الطلاب والمهن الخطرة
الطلاب والمهن الخطرة (1)
يجلس مهدي ذو الهيكل الضخم على المقعد الأول في الصف العاشر فرع الإنساني، هو أطول مني ومن جميع المدرسين وأضخم جثة.
بدا لي أول السنة الدراسية أنه من الطلاب المجتهدين، عادة ما الطالب المجتهد يتقدم ويجلس في الأمام، أما الطالب المتهاون فيتخذ المقاعد الخلفية للاختباء والحرية والخلاص من القيود.
يستمع مهدي إلى الدروس جيدا ويكتب في هدوء، لكنه لا يفقه شيئا منها!
ولكي أستفسر سبب ضعفه في الدراسة سألته:
لماذا لا تذاكر دروسك يا مهدي؟!
قال وهو يبتسم:
لا وقت لدي للمذاكرة؛ أنا أداوم.
كبر في عيني، وشجعته لأنه جمع بين الدراسة والدوام، ولا شك أنه يدعم أسرته في جو الغلاء هذا.
ومن باب الفضول سألته عن طبيعة عمله، فقال:
أبيع ذخائر السلاح.
– نعم؟!
– أذهب إلى الأهواز فأشتري طلقات (كلاشنكوف)، وأبيعها في المحمرة.
– ألا تظن أن هذا العمل لا يناسبك وأنت لم تبلغ السادسة عشرة بعد؟!
– لماذا لا يناسبني مادام يدرّ علي بالمال؟! ثم أنا كبرت ولم أعد طفلا؛ بل يحسب لي الكبار ألف حساب.
– ألا تخاف من المخاطر والاعتقال؟!
– لا، ليس ثمة أي خطر؛ هناك من يبيع السلاح ولا يخاف الاعتقال.
– ونظرا لحظر السلاح، هل لديك زبائن؟!
– نعم، الناس تطلق الأعيرة النارية في المآتم والأعراس، وفي هاتين المناسبتين أبيع الكثير!
وكان مهدي يجيب على أسئلتي بوداعة واطمئنان، وكأني أحد أصدقائه المقربين الذين لا يخشى أن يفضي لهم بأسراره؛ حتى أسرار خطرة مثل بيع الذخائر الحية لبندقية كلاشنكوف الممنوعة.
حاولت أن أثنيه عن هذه المهنة الخطرة، وأن أنصحه بتغييرها ليعمل في مجال آخر آمن، لكني لم أظفر من نصيحتي بطائل! ضحك مهدي وقال متسائلا:
أين أجد عملا؟! ليس لدى معارف ذوو سلطة ونفوذ ليشغلوني، وأسرتي تحتاج إلى المال.
ثم رمقني بوقار وقال:
هذه المهنة خير من بيع الأفيون! أليست كذلك؟!
الطلاب والمهن الخطرة (2)
ثمة مدارس تقع في الحواشي، طلابها لا يدرسون جيدا، أولياء أمورهم فقراء؛ فقراء مالا وثقافة، وهل يثمر الفقر سوى الأمية والتخلف؟!
ولهذا لا يعلق أولياء هؤلاء الطلبة أهمية لدراسة أبنائهم. فتجد بعض الأبناء يعملون في الأسواق في مهن لا تناسب أعمارهم وبرواتب زهيدة، وبعضهم ينحرفون إلى ممارسة مهن مضرة وخطرة.
ينقل لي أحد الزملاء الذين يدرّسون في إحدى هذه المدارس إن طالبا قال له إنه تاجر!
سأله الزميل مستغربا مهنته وهو في هذه السن المبكرة:
تاجر؟! وبماذا تتاجر؟!
قال: بالسلاح، وتحديدا بالمسدسات.
– ومن أين تأتي بها؟!
– لدي واسطات يهربونها لي من العراق!
– وكيف تعرف أنها جيدة وليست معيوبة؟!
– أمتحنها.
– كيف؟!
– أرمي بها.
– لكنك ما زلت حدثا! ألا تخاف أن تؤذي نفسك؟!
يقول الزميل إن الطالب قهقه فقال:
أتريد أن أحضر (فرخ الطوب) غدا فأرمي به أمامك؟
– لا، لا، لا؛ أرجوك أن لا تسبب لنفسك الأذى وتجلب لي المشاكل!
يقول الزميل: في اليوم الثاني فتح الطالب حقيبته وأراني مسدسا فخما وقال:
هذا هو (فرخ الطوب) جلبته لأريك إياه!
ثم أضاف: أتدري لماذا يقال له فرخ الطوب؟
يقول: أجبته لا أريد أن أعلم. خبئ مسدسك لا يراك أحد الطلبة، أم أنك لا تخاف من الوقوع في المشاكل؟!
ودون أن يلتفت لقولي استمر يوضح سبب تسمية المسدس بابن الطوب:
سبب تسميته بابن الطوب هو تشابه صوته المدوي عند الإطلاق بالمدفع.
ثم أضاف مستفهما:
هل تريد أن أطلق الآن رصاصة لتسمع صوته؟
قلت: يا ابن الناس، اكفني شرك.
ولكنه خرج من الصف وتوسط ساحة المدرسة وأطلق طلقة هزت المدرسة! وملأ بارودها الصفوف!
ثم دخل وقال: هل سمعت الصوت جيدا؟ وهل يشبه صوت المدفع أم لا؟
الطلاب والمهن الخطرة (3)
في الصف السابع، غاب رعد أسبوعا كاملا!
ورعد ليس جيدا في الدراسة، بل أسوأ من هذا بكثير، هو لا يفهم من الرطين شيئا.
والسبب يعود إلى أن أسرته عند اندلاع الحرب لم تتمكن من النزوح، فبقيت في المحمرة، وبعد أن احتل الجيش العراقي المدينة، نقلهم برفقة آلاف آخرين إلى العراق حيث آواهم في معسكرات خاصة بالأحوازيين، منهم من امتهن الفلاحة، والشباب منهم التحقوا بالجيش الخاص بالأحوازيين وكان يطلق عليه فيلق الأحواز.
وقليل من طلابهم استطاع أن يجتاز الابتدائية ويواصل دراسته.
وعندما اجتاح حزب البعث الكويت وأدى إلى تدمير العراق، رجع الأحوازيون إلى مدنهم لا يعرف أطفالهم من اللغة الفارسية شيئا؛ فواجهوا ما واجهوا من مشاكل في المدارس الإيرانية.
وواجهوا ما واجهوا هم من البطالة والتهميش.
وأرجع إلى رعد، حضر رعد بعد أسبوع وهو يرتدي السواد!
استفسرت منه السبب فقال إن أخاه مات. لكن زملاءه أخبروني أنه انتحر شنقا!
يعزو رعد انتحار أخيه إلى البطالة والعوز. لكنهم أخبروني إنه كان مدمنا على الأفيون!
ثم تضارب الكلام حول إدمانه، منهم من ادعى أنه مدمن ومنهم من قال لا ... حتى قام عباس ذو الهيكل الضخم وأنهى النزاع قائلا:
إنه مدمن يقينا، والدليل الدامغ إنه كان يشتري الأفيون مني!
– منك؟! وهل أنت تبيع الأفيون؟! (سألته في دهشة وذهول).
وكأنه أدرك زلة لسانه فقال: لا، يشتري من جيراننا.
ثم صاح الطلاب معظمهم: بلى، عباس يبيع الأفيون.
وبعد أن دق الجرس أحضرت عباسا ذا الثالثة عشرة سنة وسألته عن حقيقة هذه المهنة المهلكة فاعترف وقال:
أبيع لخالي فيعطيني كفلا من الربح!
نصحته كثيرا أن يرجع إلى الصراط المستقيم؛ لكنني أستبعد أن أجد لنصيحتى أية جدوى ما دام عباس (الفقير) تذوق حلاوة الأفلوس!
أما ما تسمى دائرة مكافحة المخدرات، فإنها بناية على واجهتها يافطة فحسب. وأرجو أن لا يخطر على بالك أنها تكافح المخدرات بتاتا.