيء، كان بالأمس داكنا بسبب الأمطار الغزيرة المصحوبة بالعواصف الرعدية، لم تنقطع لمدة أسبوع كامل. سرعة جريان النهر هدأت بعض الشيء وبدا يحس بدوره بشي من الهدوء والاطمئنان.

مند ثلاثة أيام وهو فوق المركب بمجرى النهر، كان القارب عبارة عن ألواح جمعها من الغابة ،سرعة الانجراف ما زالت تشكل خطرا على حياته بالرغم أن المرحلة الحرجة قد تم تجاوزها مند البارحة. قاوم بكل جهد المنحدرات والصخور قبل أن يصل إلى هدا المكان من مجرى النهر.بدأت ضفتي النهر تبتعدان من بغضهما وأصبح وسط بحيرة هادئة. كان يتفادى الابتعاد عن الشط، واحتار في الأول ما بين الضفة الشمالية والضفة الغربية. ومع الحيرة في اتخاذ الوجهة قرر أن يرسو بقاربه بعض الوقت لاخد قسط من الراحة و البحث عن شيء يطفئ به نار جوعه.

أخد وجهة الضفة الشمالية لان عدوه تركه في الجهة الأخرى، وبدا يجدف بتأني وحيدا. بالأمس كانت المياه الجارفة تدفعه وكان المجداف وسيلة لتفادي الصخور وتقويم الاتجاه، أما اليوم فكان يلزمه شيئا من القوة للدفع بالمركب على المياه الهادئة.

أحس بتعب شديد ،لم يقو على الاستمرار في التجديف واتكأ جانبا لاخد قسط من الراحة.كانت الضفة الشمالية على مسافة مائي متر تقريبا، أما الضفة الأخرى فلا يمكن رؤيتها وبالأحرى تقدير بعدها.

هرب من المجهول إلى مكان مجهول، هرب من الظلم للبحث عن مكان أخر لعله يجد فيه قسطا من الرحمة والعدل.

نام نوما ثقيلا من شدة التعب وألم التفكير في الماضي. استفاق مذعورا لما اصطدم القارب بصخرة على الشط الشمالي.هدأت من روعه حسناء كانت بالقرب تجمع الغسيل بجانب الصخرة.كانت تترقب القارب وصاحبه ،كانت تظن في أول الأمر انه جثة هامدة.

حاول دون جدوى الرجوع إلى المياه العميقة لمواكبة التجديف، لكنه أحس بان يداه لم تقو من شدة التعب، نظر نظرة خفيفة نحو الحسناء التي بادرت إلى جر المركب ما بين صخرتين ومدت له يدها لتساعده على الوقوف خارج على اليابسة.

الذي كان بالأمس قويا يواجه انجراف المياه بقوة بعدما قاوم الأعداء، في هده اللحظة يستسلم لعطف امرأة تمد له يدها لتنقده. ما بين الأمل في انقاد حياته وبين الحذر من العدو أحس وهو في شبه غيبوبة بنوع من الاطمئنان في اللمسات الرقيقة وهي تهدئ من روعه وألمه.

شتان بين الشعور بالرعب والاغتراب وبين الإحساس بنعمة الهدوء والاطمئنان بين الأحباب. وشتان بين التمتع بالقوة الجسدية والنفسية وبين الانهيار في بعض اللحظات. أن تجد يدا بيضاء تشع بالرحمة تمد لك في تلك اللحظات. أكيد أنها ستبقى مرسومة في الذاكرة لن تنسى.

كانت امرأة في غاية من الجمال لم يرى نظيرها إلا في أحلامه، يبدو أنها وحيدة مع ابنتها ذات الخمس أعوام، من خلال نظراتها كان يرى الطيبوبة التي لم يعهدها إلا في المرحومة والدته التي بالكاد يتذكر ملامحها.

لعدة أيام أعطته كامل العناية . تعافى من مرضه وأصبح قادرا على الوقوف. لم يجد الكلمات التي يريد بها أن يبلغ امتنانه على مدى الاهتمام به في بيتها.

 المعذرة سيدتي أكيد أني أتعبتك، يكفي كل ما قدمتيه لي من عناية، خاطبها بكلمات متقطعة.

 لم أقم إلا بالواجب، لكن لا يمكنك متابعة رحلة قبل أن تتعافى بالكامل، ردت عليه بابتسامة.

دخلت البنت مبتهجة لسماعها الغريب يتكلم لأول مرة. صبية ظريفة أخدت من حسن أمها ولطفها واقتربت من الغريب لتنظر في عينيه.تركت البنت بجانبه تتأمل في نظرات الغريب وخرجت لتعد بعد لحظات بين يديها شيئا من الأكل.

كانت تريد معرفة قصة الغريب وانتظرت الفرصة لتسأله دون إحراجه.

كانت تستعد للرحيل لما دلته على مكان المئونة. نادت على صغيرتها لتصعد إلى السيارة رباعية الدفع.انطلقت بهدوء في اتجاه المدينة وبقي أمام الباب حائرا يراقب السيارة تبتعد إلى أن انغمست وسط ألأشجار.
تسمر في مكانه ليسترجع مجريات الإحداث مند وصل إلى هدا المكان الهادئ الذي وجد فيه كامل الرعاية والطيبوبة المنقطعة النظير.خيل إليه انه كان يحلم وصحا للتو من حلم جميل انقطع خيطه واستفاق بقلب يخفق.

توقف شريط الإحداث وهدا خفقان قلبه وتوجه إلى ضفة النهر.بحث عن القارب ووجده على حاله ما بين الصخور. كان يحاول ترميم ما أفسدته الصخور، تفاجأ بوجود رسالة معلقة على القارب.

"إدا قررت الرحيل، حفاظا على حياتك، خد زورق بالكاياك من المخزن".

قرأ الرسالة عدة مرات محاولا تأويل معناها، تخيل عدة سيناريوهات لفك لغز تلك السيدة الطيبة التي تركته في بيتها بعدما أعطته عطفها وعنايتها. تغلب عدة مرات عن رغبته في ترك هدا المكان الهادئ. حاول ركوب الزورق ليتغلب عن رغبته في البقاء، دخل إلى أعماق النهر. توقف ليتأمل في جمال البيت بنوافذه الزرقاء وقرميده الأحمر، يلوح وحيدا بين الأشجار الخضراء على الضفة الشمالية، الجبل من ورائه تغطيه خضرة الغابة وعلى القمة يلوح بياض الثلج.

واسترجع ملامح السيدة الطيبة التي كانت قبل لحظات تزيد المكان حيوية ورونقا.أخد يجدف بالكاياك بحركات متتالية، وفي كل لحظة يلتفت ليلقي نظرة أخيرة على دلك المكان الرائع.توقف عن التجديف لكي لا يزعج إوزة الماء مع صغارها التي كانت تسبح بهدوء تاركة ورائها موجات رقيقة على سطح الماء.

تابع مدة من الزمن دلك المشهد الرائع ،استرجع صورة السيدة الطيبة وصغيرتها ،وفي لحظة لا شعور قرر إرجاء رحلته إلى غاية معرفة أسرار تلك الإنسانة الرائعة.

تمر الأيام وهو ينتظرها ،كل يوم تغيب خيوط شمسه يغيب معها الأمل في إطلالة السيدة الطيبة.بدا يتجرأ داخل البيت في البحث عن أشياء من شانها أن تساعده عن معرفة إسرارها.

في طرف سنة أو يزيد من الانتظار ألف المكان بالرغم من الوحدة الموحشة. اختلطت عليه الأمور ولم يعد يعي لمادا لم يستمر في رحلته على النهر. كان هاربا من العدو نحو وجهة لا يدريها. ألصدفة هي التي جاءت به إلى هدا المكان الذي ارتبط به لا لشيء إلا تلك النظرات اللطيفة التي اعتنت به حتى تعافى من مرضه. لكنه ألان في صحة جيدة ويمكنه الاستمرار...

لكن إلى أين؟ هل يمكنه أن يستمر في وحدته ينتظر طيف امرأة قد تأتي أو لا تأتي...
ياخد كامل وقته لإتقان اللوحات التي يرسمها على ضفة النهر. صورة السيدة الطيبة لا تخلو في أغلبية الرسومات الرائعة.

كان يفكر على طول الوقت أن يتابع الرحلة على النهر، لكنه اليوم أخد يفكر لمادا لا يأخذ وجهة أخرى. على الأقل أن يتبع الطريق التي مرت منها السيدة الطيبة، أكيد أنها تؤدي إلى مكان ما، قد يجد أثرها في مكان ما.

تعب من الانتظار ولم يعد قادرا على الاستمرار في هواية الرسم وقرر الذهاب عبر الطريق التي سلكتها السيدة الطيبة. كانت له دراية كافية في الميكانيك، عمل على إصلاح الشاحنة الصغيرة.لم لوحاته بعناية واخذ الوجهة التي مرت منها،كانت المسافة طويلة وسط الأدغال ولم يجد بعد أية حركة إنسانية.من حسن الحظ أن الشاحنة كان فيها ما يكفي من الوقود لقطع مسافة نصف يوم، بدا يحس بنوع من الخوف من عدم اللحاق بمحطة قبل أن ينفد الوقود.
أخيرا وجد الطريق المعبدة وتوقف ليستريح، لكنه لم يلاحظ أية حركة للسير طوال تلك المدة التي توقف فيها.سمع من بعيد صوتا،لاحت شاحنة تجر مقطورة،نهض مسرعا يلوح بيديه ليوقفها.كانت الحمولة من جذوع الأشجار عائقا لعدم توقف الشاحنة على الفور،توقفت بعد أن تجاوزته بمسافة كبيرة.ركب شاحنته والتحق بالسائق الذي توقف دون أن ينزل.كان يراقبه عبر المرأة.لما اقترب أخد بندقيته ونزل.في هده الأماكن النائية يكون الحذر سيد الموقف وكذلك فان التعاون بين السائقين من الواجبات.

نزل بدوره من شاحنته التي كانت تبدو قزما قرب الشاحنة الكبيرة، كانت هيئته تثير الشكوك، اقترب ببطء رافعا يديه من السائق الذي يوجه البندقية في اتجاهه.

 أريد المساعدة، الوقود.

اطمأن السائق ولف حول الشاحنة الصغيرة. لم يجد داخلها أحدا أخر، لفت انتظاره شيئا في المقطورة، جر الثوب من فوق اللوحات.خطف بصره صورة السيدة الرائعة في أول لوحة.
تبادلا النظرات ،اطمأن السائق وأمره بان يقترب من خزان الشاحنة.

 إنها الكمية التي تكفيك لتصل إلى اقرب محطة.

 شكرا سيدي لا توجد عندي نقودا لكن خد هده اللوحة.

كان السائق يريد أن يطلب منه بيعه لتلك اللوحة الرائعة التي شدت انتباهه، وكانت صورة السيدة الطيبة صورة ليست غريبة سبق أن رآها. تشبه تلك السيدة التي اعتنت به لمدة أسبوع عندما وجدته بين الحياة والموت في حادثة سير. أخد اللوحة واخرج من جيبه أوراقا مالية دون أن يطلب الفنان منه دلك.

لعبت تلك الأوراق المالية دورا هاما ليتكيف مع المحيط الجديد. تذكر بأنه لا يمكن العيش في المدينة دون مال.ما تبقى لن يكفيه لأكثر من أسبوع. كانت اللوحات هي كل رأسماله.كانت جد عزيزة على نفسه ولا يريد التفريط فيها. لكن للضرورة أحكام. على كل حال فإنها سوف تكون بين أيادي أمينة ومن الأحسن بيعها والعيش بثمنها في هده المدينة التي لا ترحم الفقير.

لقيت لوحاته شهرة كبيرة في المعرض، حاول التأقلم مع حياة المدينة لكن الحنين إلى الغابة وضفة النهر لا يزال يراوده. لم يألف التعايش مع الضجيج ولا نرجسية أفراد المدينة. الكل مشغول في دنياه ولا احد يبالي بالأخر، إلا بتلك النظرات الخاطفة والمملوءة بالحظر.

تمر الأيام وصورة السيدة الطيبة لا تفارقه، كان كلما مر من احد الشوارع الراقية وإلا يلفت نظره امرأة بئيسة تستجدي المارة لمساعدتها.كانت ملامحها وكذلك نظراتها ليست بغريبة. في نفس الوقت ونفس المكان كلما مر بجانبها يمدها بمساعدة ويمضي لشانه.لاحظ في احد الأيام بان صحة تلك البئيسة جد متدهورة، اقترب منها ليسألها أن كانت تريد المساعدة، خفضت نظراتها دون أن ترد. يتأمل مليا في ملامحها ويسترجع تلك اللحظات التي كان اشد الحاجة إلى المساعدة. ولقي أنداك من السيدة الطيبة ما يحتاج من الرعاية.
أخدها إلى اقرب عيادة، لم تكن حالتها تستدعي إلى العناية المركزة، كانت تحتاج إلى بعض الأدوية والكثير من الرعاية.أمام بيتها سألها إن كان يوجد في البيت من يعتني بها. ردت بلطف بان الله يرعاها.

أول ما لفت انتباهه هو الصورة المعلقة على الحائط. شابة رائعة الجمال وبجانبها صغيرتها. ينظر في الصورة تم يقارن بين بينها وبين المرأة التي جلست أمامه تحاول استرجاع بعض ما تبقى من قوتها، تقرب منها وقلبه يكاد يتوقف ،ساعدها في أخد دوائها وانحنت لتستلقي على الأريكة، ألقى عليها غطاء لتدفئتها وجلس أمامها دون أن يلفظ بكلمة.

لم يكن يتصور أن يجد طوال هده السنوات من البحث والانتظار تلك السيدة الطيبة على هدا الحال من البؤس والانهيار. تعرف عليها من خلال تلك الصورة المعلقة، وشتان بين جمال شبابها في الصورة وبين المرأة الشاحبة أمامه.

 سيدتي هل تتذكرينني؟

 لا أنت رجل طيب،شكرا على المساعدة.

نامت السيدة الطيبة،وبقي بجانبها لعدة ساعات يسترجع أول يوم رأى فيه وجه تلك السيدة الطيبة وهي ترعاه لعدة أيام.

قدم لها بدوره ما يلزم من الرعاية والاهتمام، كانت فاقدة للذاكرة. نسيت الماضي ولم تعد تتذكر أحدا. تنكر لها الجميع على ما يبدو. من كثرة عدم الاهتمام بنفسها فقدت نظارة دلك الوجه الذي كان بالأمس يبهر الناظرين.

كان لديه ما يكفي من المال لمعالجة السيدة الطيبة في أحسن المستشفيات. قام بما يلزم في أمل أن تسرجع ذاكرتها.

يوما بعد يوم تسترجع جمالها، بعد عام من العلاج بالرغم من تحس صحتها لم تسترجع ذاكرتها بالرغم من عرضها على اكبر الاختصاصيين.

كانت جالسة كعادتها أمام البيت قرب النهر، وقفت تنتظر عودته من جولته على الزورق. كان الجو حارا اقتربت من الماء البارد و بدون شعور ارتمت داخل النهر. كأنها استفاقت من نوم عميق، أحست بمزيج من السعادة والرعب.رأت القارب وسط النهر،سبحت في اتجاهه. أخد يدها وهدا من روعها.

 أين ابنتي؟

استرجعت ذاكرتها...

عاشت باقي حياتها على ضفة النهر مطمئنة البال في قصر فسيح بالقرب من المنزل المتواضع التي تم الاحتفاظ به للذكرى ...برفقته قضت أياما سعيدة تتخللها أحزان فقدان صغيرتها في الحادثة. كان فقدان الذاكرة حلقة مظلمة في مسار حياتها... في أخر أيامه لم يعد يهتم بالرسم كعادته، السبحة بين أنامله يتمشى بهدوء في حديقة القصر على جانب النهر.كان مرتاح الضمير وهو يستقبل السيدة الطيبة تعود من رحلتها في الأرياف من اجل الرعاية والدعوة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى