

العصا التي لم تقع
كانت يده ترتعش قليلًا، ليس من الخوف، بل من ثقل العمر، من الأيام التي مرّت عليه كأنها قرون. تقدّم بخطى بطيئة نحو الجنود الذين كانوا يصرخون، يشيرون، يهددون. لم يرَ في عيونهم إلا الفراغ، أما في قلبه، فكانت الأرض كلها تنبض.
العصا ليست خشبة، ليست أداة اتكاء، بل امتداد لذاكرته. كانت له كرفيقة، شاهدة على قوافل النزوح، وعلى جنازات الشهداء، وعلى حفر الخنادق الأولى في التلال الوعرة، حين كانوا أطفالًا يحلمون فقط بنوم آمن.
"لا تظنوا أنني وحدي..."، تمتم بصوت لا يسمعه أحد، إلا هو.
"ورائي أمي التي ماتت وهي تقبض على مفتاح البيت القديم... وأبي الذي دفن تحت الركام قبل أن يسلّم، وأخوتي الذين لم أجد لهم قبرًا، وزوجتي التي نزفت حتى الموت وهي تنظر في وجهي وتبتسم."
كانت عيناه لا تبكيان، جففت الدموع منذ زمن بعيد. صار يبكي بالداخل فقط، حيث لا تراه حتى روحه. وقف قبالة الجنود، وصوت في داخله يقول: "هؤلاء أولاد صغار، دُرّبوا على الكراهية، ظنوا أن البنادق تصنع التاريخ... لو علموا أنّ الذاكرة أقسى من الرصاص..."
تذكّر حين حملوه طفلًا من قريته المدمرة. كان عمره خمس سنوات. لم يفهم يومها لماذا تحترق السماء، ولماذا يصرخ الناس دون سبب، ولماذا لم يعد هناك ماء أو خبز أو ضوء. تركوا خلفهم شجرة التين، ومدرج الحصاد، وموقد الجدة. . ومضوا.
"أمي قالت لي يومها: لا تخف، كل هذا سيعود... لكن شيئًا لم يعد، سوى العصا".
في الغربة، كان يكبر ويشعر أنّ الأرض تبتعد. لكن كل مرة يلمس فيها العصا، كأن التربة تخرج من تحت جلده. ظلّ يتنقل من مخيم إلى آخر، من خيمة إلى مدرسة أممية، ومن صفوف التعليم إلى صفوف التدريب العسكري، ثم إلى السجون، ثم إلى المنفى، ثم إلى أرض المعركة من جديد.
في الانتفاضة الأولى، كان يوزع المناشير ويكسر الحظر الليلي، يحمل الحجارة على ظهره ويوزعها على الصبية في الحي، ويكتب الشعارات على الجدران. سُجن. كُسرت أضلعه.. لكنه لم يعترف بشيء.
في الانتفاضة الثانية، كان شيخًا بالفعل. لم يعد يستطيع الركض، لكن قلبه كان يركض. تحوّلت العصا إلى شيء أكثر من خشبة. صارت مرآة روحه. كان يدق بها الأرض في كل مظاهرة كأنّه يوقظها.
"قالوا لي: استرح، قلت: وكيف يستريح من لم يعد له بيت؟"
أبنه البكر، "رائد"، كان يحب الرسم. اعتقلوه لأنّه رسم على الجدار علمًا. لم يعود أبدًا. الآخر، "ماهر"، كان ذكيًا، يحلم أن يكون مهندسًا. قضى شهيدًا في كمين. الثالث "باسل"، سقط في اجتياح المخيم. لم يبق له إلا حفيد صغير... اسمه "يزن". كان يراه أملًا، لكنّه لم يشأ أن يُحمّله عبء التاريخ. أراده أن يعيش.
لكن الزمن لا يرحم. ذات صباح، حين كان الشيخ عائدًا من زيارة المقبرة، رأى يزن يحمل حجرًا. قال له: "يا بني، الحجر ليس للعب فقط، هو شاهد. احمله بقلبك قبل يدك."
في الليل، حين هدأت الدنيا، وعمّ الظلام، كان الشيخ يجلس في الزاوية، يكلّم نفسه:
"يا عصاي، كم مرة نادوك عصا الشيخ المجنون، ولم يعرفوا أنك أقوى من كل بنادقهم... كم من مرة ضحكوا حين قلت إنّ المقاومة لا تموت، ثم ماتوا ولم يذكرهم أحد... هل تذكرين يوم مشينا فوق أشلاء المخيم؟ أنا لم أنم تلك الليلة، كنت أبحث عن صدى الوجوه."
كان يعرف أنّ النهاية تقترب. جسده لم يعد يقوى على شيء. لكنه أصر أن يبقى. أن لا يغادر المكان. قال لنفسه: "لن أموت في مستشفى. سأموت واقفًا، كما عشت."
وفي ذلك اليوم، سمعوا أنّ الجنود سيقتحمون الحي. الجميع اختبأ. الشيخ فقط بقي. خرج من بيته، يمشي ببطء، بعصاه. اقترب منهم.
"أنا لا أحمل سلاحًا... فقط عصاي... لكن لا تظنوا أنّني أعزل."
نظر إليهم بعمق، وقال:
"كل من دفنتموه هنا، ما زال في الأرض حيًا، يتنفس. أنتم لا تقاتلونني، أنتم تحاربون ذاكرة."
أحد الجنود صرخ به: "ارجع أيها العجوز!"
لكنه تابع سيره.
"أرجع إلى أين؟ أنتم من جئتم... أما أنا، فقد ولدت هنا، على هذه الأرض، من هذا التراب."
صاح جندي آخر: "ابتعد! هذه منطقة عسكرية!"
فقال: "كل شبر هنا منطقة حب، ومن لا يعرف الحب لا يعرف الأرض."
رفع أحدهم سلاحه.
اقترب الشيخ أكثر.
"اقتربوا... لا تخافوا... اقتلوني، لكن ستبقى العصا واقفة."
دوت طلقة.
ثم ثانية.
وقع الشيخ، والعصا لم تقع. ظلّت واقفة للحظة، كأنّها ترفض أن تصدق. ثم مالت، وسقطت برفق، كأنّها تنحني لتُقبّل التراب.
ركض الأطفال إلى الجسد.
رفعوه.
لكن العصا أخذها "يزن"، حفيده، وركض بها إلى الأزقة، كأنّها سلاح من نوع آخر.
في اليوم التالي، خرج الآلاف في جنازته. كانت العصا في المقدمة، محمولة على الأكتاف، لا كعصا ميت، بل كراية.
وكتب أحدهم على الجدار:
"سقط الشيخ، لكن العصا لم تقع."