الاثنين ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٣
قصة قصيرة

الغلبان

محمد زيدان

كل واحد في بلدنا يعرف جيدا (أحمد البركه) ويعطف عليه.. ليس فقط لأنه كان فعلا (على البَرَكه) ولكن لأنه كان أيضا ولد صاحب فكاهة وابتسامة دائمة وكل ما فيه يدعوك للضحك من قلبك..من طريقته في الكلام حيث يأخذ وقته في إخراج الكلمات وكأنه يمضغها مضغا.. الى طريقته في المشي حيث يحرك كل ساقه وينقلها بشكل نصف دائري الى الأمام دون أن يثني الركبة.. حتى شكله كله بمعدته المكورة النازلة الى أسفل ويديه القصيرتين ورأسه المفلطحة.. كل ذلك وأكثر من صفاته يجعله يدخل قلبك بسرعة منذ أول لقاء لك معه.

ولكن أهل القرية كانوا يثقون بأحمد البركه على الرغم من سذاجته.. فكان الرجال يعطونه أموالا يوصلها فيما بينهم كسداد دين أو ثمن بضائع.. وكانت النسوة تعطينه أموالا كي يبتاع لهن نواقص بيوتهن.. وهو في كلا الحالتين يؤدي خدمته لهم وهو في غاية السرور.. وكان أهل القرية جميعا يعطونه مما قسمه الله لهم عن طيب خاطر وكانت النسوة تعطينه طعاما إذا طبخت إحداهنّ ذلك اليوم.

لكن أحدا لم يكن ليعرف من أين جاء أحمد البركه.. فهو يسكن منذ سنوات طويلة في بيت من الزنك بجانب المزرعة بناه له شبان القرية وبعضهم قال بأنه اتى من بلدة "زرعين" بعد أن دمّرها اليهود ومسحوها عن الخارطة وقال آخرون بأنه قد هرب من حيفا بعد احتلالها.. ولكن مهما كانت قصته فإن أحمد البركه لم يتكلم في يوم من الأيام عن ماضيه لأحد.. وأنت إذا سألته شيئا عن حياته وماضيه فإنه سوف ينظر الى الأرض ولن يقول لك شيئا.. وقد كان خجولا جدا.. لا ينظر الى النسوة حين يحادثهن ولا يطلب منك شيئا أبدا كالطعام أو المال مما زاد حب الناس له ومن سرعة دخوله الى قلوبهم.

وحيث أنه لا عمل لديه فقد كان يقضي معظم يومه مع أبناء القرية يمازحهم ويضحكهم ولا يذهب الى بيته المبني من الزنك والواقع بجانب المزرعة الا عند غروب الشمس عندما يذهب الناس الى بيوتهم.

كان يشارك الجميع أفراحهم وأحزانهم والجميع يذكر كيف أنه سالت منه دموع حقيقية غزيرة عندما مات أبو رشيد إمام المسجد.

ولكنه أيضا كان لغزا حقيقيا محيرا فأحيانا تشعر أنه ليس غبيا ولا أبله كما يظن البعض.. ففي مرات كثيرة تنفلت منه عبارات ذات حكمة غريبة نادرة وكأنها صادرة من عالم مجرب أو أستاذ خبير.. ولكنه سرعان ما يطارد الصبية أو يطاردونه فيجعلك تضحك من أعماقك وتدرك أنه أحمد البركه (الغلبان) ليس إلا!

وذات صباح استيقظ كعادته مع طلوع الشمس فنهض وتوجه نحو القرية حيث كان الجو جميلا وقرص الشمس الذهبي يشق الآفاق.. مشى بخطوات بطيئة حتى يتسنّى له أن يتمتع بمنظر الشروق الجميل.. ورويدا رويدا كان يطوي خلفه صورة المزرعة وبدت له بيوت القرية مصفوفة كعلب الكبريت وكان أول ما مر به هو مسجد القرية الذي كان هادئا ليس فيه صوت.. وبدا الأمر غريبا إذ أن معظم كبار السن يغادرون المسجد في هذا الوقت بعد انتهائهم من أداء صلاة الصبح.. ودخل القرية فلم ير أحدا ولم يسمع صوتا حتى أن فرن الحاج أبو محمد كان مغلقا على غير عادة ودكان أبو اسماعيل كانت مغلقة أيضا.. أين ذهب الجميع؟ وما الذي يحصل هنا؟

وفجأة سمع صوتا يناديه بهمس:

 - أحمد.. أحمد..

 والتفت ناحية الصوت واذا بها أم سعيد وقد أطلّت برأسها من خلف النافذة.
 أهلا خالتي ام سعيد.

 - إرجع بيتك يا ابني.. الجيش في البلد وممنوع التجول!

 - ممنوع التجوّل؟

 - إرجع با ابني.. ارجع!

 وشقّ الصمت صوت آخر.. دبيب أقدامٍ ثقيلة وصوت أجش جاء من وراء ظهره:

 - أنت هناك... عالبيت!

 التفت ناحية الصوت فإذا بستة رجال يلبسون لباسا غامق اللون ويحمل كل واحد منهم سلاحا وقد كانوا يتكلمون بلغة غريبة. ورفع أحمد يده ببطء وكأنه أراد أن يقول لهم شيئا فارتد الجنود الى الخلف ودون سابق إنذار دوّت صرخات بندقية تشق الصمت وتعلن نهاية الرجل البسيط الذي أحبه الجميع.. فسقط ببطء وسال دمه ببطء ولكن يده بقيت ممتدة مشرعة وكأنها تقول لهم ما أراد قوله..

 - بيتي هنا.. بيتي هناك.. بيتي في كل مكان.

 

محمد زيدان

مجموعة قصصية بعنوان "الرجل والليل"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى