الفيلُ يطيرُ
كم من القصصِ والحكاياتِ والرّواياتِ والأساطيرِ عندَ الشُّعوبِ تجعلُ من الخيالِ حقيقةً، ومن الوهمِ شاهداً وبرهاناً، ومن المستحيلِ هيّناً سهلَ التّحقيقِ، ومن الغيبيَّاتِ قدراً واقعاً لا مُحالاً، والشُّعوبُ بفطرتِها تميلُ إلى الأساطيرِ، وتتعبَّدُ في محرابِ الأضاليلِ، وتركعُ في بساطِ الخيالِ، وتصلّي في معابدِ الأقوياءِ والطُّغاةِ والمستبدّين!
في قصَّةٍ طريفةٍ سألَ المعلّمُ طلّابَه عن المخلوقاتِ الّتي تطيرُ، فتنافسَ الطُّلّابُ في تعدادِ أنواعِ الطّيورِ والحشراتِ حتّى نفدَت جميعُ الإجاباتِ، فوقفَ طالبٌ حاذقٌ أرادَ أن يُحرزَ قصبَ السَّبقِ في الإجاباتِ لينالَ المركزَ الأوّلَ في المسابقةِ، فرفعَ يدَه قائلاً: هناكَ طائرٌ آخرُ يستطيعُ الطّيرانَ!
المعلّم: وما هذا الطّائرُ أيُّها العبقريُّ؟
الطّالب: إنّه الفيلُ يا معلّمي!
فضحِكَ المعلّمُ والطّلّابُ من هذهِ الإجابةِ الّتي لا يقبلُها عقلٌ ولا منطقٌ!
فاستهجنَ الطّالبُ ضِحْكَ المعلّمِ والطُّلابِ قائلاً: لماذا تضحكُون؟
المعلّم: وكيفَ عرفتَ يا بنيَّ أنّ الفيلَ يطيرُ؟
الطّالب: أمَا سمعتَ قولَ القائدِ الحكيمِ الملهَم: أستطيعُ أن أجعلَ من الحمارِ مفكّراً، ومن المؤمنِ كافراً، ومن القرودِ قادةَ جيوشٍ، ومن الفيلةِ طيوراً تهيمُ في الفضاء!
فأجابَ المعلّم في الحالِ: نعمْ إنّ الفيلَ يستطيعُ الطيّرانَ في كثيرٍ من الأحوالِ يا أبنائي، لكنّه يفضِّلُ أن يظلَّ في الأرضِ!
فاعترضَ طالبٌ حاذقٌ آخر: ولكنْ يا معلّمي كيف يستطيعُ الفيلُ أن يطيرَ وليس لهُ جناحانِ؟
المعلّم: ما زلتَ صغيراً يا بنيَّ حتّى تفهمَ فلسفةَ الحياة، فحينَما تكبرُ ستعرفُ أنّ الفيلَ يطيرُ حقّاً، وأنّ الحمارَ يصبحُ فيلسوفاً، وأنّ المؤمنَ يغدو كافراً، وأنَّ القرودَ تقودُ الجيوشَ وأن.. وأن..!
وهكذا الحياةُ أيُّها العباقرةُ يا أبنائي! فلا مستحيلَ إلّا ما ذكرَه العربُ في أقوالِهم ومآثرِهم حين قالُوا: "المستحيلاتُ ثلاثةٌ: الغُولُ والعَنقاءُ والخِلّ الوَفيّ". كما جاءَ في قولِ شاعرِهم صفيِّ الدّين الحِلّي:
لَمّا رَأَيتُ بَني الزَمانِ وَما بِهِم
خِــــــلٌّ وَفِيٌّ لِلشَــــــــدائِدِ أَصْطَـــفي
أَيقَنتُ أَنَّ المُســــــتَحيلَ ثَلاثَةٌ
الغولُ وَالعَنقاءُ وَالخِلُّ الوَفي
وذهبَ بعضُهم الآخرُ في التّعبيرِ عن استحالةِ حصولِ الشّيءِ، بقولِه: هذا من سابعِ المستحيلاتِ، باعتبارِ معرفتِه بالمستحيلاتِ الثلاثةِ المشهورةِ منذُ القِدم: "الغولُ والعنقاءُ والخِلُّ الوفيّ"، وثلاثةٌ مستحدثةٌ هي: "القناعةُ والسّعادةُ الحقيقيّةُ وهوَسُ الشَّباب".
فلم يرِدْ في قولِهم استحالةُ طيرانِ الفيلِ، ولا نبوغُ الحميرِ في الفكرِ، ولا براعةُ القرودِ في القيادةِ.. ولا.. ولا.. ولا..!
وقد تتحقَّقُ المستحيلاتُ كلُّها في المستقبلِ، ويظلُّ السّابعُ بعيدَ المنالِ ومُحالَ الوصولِ إليه؛ إنّهُ المستحيلُ الوحيدُ الّذي لن يتحقَّقَ أبداً، وهو أنْ نجعلَ من الإنسانِ إنساناً عاقلاً، ونغرسَ فيهِ قيمَ الإنسانيّة في حرّيّةِ الفكرِ والاعتقادِ والتَّعبير.. ودعُوني عندَ هذا القولِ حتّى لا أطيرَ مع الفيلِ فتَروا في الحقيقةِ كيف يطيرُ الفيلُ!