الشجرة الوفية
عاش فيِ سنة من سنوات الجذب الشديد جاران، خلّفهما إِمساك السماء مدة سنتين متتاليتين للفقر والعزلة، بعد أن قضى العطش على الزرع والضرع، وطرد أهل القرية نحو المدينة.
لم يكن للجارين ملاذ خارج القرية مثل الباقين، كما أنهما كانا موقنين أن الرحمة لا تهاجر للأبد كالناس، ولذلك عقدا عزمهما على البقاء والصبر، وتوكلا بعد الله على اتحادهما، بما في ذلك تقريرهما التشارك في نفس المسكن، ليسهل تعاونهما على تجاوز تلك المحنة.
حاولا بدءا أن يؤمِّنا حاجتهما من الماء الشروب، أما بخصوص المأكل فإنهما خططا أن يكتفيا بوجبة واحدة في اليوم، كان سيكفيهما أن يتناولا خلالها ضبا لكل منهما، وقليلا من رؤوس الكراث البري الذي كان وحده القادر من ضمن فصيلة النباتات هذه المرة على الصمود في وجه التصحر الزاحف، بإجادته لاختبائه مثل الضب أيضا على عمق معين في الأرض يضمن الرطوبة والنجاة، ويبدو أنهما أفادا منها في هذا الصدد، إلى جانب فائدتها الغذائية، إذ عرفا بفضلها كيف يجيدان بحثهما عن الماء، حيث أصبحا يدركان أن تجمع أكثر من الخمسين أو الستين منها في حيز صغير يعني توفر الماء على أبعاد متوسطة، أما الضب فتعلما منه متى يخرجان من ظلهما ليشرعا في حفرهما.
مرت سنة أخرى والجاران على نفس حالهما من التعب، لا تكاد تجف بئر بعد شهر أو شهرين من حفرها حتى يشرعا في حفر أخرى، وحدث مرة أن صادفا أثناء الحفر منبث شجيرة زيتون تكابد للخروج، وفكر أحدهما أن تلك علامة على اقتراب الفرج، وأبدى رأيه بأن يرعياها بقليل من الماء ليمنحاها فرصتها هي أيضا من الحياة، بينما ظن الآخر أن ذلك لا يعدو كونه محاولة يائسة من الشجيرة لمنافستهما على البقاء:
– هذا الماء ليس فوق حاجتنا لنبذره، وأنا لن أسمح بأن نتقاسمه مع هذه الزيتونة البئيسة.
كان الغضب يكاد يمتلك منه كل عصب وهو يرمي برأيه حادا ومسموما في وجه جاره، حتى إنه حاول أن يقتلع شجيرة الزيتون من جذورها لولا تدخل جاره في آخر لحظة:
– أنا سأمنحها شيئا من حصتي في الماء.
وأجابه هو منصرفا إلى حفره من جديد:
– لو كانت من الأشجار التي قد نطمع أن تثمر قبل أن يقتلنا العطش بسببها لالتمست لك العذر فيما تريد أن تقدم عليه، ولكن يبدو أن الاجتفاف بدأ يزحف نحو عقلك أيضا.
وقبل أن يعود الجار العطوف إلى الحفر هو الآخر أخرج قربته الجلدية، وروى بنصف ما كانت تحويه من ماء شجيرة الزيتون متمتما لنفسه:
– لا تهم الثمار الآن، شيء من الخضرة قد يبقي أعيننا طرية، ويمحو السواد الذي بدأ يعرف طريقه نحو قلبينا، وهذا قد يفي بمساعدتنا على الصمود إلى أن نجني الثمار بعد سنتين أو ثلاث.
وصار يرعى الشجيرة كل يوم بإخلاص وحب، تقاسم معها ماءه على الرغم من عدم وفرته، واستمر يتصرف تجاهها وكأنها صاحب حميم، وكان جاره يزداد استياءه وعداءه له يوما بعد آخر، لاعتقاده أنهما لن يجنيا مقابلا من شجيرة الزيتون على المدى القصير سوى مرارة أوراقها التي أخبره جاره دفاعا عنها أن بإمكان المضمضة بمنقوعها أن تقضي على آلام الأضراس إذا ما أصابها التسوس، ولذلك نصحه أن يصاحبها بإحسان مثله، أما هو فرأى في المقابل أن الجفاف والعوز حرماهما من الأطعمة المسببة للتسوس، وأن الفائدة من منقوع أوراق الزيتون ستنتفي عندما لن يتوفر الماء أساسا لتنقع فيه، وكره صداقتها أكثر لأنها هي من كانت في نظره ستتسبب في ذلك النضوب، وفضل مصاحبة بندقية كان لا يفتأ يتباهى بكونها أنفع لهما من الشجيرة، لكونهما في نظره لا يمكنهما بغيرها أن يكونا في مأمن من الذئاب التي قادتها رائحتهما وجوعها من الجبل المجاور حتى وقفت على مشارف تهديد حياتهما.
– إنها حارسنا الوفي، قال يوما لجاره بزهو وافتخار، ثم أضاف بسخرية أنها لا تحتاج أن تسلبهما شيئا من حصتهما في الماء لكي تحميهما.
وهكذا غدا الجار المتيبس القلب ممسوسا بالسهر لتخوفه من تربص الليل بإغفائه، وبينما راحت البندقية تسلب منه راحته وتسهد نومه كانت الشجيرة تترعرع أمام عيني جاره وفرحه، وكان ذلك يسلي هذا الأخير عن جفاف الأرض والجار، ويجعل شيئا من الحزن والقلق يزايلان قلبه، لتشب محلهما الخضرة والابتهاج.
لم تمر أكثر من أيام معدودات حتى اكتشف الجار المتشائم أن بندقيته كانت صاحبا كسولا، تنام أيضا عندما ينام صاحبها، ولذلك وجد نفسه مضطرا أن يجلب واحدا من الكلاب المتشردة ليخفف عليه عبء الحراسة ليلا، بعد أن صار يسرق الإغفاء التيقظ عنوة من عينيه، غير أنه لم يفصح لجاره عن نيته وعزمه، وإنما نفذ قراره قاصدا أن يضعه أمام الأمر الواقع:
– سنربط أمام باب كوخنا هذا الكلب لنشدد الحراسة، قال له عندما رأى التساؤل يغمر عينيه.
ويبدو أن موافقة جاره على رأيه دون إبداء اعتراض شجعته ليطالبه أيضا بأن يعطي حصة الشجيرة من الماء للكلب، ولكن اقتراحه ووجه بالرفض، مما دفعهما أن يختلفا قليلا أول الأمر حول هذا الشأن:
– الكلب لن يحرسني وحدي، قال القاسي للعطوف، أنت أيضا ستنال حصة من الأمان والنوم.
وحاول أن يقنعه جاره بأن نفع الشجيرة قد يتجاوز شخصيهما ليعم كل الأرض، واقترح بأن يتخلى هو عن حصة من مائه لصالح الكلب، ولكنه لم يقتنع، وتماديا في أنانيته وغضبه صوب بندقيته نحو جاره وأخبره بأنه لا يخيره في ذلك، وظل كلاهما متشبثا بفكرته ورأيه إلى أن حسمت رصاصة غاضبة تلك المعركة.
عندما دوت الطلقة كاد أن يصم لها الجار الأهوج، وارتجف صدره حتى كاد قلبه أن ينقذف عبر حنجرته، ثم تحول كل ذلك إلى قبضة أخذت تشد على ضميره وتعصره عندما سمع لها صدى حوله ظن أول الأمر أن إحساسه بالذنب هو ما كان يردده في أذنيه تأنيبا له على فعلته، فإذا به ينتبه أن السماء هي التي كانت قد أخذت ترعد وكأن الطلقة حركت غضبها وغيظها.
كان الجار المصاب قد سقط على الأرض بالقرب من الشجيرة فاقدا لتوازنه، وقبض عليها بكل القوة التي منحه إياها الألم، ولكنها كانت لا تزال غضة وعاجزة لتستطيع أن تنتشله من موته.
ظلت يداه تمسكان بالشجيرة بقوة، حتى إن جاره عندما حاول التخلص من الجثة كي لا تبقى شاخصة أمام عينيه كالعقاب لم يجد بدا من أن يجتث معها كل الشجيرة من جذرها، وسحبهما إلى أقرب جوف كانا قد حفراه بحثا عن الماء، وهناك ردمهما، وكان وهو يقوم بذلك يوظف كل طاقته وسرعته صارخا نحو السماء:
– لا تجعليني أبدو كما لو أنني تسرعت، لماذا الآن وقد تأخرتِ بما يكفي لكي أفقد سيطرتي على أعصابي وأقتله؟ لماذا؟.. لماذا؟...
وكانت هي في تلك الأثناء قد أخذت تمطر بالفعل، مبدية بلا ريب بكاءها حزنا وأسى، وأنها إنما تغضب لتشفق أيضا.
مرت أشهر بعد ذلك، بدا خلالها أن الجار القاتل كان يحمل شيئا فشيئا عن الأرض ذبولها الذي كانت تطرده لتحل محله الخضرة والخصب.
كان في كل يوم يجر خطاه جرا إلى حيث وارى جثة جاره ويبكي، ولكن دموعه كانت تختلط بالأمطار العذبة مما لم يكن يبقيها بالملوحة الكافية لكي تنهك تقدم الشجيرة نحوه بكل الطاقة التي كانت تستمدها من صاحبها، حاملة معها سؤالا كثيفا كانت تتغذاه مع السماد وشوقها للهواء والشمس: لماذا؟.. لماذا؟...، وكأنها فقط أصداء مؤجلة عن سؤاله المتألم الذي لم يكن يني يردده أمام مدفن جاره كلازمة.
ولم يكن أمام الجار النادم أيما ندم فور أن أطلت عليه أولى أغصان الزيتونة ذات يوم وسمع سؤالها إلا أن هيأ بندقيته وصوب فوهتها نحو قلبه، ولكن كثرة إمطار السماء عطل زندها، وبالرغم من إلحاح سبابته بالضغط المتكرر لم تقتدح الشرارة لتفجر الطلقة التي كان يأمل أن تنهي عذابه، وهكذا ظل جاره يسمو يوما بعد آخر مطلا عبر الشجرة على الحياة المخضوضرة حوله كأنها قطعة من الجنة، بينما ظل يغرقه هو الندم في موت لا ينتهي.