الطفل والحكاية الشعبية
يمثل العراق حالة متميزة وفريدة، في أنه أغنى بلدان العالم ثراء في الموروث الشعبي، حتى أن هذه الحكايات والقصص التراثية الشعبية سافرت إلى كل بلدان العالم لأهميتها وعمق مدلولها ومضمونها ودخلت تقريباً في آداب جميع الأمم، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على المستوى الراقي الذي وصلت إليه الحضارة في العراق في عصوره المختلفة.. وإلى يومنا هذا نرى كثيراً من الحكايات العراقية القديمة يتداولها المؤلفون والكتاب وإن صبغوها بألوان بلدانهم إلا أن شكلها ومضمونها يبقى على حاله، فيه رائحة العراق بامتدادات عصوره المختلفة، وقصص الكاتب الدنماركي هانز كريستان أندرسن تدل بوضوح على ذلك ناهيك عن أن الحكاية الشعبية والموروث من مثل وعبارة وحادثة هي الأخرى انتقلت إلى الأقطار العربية وبقيت الجذور العراقية متأصلة فيها، ومن يقرأ كتاب (الحكايات الشعبية في اللاذقية) لمؤلفه (أحمد بسام ساعي) يرى الجذور العراقية واضحة في معظم حكاياته ومثله (الحكاية الخرافية) لمؤلفه (دير لاين).
– إن مسألة الاستفادة من الحكاية الشعبية في تربية الطفل، ليست حديثة العهد، فلقد جرت من قبل بعض المحاولات التي استهدفت هذا المجال، وأكدت بشكل لا يقبل الشك أن التراث الشعبي لأية أمة من الأمم ولا سيما أمتنا العربية يعد خير مصدر لاستلهام كثيرٍ من الأعمال الأدبية الراقية والهادفة والتي تصلح لأن تكون نماذج تربوية للأطفال، وذلك راجع لكثير من الاعتبارات ومنها:
• إن التراث الشعبي العربي أصيل بشكله ومضمونه، وإنه أقرب الأشياء إلى نفس الإنسان ولا سيما الأطفال منهم.
• إنه تراث لكثير من الأحداث والحركات والانفعالات إضافة إلى امتلاكه خطاً درامياً لا مثيل له، خطاً يأسر القلوب ويشدّ الأنفس ويواصل الانجذاب.
– لقد شهدت الساحة الثقافية في العراق في أواخر القرن الماضي محاولات كثيرة وجادة لجمع التراث الشعبي العراقي وتدوينه وربما لإعادة صياغته وتقديمه بشكل أكثر عقلانية وتوافقاً مع عقلية الطفل وقابليته على التقبل والقناعة.. ولا سيما أن بعض هذه الحكايات الشعبية تعد فيما إذا شذبت وهذبت دروساً تربوية ذات مدلول ومغزى، يتوافقان كلياً مع متطلبات العصر الذي نعيش فيه، وإن أي عمل من هذه الأعمال يحتاج إلى كثير من الجهد والاهتمام والحذر، فإن الحكاية الشعبية في نصها الأصلي ربما (تحتوي على عناصر سيئة وهذه إذا تركت من غير إصلاح أو تهذيب وإشراف عليها فربما كانت عاملاً سيئاً في تربية الطفل، لأن المعلومات والحوادث التي تتضمنها هذه القصص تؤثر في تكوين الطفل العقلي والخلقي وفي ذوقه وخياله)… كما جاء في كتاب (القصة في التربية/ ص10)، (وحري بنا كمربين أن نمتلك وعياً وحساً فيما يقدم، لأن أية معلومة يتقبلها الطفل من الصعوبة بمكان أن تزال من ذهنه بسهولة).
– هنا تكمن أهمية عنصر الحذر الشديد من قبل الآباء والمربين من ما يقدم إلى الطفل من حكايات شعبية غير منقحة، لأن في ذلك أضراراً كبيرة وخطورة تؤثر بشكل أو بأخر في نفسيته وسلوكه، حيث تقول الدكتورة (الفت حقي) بأن الثقافة التي يعرضها المجتمع على الطفل، يأخذها الناشئ على علاتها لهذا تكون مهمة العطاء حرجة وخطرة في الوقت نفسه… فقد تتدخل أحداث الحكايات وأبطالها تدخلاً سلبياً في سلوكه وتوجهه التربوي.
– الأديب القاص تقع مسؤولية تربوية كبيرة على عاتقه، في فهم نفسية الأطفال أولاً ومعرفة الأبعاد التربوية والاجتماعية والخلقية ثانياً مما يؤدي به إلى فعلٍ متميز في غربلة هذه الحكايات الشعبية واختيار الجيد منها ليقدمها للأطفال بعد أن يصوغها بأسلوب أدبي راقٍ ويحذف منها كل ما هو غير ضروري، ويضيف إليها من خياله الخلاق أشياء ضرورية إكمالاً للتوجه التربوي المنشود الذي لا بد أن يقدم للأطفال بشكل تربوي هادف… وهذا المسار أكد عليه الدكتور (عبد العزيز عبد المجيد) حينما قال: (وإذا كانت قصصنا الشعبية مليئة بالحوادث المزعجة وغير المناسبة، وإذا كانت بعض الأمهات لا يستطعن الآن اختيار المناسب من القصص ليسردنه للطفل أو ليقرأنه ويساعدنه على قراءته… فإنا لنرجو أن يجيء اليوم الذي تخلص فيه القصة الشعبية من كل ما بها من عيوب).
– وأنا ككاتب شكل أدب الطفل محوراً في عطائه الأدبي، فقد تحتم عليَّ أن أنهل من تراثنا العراقي كل ما هو مهم ومفيد وأن أقدمه للطفل بشكل تربوي مناسب، فقد كتبت (رواية الخاتم) وهي رواية عن الفتى (لبيب) الذي كان صادقاً وأميناً ومخلصاً في عمله… يحب الناس ويقدم لهم كل ما يحتاجونه بأقل الأسعار، لأن (لبيب) كان يعتقد بأن حب الناس مهم في هذه الحياة، لكن سلوكه هذا أغضب التاجر الجشع الذي لا هم له سوى السحت الحرام والربح الباطل، هنا حدث صراع بين الخير (لبيب) والشر (التاجر الجشع والطماع) مما أدى بالتاجر إلى اختطاف (لبيب) بأسلوب ملتوٍ وسجنه في قبو مظلم ومن ثم إجباره على حياكة الملابس ليبيعها التاجر ويربح منها الثمن الوفير.. وصادف أن نظمت مسابقة لاختيار أفضل نساج في المدينة وكانت الجائزة كبيرة، هنا وبدافع الطمع أجبر التاجر الجشع (لبيب) على أن يحوك له قطعة قماش رغبة في الحصول على الجائزة.. لكن الذكاء المفرط لدى (لبيب) دفعه لأن يكتب عنوانه وأنه مسجون على تلك القطعة من القماش مما أرشد الناس إليه فأنقذوه من سجنه وعاقبوا التاجر الجشع على سوء فعلته… هنا كان انتصار الخير على الشر نتيجة حتمية وهي سر ديمومة هذه الحياة.
– هذه الحكاية الشعبية تحببنا إلى الخلق القويم والتضحية ونكران الذات وهذا ما كان عند (لبيب) وتكرهنا إلى الجشع والطمع والبخل، وهذا ما كان عند التاجر… وضمنياً تؤكد لنا أن الطمع قاتل ويؤدي بصاحبه إلى التهلكة وهذا ما حدث للتاجر الذي رغب في الحصول على الجائزة… إضافة إلى أن هذه الحكاية تجلُّ العقل والإبداع وتعتبرهما سلماً للنجاح في هذه الحياة ووسيلة للتخلص من المواقف المحرجة والخطرة، وهذا ما تبين لنا في ذكاء لبيب حينما حاك عنوانه وقصة اختطافه على قطعة القماش حيث أدى عمله هذا إلى إنقاذه من براثن التاجر الجشع… وهذه الثيمة أكدت أهمية العقل والذكاء لدى الإنسان… مما تولد حوافز تربوية لامتلاكهما إذ يمثلان إكسيراً للنجاح في هذه الحياة ذات المتغيرات والتجاذب… مما يجعل الطفل أكثر قرباً من التعلم وأكثر حباً لكل ما هو جيد ومبدع… فالمهارة في الحياكة هي ذكاء والذكاء هو وسيلة للنجاح وهكذا…
– إن المربي سواءٌ أكان معلماً أم أباً أم أماً مطالب باختيار الحكاية للطفل من حيث صلاحيتها التربوية وتمثيلها للقيم وللمفاهيم الفاضلة التي تعارف عليها مجتمعنا العراقي إضافة إلى أنه مطالب أيضاً بالتدخل لتعديل مسار المعلومة أو الحكاية التي تعرض للطفل بشكل عفوي من خلال أجهزة الإعلام المرئية وتوجيه الطفل بالاتجاه الصحيح من حيث الفهم ومعرفة المغزى والمدلول، لأنه من الخطورة بمكان أن يتعرف الطفل على جوانب غير مقبولة، لأنه سرعان ما يتقبلها على علاتها لضعف الملكة النقدية لديه ولصعوبة التفريق بين الجيد والرديء فلهذه الحكايات سحر أخاذ يمتلك اللب ويخدر التفكير، وبما أننا نريد من أبنائنا أن يكونوا كما نريد فعلينا أن نتعاون جميعاً لترصين بنائهم الفكري والثقافي وحتى الترفيهي.