

الصورة الممزقة
توقف القصف عدة أيام، كان الكثير من الناس ينوون النزوح إلى مكان آمن رغم أن غزة كلها لم تعد آمنة، فقد طالت طائرات الأعداء كل مكان فيها، ولكن يمكن أن يقال أن هناك أماكن أقل خطراً، هذا الهدوء الحذر أجّل الفكرة عند الكثيرين، فليس النزوح بالسهل، كما أن النزوح نفسه يجعل المدنيين فريسة سهلة لهؤلاء الحقراء الذين لا يفرقون بين مدني أو غير مدني!
أمها حامل في شهرها الأخير، ولا تستطيع الخروج، وأبوها قد مات، عندما قصف مقر عمله، ولها ثلاثة من الإخوة الصغار، خرجتْ؛ كي تشتري لأمها ولهم بعض الأشياء من السوق، كلما تمشي قليلاً، تنظر إلى السماء، إن السماء لأهل غزة أصبحت وحشاً، ومصدر خطر كبير عليهم، وأصبح صوت الطائرات كأنه صوت الموت، ولولا قوة إيمانهم وأنهم يعلمون أن فوق السماء رب أكبر من أي عدو ما سكنتْ في قلوبهم كل هذه البسالة، ولكانوا هزموا نفسياً من زمن، فالهزيمة العسكرية يمكن تعويضها، ويمكن الثأر في أي وقت من هذا المحتل البغيض، فخسارة معركة لا يعني خسارة الحرب، أما الهزيمة النفسية فهي الضربة القاضية لأي مقاوم وصاحب قضية، وهذا لن يحدث في غزة أبداً، فهم الطائفة التي لدينهم ظاهرون، ولعدوهم قاهرون، فهم في رباط إلى يوم الدين.
هل يمكن أن يتجدد القصف مرة أخرى؟؟ يقولون أن هناك هدنة، ومتى كانت إسرائيل تحترم الاتفاقات؟!! أو تنصاع للمجتمع الدولي؟!! فإسرائيل هي البلطجي الأكبر في هذا العالم، ويساعدها بلطجي آخر يملك من القوة الكثير ، بل ربما بدونه لأصبحت إسرائيل صفراً على الشمال، ولكنه يحاول أن يبدو في صورة ملاك، ولكن الجميع يعرفهما يعرف البلطجي الأكبر، والبلطجي الذي يساعده على ذلك في السر في أكثر الأحيان وفي العلن في بعض الأحيان، فلقد مزقت الأحداث أقنعة وجهه تماماً!!
فعلاً لقد تجدد القصف من جديد، رغم الهدنة التي حاولت بعض الأطراف أن تفعّلها، ولكن إن لم تخنْ إسرائيل فمن يخون؟!! فبعدما أحضرت البنت ما طلبته أمها من أشياء تقيم أودهم، وجدت القنابل تنهال على البيوت وعلى المارة، كأنها وحوش صنعها الشيطان بنفسه، وأهداها للبشر؛ كي يدمروا بعضهم البعض بأسهل وأسرع طريقة!!
اختفت البنت بين شجرة ضخمة في وسط الشارع، كان بينها وبين الموت أقل من القليل إلى درجة أن الصغيرة راحت تنطق الشهادتين أكثر من مرة، ورأت البيوت، وهي تنهار بيتاً وراء بيت، لقد ظنت أن القيامة قد قامت، تمنت لو أنها القيامة فعلاً ؛ كي يحاسب الله هؤلاء الأشرار على أفعالهم، ويشفي صدورهم مما فعلوه بهم.
وبعدما هدأ الأمر، وانتهى القصف، كأنما عادت لها الروح مرة أخرى، إن أهل غزة يموتون وهم على قيد الحياة في اليوم ألف مرة، يموتون خوفاً وترقباً وحزناً على أحبائهم، تمنت لو أن بيتها لم يكن قد قصف، فقد حدث الكثير من القصف قبل ذلك، ونجا بيتهم، تمنتْ أن ينجو هذه المرة، وأن تلد أمها في سلام، وأن يسموا المولود على اسم أبيها، كما تقول وتنوي أمها؛ تخليداً لذكراه....
مع كل خطوة تتقدم بها ناحية البيت، يخفق قلبها بشدة، وتزداد رعباً من هاجس أن بيتهم ربما يكون قد هدم، لقد كانت في رعب من هذا الهاجس أكثر من الرعب الذي عاشته وقت القصف.
لم تصدق ما حدث، لقد تم قصف بيتهم، والهاجس أصبح واقعاً، البيت الذي كان أجمل بيت في المنطقة أصبح مدمراً بالكامل، البيت الذي عاشوا فيه أجمل اللحظات قد مات، لقد قتل الأشرار بيتنا، أخذت البنت تصيح بهذه الجملة، لقد قتل الأشرار بيتنا، قتلوا بيتنا، ثم راحت تنادي بصوت ممزق تحاول أن ترتّقه... ماما... ماما... لقد أحضرت لك كل ما تبغين، إن كنت تسمعين صوتي ردي عليّ، لم تجد البنت من يرد عليها، ثم راحت تردد أمي أريد أن أرى إخوتي أريد أن أقبّلهم قبل أن يرحلوا، هل تسمعين صوتي يا أمي؟؟ لم ترد عليها أمها، فراحت تنادي على إخوتها، فلم يرد عليها أحد منهم، ولكنها رأت بين الركام صورة تجمعهم جميعاً، وكانوا في الصورة جميعهم يبتسمون، فاحتضنت الصورة، وراحت تقبّلهم.
وجاء النداء بين أهل المنطقة التي يقيمون فيها بضرورة النزوح إلى مكان آمن أو إلى مخيم، وأن على الجميع أن يخرجوا في الحال، خرج الناس، وتركوا أهلهم تحت الأنقاض، لم يدفنوهم حتى، ما أبشع هذا الرحيل! حتى أعز الناس عليك لا تستطيع دفنهم! كان هذا الموقف موقفاً صعباً على الجميع، ولكن لا سبيل لنجاة الباقين غير ذلك، فالعدو مصمم أن يخْلي تلك المنطقة من السكان، وقد ألقى عليهم منشورات بهذا الأمر، بعدما انتهى قصفه البربري، فخرج الناس إلى حيث لا يدرون، المهم أن يخرجوا من هذا المكان، فالعدو يريد تحقيق مكاسب إعلامية لشعبه على حساب المدنيين بعدما كبّده المجاهدون خسائر فادحة!
كانت البنت لا تريد أن ترحل عن بيتها المهدم، فكأنها تُخلع من جذورها، تريد أن تظل حتى لو ماتت بجوار أهلها، ولكن بعض الناس أخذوا يكفكفون دمعها، وأقنعوها بضرورة الرحيل، وأخذوها معهم في الطريق، وبعدما أخذ المسير منها ما أخذ، تعبت، فجلست بعض الوقت، وواصل من معها السير، على أمل أن تأتي خلفهم بعد هدنة قصيرة من أوجاع الطريق، ظلت جالسة تقبّل صورة عائلتها، وتبكي، حتى دخل عليها الظلام، فجاءها ذئب لا تعلم من أين أتى ولا كيف أتي؟!! ولكن لا وقت للتساؤل، الوقت في هذا الوقت لمقاومة هذا الذئب، فالذئب يريد أن يفترسها خلسة، فهي وحيدة، وستكون فريسة سهلة له، ولم يعد من أحد على الطريق، لم يكن بيدها سوى الصورة تخوّف بها الذئب، تقدم نحوها هذا الذئب الخسيس، وكأنه أعمى عن دموعها، بل رأى دموعها كأنها نداء له لافتراسها، وبرقت عيناه بشهوة الانتصار، فراحت تصرخ، وتصرخ، فلم يسمع أحد صراخها، وإذ بها تنادي على أبيها وأمها، وكأنهما من الأحياء، وسوف يأتيان وينقذونها من براثن الذئب، فلقد تعودت منهما أن يفعلا المستحيل لأجلها ولأجل إخوتها، ولكنهم ماتوا جميعاً، وكأنها لا تصدق أنهم ماتوا، كأنهم سوف يأتون... سوف يأتون.....
لم يعد معها سوى صورتهم، ترفع الصورة في وجه الذئب، وكأنهم معها في نفس الموقف، وهي تحاول أن تضربه بالصورة؛ لعله يرتدع أو يخاف، ولكن الذئب مازال يصر على افتراسها، وكأنه يعاون المحتلين في القضاء على تلك العائلة تماماً، وعدم ترك أي بذرة منهم أو أثر، ولكن الذئب باء في النهاية بالفشل، وكتب لهذه الطفلة عمراً جديداً، ربما لتحكي لأبنائها ولأحفادها عما لقوا من هذا المحتل الجبان الذي سرق أرضهم، وذبح أمانهم، فربما يكون على أيديهم تحرير هذه الأرض، فالأمل لن يموت أبداً، لو وقف في طريقه ألف محتل، وألف ذئب.
أحس الذئب أن هناك قادمين آخرين على الطريق، فهجم عليها الهجوم الأخير، لعله ينال منها شيئاً، فلم يجد في فمه إلا الصورة، وولي هارباً بعد أن اقترب من البنت مجموعة من النازحين الآخرين، فالذئب يخاف ويهرب ما دام هناك أكثر من فرد معاً، أما الوحيد الذي لا يقف معه أحد، هو الفريسة السهلة والآمنة بالنسبة له، وكأنه يقول لنا لن تنجوا بشيء سوى أن تكونوا معاً.
وعندما أحس الذئب أنه فاز بلا شيء، مزق الصورة غيظاً، وأخرجها من فمه، وولي من حيث أتى، وعندما أحست البنت بالأمان بمن معها ذهبت مسرعة نحو الصورة، ولكنها وجدتها ممزقة من أثر أنياب الذئب، فاعتراها شديد الألم أن أنياب هذا الذئب في صورة عائلتها حتى لو كانت مجرد صورة، فحاولت طوال الطريق أن تصلح ما مزقه الذئب من تلك الصورة، وكأنها ترفع الألم عن أهلها الذين ماتوا بما تفعل، ونوتْ أن تحتفظ بالصورة الممزقة؛ لعلها تستطيع ترميمها في قادم الأيام؛ وتشفي أهلها من أنياب الذئب!