الخميس ٩ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
بقلم نبيهة راشد جبارين

الـدَّاعِيَة

على مدى مسار البشريّة كان هناك حاجة لظهور الأنبياء والمرشدين، الفلاسفة والمعلّمين، والدُّعاة المخلصين، ليوجِّهوا رسائل تحضُّ النّاس على الإيمان والمحبّة، والتّسامح، والتّعاون، والتّكافل، والمشاركة، والتّحلّي بالإنسانيّة أوّلًا من أجل خير البشريّة جمعاء. فلا أنانيّة، ولا حقد، ولا كراهية، ولا ضررَ، ولا ضرار. إلّا أنَّ أحداً منهم لم ينجح في اجتماع كلمة البشريَّة جميعًا على رأيٍ واحدٍ لخير الإنسان بكونه إنسانًا. بل نحا النّاس في كل حِقَبِ الزّمان نحو المادّة وإغراءاتها، ونحو السُّلطة والسّيادة والتواءات مساراتها، بعكس توجيهات الأنبياء، والمرشدين، والفلاسفة، والمعلّمين، والدُّعاة، فكانوا ممّن" اتَّخذَ إلههُ هَواهُ " وهذا بدوره عبادة أصنام بأشكال وأساليب متنوِّعة.

ومن المفارقة أن يظهر أصغر داعية الى الإيمان والسّلام والمحبّة والتّعاون، فينجح في اجتماع العالم "على كلمة رجلٍ واحد" تحت شعار:

"الإنسان أولًا".

لم تنجح أشدّ الأسلحة قوةً وفتكًا، من طائرات نفّاثة تتفوّق على سرعة الصّوت، ومن صواريخ موجّهة، وأسلحة ذرّيّة، وكيماويّة، وبيولوجيّة، بأن تجعل الإنسان يهتمّ بأخيه الإنسان.. وأن يسعى للسّلامة العامّة لكلِّ بني الإنسان، وأن يترفّع عن الخلافات والأحقاد، والمصالح الشّخصيّة من أجل السّلامة العامّة لكلّ بني البشر. ألا نحقّق أمر الله في كلمته العليا: " وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"!

بل نرى أنَّ الدّول تجتهد في سباق التسلُّح، وفي بجاحة سيطرة القويّ على الضعيف، واستلاب حقِّ الحرّيّة من الأفراد والجماعات، والشّعوب، ولصوصيّة سرقة الموارد الطّبيعيّة، حتى ظهر أصغر داعية لنشر رسالة الإيمان والسّلام والمحبّة والتّآخي، والتّعاون، والحياة الأفضل...ليس لأنّه أكاديميٌّ، ولا برتبةٍ عسكريّةٍ عالية، بل هو لا يقرأ، ولا يكتب، ولا يتكلّم، إنّه يُعلِّم على طريقته بأنَّ: " اللهُ أكبر"، وأنّ الإنسان مهما تسامى في علومه يبقى عاجزًا أمام قدرة " الله" (سبحانه وتعالى)، وأمام أصغر دُعاته، ألا وهو في أيّامنا هذه هو هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجرّدة، والذي يُلقِّن العالم بأسره درسًا في الاجتماع على " كلمة الله" بأن يبقى الإنسان أخَ الإنسان أينما كان. وسبحان من قال: " سَنُريهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِم أفلا يُبْصِرونَ". أليس هذا المخلوق بحدِّ ذاته آية من آيات الله، يقضّ مضجع شعوبٍ ودول، وتتغيّر بسببه كلّ البرامج المرسومة على صفحات يوميّاتها.

وها قد صحا العالم وتنبَّه من ليل غفلته على درس هذا الدّاعية الصّغير، الذي لا يُرى بالعين المجرَّدة، ولا ينعم بالحياة إلا في أجسادنا، جاء يدعو الى تقديم العودة إلى الفطرة الإنسانيّة، والمحبّة على كلّ مصلحةٍ أُخرى، من أجل السّلامة والنّجاة لجميع النّاس. وها هو السيّد أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتّحدة يدعو إلى وقف الحروب قائلاً: "يجب وقف الحروب في العالم فوراً ولنتفرّغ لكورونا".

لقد استشعر الخطر الذي لا يفرّق بين أبيض وأسود، وبين قويٍّ وضعيف، وبين حاكمٍ ومحكوم... ولم يعُد اختلاف الجنسيّة، أو اللّغة، أو الدّين، يشكّل حاجزًا أمام ابتهالات الإنسان للخالق، بأن يرفع هذا البلاء، والوباء، عن الأرض، وأن يكشف الغُمَّة عن جميع النّاس، وأن يجعل السّلام على الأرض كلِّ الأرض، بعد أن وقف العالم بكلّ قدراته، عاجزاً أمام هذا المخلوق الصّغير الذي جاء يبلّغ رسالة إلهيّة بعد أن خُتمت الرّسالات السّماويّة بالرّسالة المحمّديّة.

وها نحن نرى الأيدي كلّها ترتفع إلى أعلى ويمتزج الحنين بالدُّعاء فإنّ الابتهال إلى الله لم يعُد يقتصر على لغة أو قوميَّة أو دين.

ولنا في الحديث الشّريف أجمل رسالة من أجل السّلام، فعن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

"والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا ، أوَلا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السّلامَ بينكم".

ما ضرَّنا لو يصبح العالم قريةً واحدة، فيها الكنيسة والكنيس والجامع وسائر بيوت العبادة، تدعو الى الإيمان بالله أولاً، وتدعو إلى التّآخي والتّعاون والمحبّة والسّلام...؟ ليتها!

هل نستيقظ من الغفلة!؟ فأين الجيوش الجرّارة؟ وأين القوى التي تدَّعي أنّها (العُظمى)؟ وأين التّكنولوجيا؟ وأين المعدّات العسكريّة؟

ما بها أروقة السِّياسة تُراجع صور الماضي؟ فلعلّها تندم على قراراتٍ كانت مُجحفة. وما بها المسارح تُراجع صدى أغنياتٍ ارتجفت خوفاً وغابت؟ فلعلّها غيّبت وجيبَ الإيمان. وما بها مدرَّجات الملاعب تشتاق للتّلويح بالأعلام، ولأهازيج الفرح بالنّصر؟ فلعلّها تناست التّوافد إلى بيوت الله. ما بها الرّياض والمدارس والمعاهد والجامعات تردّ طلّابها وترافقهم حتى يصلوا بيوتهم بسلام؟ لعلّها شعرت بتقاعسهم عن موائد العلم والتّعليم. وما بها الموانئ البرّيّة والبحريّة والجويّة تُخلي رحابها ليعبث الرّيحُ في جنَباتها؟ لعلّها لاحظت أنّ الأمر أصبح سباق مراءاة يحمِّل النّاس أعباءً هم في غنىً عنها.

أيّها العظماء ! اجعلوا رسالة السّلام والسّلامة أوّل همّكم، خذوا عبرةً كيف تصدق المسؤوليّة، وتذكّروا كيف لم يغِب عن بال رسولنا الكريم أن يقدّم نصيحةً تساعد في الحدِّ من انتشار الوباء، وذلك حرصاً على سلامة الإنسان أوّلاً فقال (صلّى الله عليه وسلّم) في هذا الشّأن: " إذا سمعتم بالطاعون بأرضٍ فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا منها"

فهل ينجح هذا الدّاعية الصّغير وما يُدعى (كورونا) بتلقين درس في الإنسانيّة؟ لكي ينظر الإنسان إلى أخيه الإنسان بأنّه الأكرم، والأولى بالاهتمام...؟ ليته !
هل وصلت رسالة هذا الدّاعية بأن يعمل الناس بقول الله تعالى: " هو أنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا"؟

أي كلّفكم في إعمارها...كيف؟ بالبناء واستصلاح الأرض والزراعة والمحافظة على البيئة برّها وبحرها وجوّها...والتّوجُّه إلى الإصلاح في كلّ مجال...وقبلها جميعاً إعمار القلوب بحبّ الله وبالعلاقات الإنسانيّة.

لعلّ الإنسان يصغي إلى هذا الدّاعية الصّغير، ويأخذ عبرةً من هذا الدّرس سريع الانتشار، وعظيم التّأثير والآثار، فيعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه..لكلِّ مخلوق من إنسان وحيوان ونبات وجماد... فلتبقَ النفوس صافية كصفاء نرجوه للأرض والبحر وجوّ السّماء.
شكراً لهذا الدّاعية الصّغير، رغم أنَّ الدّرس قاسٍ ومؤلم، نسأل الله أن تكون النّتائج طيّبة، فتعود للإنسان قيمته، وللوالدين هيبتهما، وللعائلة الدِّفء والالفة، وللمجتمعات ترابطها في طريق الخير، وللدّول تطلُّعاتها نحو السّلام والتّعاون والتّقدّم الإيجابي.
لعلّها فرصة مناسبة لكي يقف الإنسان مستدركاً، فيعيد حساباته مع نفسه، ومع كلّ ما يحيط به، فيعطي فرصة لاستمرار الحياة.

ولعل من أجمل ما قيل في هذه القيمة الإنسانية كانت كلمات الشاعر خليل هنداوي:

أنتَ إنســانٌ وإنسـانٌ أنا
فلمــــاذا نحنُ خصم انِ هُــنا
تُنْبِتُ الأرضُ لنا أزهـــارَها
ثُـمَّ لا نُـــنْبِتُها إلّا قـــنا
أَرضُنا إن شِئْتَ تَغْدو مَسكَناً
وإذا شِئْتَ استَحالَتْ مَدفَنــا
يا أخي قصرُكَ قصرٌ شــامخٌ
أكثيرٌ أنْ تَرى الكــوخَ لَنا
أَيُّهـــا السّــــائِلُ عنّي مَـــنْ أَنــا
أَنا ذَوْبُ الحُــبِّ طِيباً وَجَنى
أنا مَنْ أرسلْتُ قلبي عاشــقاً
يَرْحَمُ القُبْحَ ويَهوى الحُسُـــنا
ســأُناديكَ وَلَوْ ضاعَ الصَّدى
وأَدُقُّ البـــابَ حتّى تـــأْذَنا
كُنْ كما شِئْتَ وَخالِفْ مَذْهَبي
لا تَــــراني حاقداً مُضـطَّغِنا
مَذْهَبي الحُــــــبُّ وإيماني الهَـــوى
لا غِنىً كالحُبِّ في دُنيا الفَنا
لَـــوْ رَعَيْتَ الحُــبَّ لِلْحُــبِّ لَمـــا
كُنْتَ في شَرْعِيَ إلّا مُؤْمِنـــا
مَــوْطِني الإنْــــسانُ لا لــونَ لَـــهُ
فَاجْعَلِ الإنْسانَ مِثْلي مَوْطِنا
إنْ زَرَعْـــنا البُغْضَ يأْكُلُنــا معاً
إنْ غَرَسْنا الحُبَّ يُزْهِرُ حَوْلَنا
أُدْنُ مِـــنّي سَتـــَراني دانيـاً
فإذا أَنْتَ مَعَ الحُــبِّ أَنـــا
وَإذا نَحْنُ عَلـى هامِ الــدُّنى
نَتَحَــدَّى نَتَـحَدَّى الزَّمَنـا

فَلْتُشرقِ الأرضُ بنورِ ربِّها، ولتُشرق الشّمس بنور فجرٍ جديد، يحمل بشائر الخير، بأنّ الله قد تاب على بني البشر، بعد عودتهم اليه وإلى إنسانيَّتهم، وأنه ستكون في النّاس المسرَّة وعلى الأرض السّلام. فترقى الدّول إلى المستوى الإنسانيِّ اللّائق، فتسعى لإسعاد شعوبها، وحفظ حقوقها، وتوفير حياة هادئة للجميع.. وبدلاً من التسابق في التَّسلُّح بكلِّ أنواعه، فلتتسابق في توفير حياة كريمة لكل مواطنيها، ولتتسابق في مجالات التقدُّم العلمي، في ميدان الطبّ والصِّناعة والزِّراعة والفضاء.. وغيرها.

وعندها ترقى الدّول، لتكون علاقاتها علاقات صداقة وتعاون ومشاركة.

وليرقَ الأفراد حتى يحبَّ الجار جاره، والأخ أخاه، ويحترم الصّغير من أكبر منه، ويحترم الجميع مَن هو أعلم منهم، وليقدّسوا الأمومة، ومكانة المعلّم، لأنّهما شريكان في مشروع بناء الإنسان ومن ثَمَّ في بناء أُمَّة ناجحة. وهذا كلّه ينضوي تحت شعار:

نؤمن بالله، ونأتمر بأمره، وننتهي عمّا ينهى عنه، ونحبُّ بعضنا بعضاً، فتكون الأرض قريةً كبيرةً، ومسكناً آمناً لجميع النّاس، ويكون على الأرض السّلام...!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى