جماليات المقاومة في نص ميادة سليمان
بيانات الكتاب
العنوان: رصاص وقرنفل
مهنا المؤلفة ميادة سليمان
الطبعة الأولى: 2018
الطباعة والإخراج: مؤسسة سوريانا للطباعة والإخراج والتدقيق
القراءة النقدية
يأتي كتاب «رصاص وقرنفل» لميادة مهند سليمان بوصفه نصًا يتقاطع فيه الوجدان الفردي مع التجربة الإنسانية الجمعية، في إطار لغوي وبنائي يشتبك مع أسئلة العنف والجمال، القسوة والهشاشة، الخراب والانبعاث. ومنذ العنوان، تتصاعد الثنائية المركزية التي تقوم عليها الرؤية الفنية للعمل: ثنائية الرصاص والقرنفل. إنها ليست مجرد استعارة عابرة، بل بنية سيميائية متكاملة تتحكم في إيقاع النص، وتمنحه نسقه الداخلي.
أولًا: الرصاص والقرنفل — ثنائية دلالية حاكمة
يقوم النص على تضاد دلالي واضح بين الرصاص والقرنفل؛ حيث يحضر الرصاص بوصفه رمزًا للموت والقمع وانهيار الأمان، فيما يتقدّم القرنفل بوصفه رمزًا للجمال المقاوم، وإصرار الحياة على الاستمرار رغم قوة العنف وسطوته. هذه الثنائية لا تُطرح على مستوى التسمية فقط، بل تتحوّل إلى منظومة رمزية تتحرك داخل النص، فتغدو كل صورة وكل لمحة من الواقع متأرجحة بين هذين القطبين أو متقاطعة معهما.
بهذا المعنى، يغدو «رصاص وقرنفل» نصًّا يقوم على هندسة دقيقة للتوتر الداخلي؛ حيث لا يُقَدَّم العنف باعتباره حدثًا عابرًا، بل كحالة مستمرة تتطلب حضورًا موازياً للجمال، يعيد بناء المعنى، ويمنع الذاكرة من السقوط الكامل في العتمة.
ثانيًا: بنية السرد — التكثيف وتوليد الدلالة
تعتمد ميادة سليمان على أسلوب سردي يقوم على اقتصادٍ واضح في اللغة، تُختزل فيه التجربة في جمل مكثفة، مشحونة بالانفعال والوعي في آن واحد. لا تذهب الكاتبة إلى الإسهاب الوصفي، بل تراهن على قدرة الإيحاء، وعلى المساحات البيضاء بين السطور، حيث يتكفّل القارئ بملئها من تجربته الخاصة.
هذا التكثيف لا يعني الفقر في التعبير، بل على العكس، يفتح مجالاً واسعًا لتوليد الدلالة. فكل عبارة تبدو قصيرة على مستوى التركيب، لكنها عميقة وممتدة على مستوى التأويل. وهنا تتبدّى قدرة النص على استدعاء مستويات متعددة من القراءة، من القراءة الانفعالية المباشرة حتى القراءة التحليلية الأكثر عمقًا.
كما أن حضور المفارقة في بناء الجملة والصورة يخلق نوعًا من الصدمة الجمالية؛ إذ تتجاور القسوة مع الرهافة، والظلام مع ومضات الضوء، وهو ما يمنح السرد طابعًا حداثيًا يتقاطع مع تقنيات الكتابة المعاصرة.
ثالثًا: الإنسان محور التجربة — قراءة أنثروبولوجية
يمكن النظر إلى «رصاص وقرنفل» من زاوية أنثروبولوجية بوصفه نصًّا يضع الإنسان في قلب العاصفة، لكنه يرفض اختزاله في صورة الضحية وحدها. فالإنسان هنا ذات مجروحة نعم، لكنها في الوقت نفسه ذات فاعلة، تسعى لاستعادة توازنها الداخلي من خلال اللغة، والذاكرة، واستحضار الجمال.
يتعامل النص مع العنف لا بوصفه حدثًا خارجيًّا منفصلاً عن الذات، بل باعتباره قوة تقتحم الداخل، وتعيد تشكيل الوعي والهوية. ومن هنا، تبدو الشخصيات وهي تعيد صياغة علاقتها بالعالم وبذاتها، محاولةً أن تخلق لنفسها مساحات صغيرة من النجاة.
بهذه القراءة، يتحول الكتاب إلى شهادة أدبية على قدرة الذات على المقاومة، ليس بالسلاح، بل بالكلمة، وبالتشبث بعناصر الجمال الصغيرة التي تُبقي الإنسان إنسانًا، مهما اشتدّت قسوة الواقع.
رابعًا: جماليات اللغة — بين الشعرية والواقعية
لغة «رصاص وقرنفل» تتحرك في منطقة وسطى بين الشعرية والواقعية. فهي من جهة لغة موشّاة بالصور، تميل إلى التكثيف والاختزال والاستعارة، ومن جهة أخرى تظل متمسكة بقدرتها على الإحالة إلى واقع ملموس، وإلى حالات نفسية واجتماعية محددة.
هذا المزج يُنتج نسيجًا لغويًا مرنًا، يسمح للنص بأن يكون في آن واحد تجربة جمالية وتجربة معرفية. فالقارئ لا يخرج فقط بانفعال عاطفي، بل يخرج أيضًا برؤية أعمق للعلاقة المعقدة بين الإنسان والعنف، وبين الذاكرة والجسد، وبين الماضي ومحاولة ترميم الحاضر.
تتفادى الكاتبة الميل إلى الخطابة أو المباشرة التقريرية، وتُبقي اللغة في حالة توتر بين البساطة والعمق، بين وضوح الصورة وامتداد دلالاتها، وهو ما ينسجم تمامًا مع طبيعة التجربة التي يقدّمها الكتاب.
خامسًا: البعد الفلسفي — الجمال بوصفه فعل مقاومة
لا يتعامل الكتاب مع الجمال كزينة شكلية أو كاستراحة عابرة من ثقل الواقع، بل يطرحه كفعل مقاومة مكتمل، وكخيار وجودي يوازي في قوته فعل الرفض ذاته. فالقرنفل في هذا السياق ليس رمزًا بريئًا، بل موقفًا؛ إنه إعلان عن رفض الاستسلام لهيمنة الرصاص، وعن إصرار على إبقاء نافذة مفتوحة نحو الضوء.
بهذا المعنى، يقترب النص من رؤية فلسفية ترى أن النجاة لا تتحقق بإنكار العنف أو محوه، بل بالاعتراف به وتجاوزه، وبصوغ خطاب جمالي قادر على استيعاب الألم وتفكيكه وتحويله إلى طاقة للحياة لا إلى أداة للفناء الداخلي.
خاتمة
يُقدّم كتاب «رصاص وقرنفل» لميادة مهند سليمان تجربة أدبية مُحكمة البناء، ثرية الدلالات، تشتبك مع أسئلة الإنسان في زمن تتكاثر فيه أشكال العنف المادي والمعنوي. ومن خلال ثنائية الرصاص والقرنفل، وبنية سردية مكثفة، ولغة تجمع بين الشعرية والواقعية، ينجح النص في أن يمنح القارئ مساحة للتأمل وإعادة النظر في علاقته بالعالم.
إنه نص يضيف إلى المكتبة العربية صوتًا يوازن بين الجمال والمقاومة، بين الاعتراف بالوجع والإيمان بإمكانية تجاوزه، ويُرسّخ حضور الكاتبة بوصفها قادرة على تحويل التجربة القاسية إلى خطاب إنساني مفتوح على الأفق، يستحق القراءة والنقاش والدراسة.
