صفاء أبو خضرة على مائدة الحوار الأدبي
رواية "أنيموس" للكاتبة صفاء أبو خضرة، الصادرة في عام 2018 أول عمل روائي منشور لها بعد مسيرة إبداعية ركزت فيها على الشعر ونصوصه، ويعدّ هذا العمل السردي إضافة نوعية جريئة ومؤسسة في المشهد الروائي العربي المعاصر، ويتناول بعمق وألم قضية الهوية المفقودة والتشظي النفسي، متمحورة حول شخصية "تيم"؛ ذلك الطفل الذي يواجه مأزقاً وجودياً ناتجاً عن فقدانه لذكورته في سن الرابعة.
إن الحوار الذي نشر (الجمعة 7/11/2025) في منصة آفاق حرة «*»مع الكاتبة صفاء أبو خضرة، وأعدّت أسئلته الكاتبة تبارك الياسين«**» حول هذه الرواية، يعد "نصّاً موازياً فوقياً"، إذ يشكّل وثيقة تحليلية مهمّة جدّاً؛ لأنّه يقدم اعترافاً من الكاتبة، يكشف عن البنية العميقة للنص ومحركات الكاتبة الداخلية، مما يجعله جزءاً موازياً لجنس السيرة الذاتية للنص، فقد قدمت الكاتبة شهادتها التفصيلية حول الكيفية التي تحولت فيها عملية الكتابة من فعل فني كتابي إلى عملية "تحرير ذاتي" و"أداة دفاع ومقاومة"، هذا التحول يشير إلى أن الرواية لم تولد من رغبة فنية خالصة، إنما كانت نتيجة استجابة لألم يضغط على الأعصاب، حيث تحول الإبداع إلى ضرورة علاجية كان هدفها النسيان والتحرير من صورة الطفل المعذَّب.
إن هذا العمق في دوافع الكتابة يفسر الجرأة الفنية والموضوعية للرواية، إذ إنها تنبع من حاجة داخلية ملحة، وليس اختياراً موضوعياً عابراً، ولذلك، فإنه ينبغي قراءة الرواية ليس بوصفها نصا روائيا خياليا، بل وثيقة نضال نفسي، تجسد المخاض العسير الذي خاضته الكاتبة والمادة البحثية والمعرفية التي استندت إليها في إنجازها هذه الرواية.
يعكس عنوان الرواية ذاته، "أنيموس"، البعد الفلسفي النفسي للرواية، حيث استمدته الكاتبة من نظرية كارل يونغ في التحليل النفسي، وأشارت الكاتبة إلى أنها قرأت أعمال يونغ، وتأثرت بطريقة عرضه لمفهومي "الأنيما والأنيموس"، اللذين يتوافقان تماماً مع حالة بطل الرواية "تيم"، كان هذا التوافق ضرورياً لتأطير صراع تيم في ضياعه وبحثه عن هويته، وتفسير حالته من التشظي النفسي والتناقضات الداخلية والاصطدام بالواقع المعيش.
يمثل الطفل "تيم" نموذجاً حياً للتشظي، فهو ضحية "الانْبثاقات التي نتجتْ عن عالمهِ الداخليّ (الأنا)"، وعجزهِ عن قمع الـ "أنا" في (لا وعيه) بمقدار الخضوع للمحرضات الخارجية، ويكمن جذر الصراع المأساوي في فقدان تيم لذكورته بعمر الرابعة نتيجة عملية ختان، هذا التجريد المبكر للهوية الجسدية أدى إلى نمو ضعفه الداخلي، مما انعكس على تقلباته المزاجية والفكرية والحياتية، وصولاً إلى نوبات من الهلع والخوف، وفقدانه لهويته الجنسية التي أصبحت متأرجحة بين الأنوثة والذكورة، إن هذا التشظي الدائم دفعه للهروب من ذاته إلى (لا وعيه) الذي اختزن طرقاً عديدة للهروب من وضعه المأساوي، حتى أودى به الأمر إلى قرارات خاطئة كتحويل جنسه.
الأنيموس، في سياق يونغ، يمثل الجانب الذكوري الكامن في اللاوعي الأنثوي، والأنيما تمثل الجانب الأنثوي الكامن في اللاوعي الذكوري، ويمكن لهذين المفهومين اعتبارهما "حراس الخلفيات المعتمة"، حيث أن الصورة الكامنة في اللاوعي لا يمكن تفسيرها وفق منظومة الوعي، في حالة تيم، استخدمت الكاتبة هذه النظرية لتوفير إطار علمي ونفسي يمكن من خلاله معالجة حالة اجتماعية شائكة ومسكوت عنها؛ فالبطل هو شخصية مركبة بين الخيـر والشر، بين الأنوثة والذكورة، وبين الماضي والحاضر، إنه يمثل عالمنا الذي يحتضر بذاته، يعيش على بذور فنائهِ.
الرواية تبين أن النفس البشرية ليست وحدة واحدة، بل مكونة من مركبات متناقضة، وأن اللاوعي يحتفظ بفعل ما دون أن يعنى إن كان الوعي قد شعر بنقصه أم لا، بالتالي، فإن العلاقة بين المفهوم الفلسفي ليونغ وبين التركيبة العجيبة التي خاضها تيم كانت أساسية، إذ إنها تجاوزت الرواية موضوعها المتمثل في كونه قصة عن تحول جنسي لتصبح دراسة عميقة عن كيفية تأثير الصدمات المبكرة على بنية الذات، ففي هذه الحالة، أصبح اللاوعي- بما يحمله من صراعات- القوة المهيمنة على حياة الفرد، مما برر استخدام الكاتبة للعنوان المفاهيمي كمدخل للتحليل السردي.
لقد تجاوزت كتابة رواية "أنيموس" كونها مشروعا أدبياً، لتصبح عملية "عِراك" شخصي ووجداني امتد لأربع سنوات من "المخاض العسير"، ويوضح الحوار أن الكاتبة واجهت تحدياً صعباً مع نفسها، كان دافعه الأصلي ليس الرغبة في الإنتاج الأدبي بقدر ما هو الرغبة في النسيان والتحرر، لقد أرادت أن تكتب كي تنسى وجه (تيم) الطفل الذي ظل يلاحقها بنظراته مطالباً بالحرية كلما أغمضت عينيها، بالتالي، كان الهدف المعلن هو تحرير النفس الكاتبة قبل تحرير الطفل ذاته؛ فالكتابة تتحول إلى عملية تطهير ذاتي ضرورية.
تقرّ الكاتبة خلال الحوار أن الكاتب قد يكرر نفسه أحياناً في كتاباته، ويعكس صراعاته النفسية، مؤكدة أن الكتابة بحد ذاتها "صِراع" مع الشخصية والحدث والفكرة، هذه المعاناة كانت حاضرة بشدة في تجربتها مع "أنيموس"، مما أدى إلى مشاعر جيّاشة لدرجة الكوابيس التي راودتها كل ليلة، وإلى الدموع التي لم تنفكّ تجفّ كلّما تذكرت وجه البطل، كان الضغط النفسي عالياً جداً، خاصة في مرحلة دراسة الفكرة وتطويرها، مما أدى إلى "أرق، وألم وخوف، وذعر".
على الرغم من هذا العبء، وصفت أبو خضرة هذا التوتر بأنه "توتر صحي"، ويفسر هذا التعبير أن الكاتبة ترى المعاناة ليست عائقاً بل محركاً ضرورياً للإبداع الأصيل، ويؤكد هذا المنظور أن عملية الكتابة كانت أشبه بالبحث الطبي والتحليل النفسي الذاتي، حيث احتاج الموضوع إلى "دراسة وبحث" معمقين، هذا يوضح أن الكاتبة تعتمد منهجية بحثية صارمة؛ لدعم الجانب النفسي والجمالي للرواية.
لقد اضطرت الكاتبة لقراءة كتب طبية والاستعانة باستشارات من متخصصين، ومشاهدة أفلام خاصة بالعمليات التجميلية والجراحية التي استدعتها حالة بطل الرواية، هذا التعمق في الواقع المؤلم والوقائع الطبية سبب لها ألماً لم تشعر به من قبل، لكن هذا الجهد كان ضرورياً ليخرج العمل "متكاملاً ومستنداً في حقيقته إلى أسس مدروسة"، ولا بد منه في رواية مثل هذه، ذات أسس علمية، حتى لا تقع الكتابة في أخطاء من أيّ نوع تجعل النص الروائي لا قيمة معرفية له، لأن الرواية في نهاية المطاف ليست "حكاية" فقط.
إضافة إلى الصراع الوجودي والبحث المعرفي، واجهت الكاتبة تحدياً فنياً كبيـراً وهو التحدي في تجسيد شخصيات متعددة يتحدثون بأصواتهم دون أن تتحدث هي بالنيابة عنهم؛ بصوتها الخاص، وأن يكون الاعتراض من وجهة نظرهم لا من وجهة نظرها، أي أن تكون أحداً غيرها في النص المسرود، هذا التحدي ضروري لإنتاج شخصيات مركبة تعكس الصراع النفسي الداخلي والخارجي لتيم وبقية الشخصيات بصدق فنـي يتطلبه الفنّ الروائي حتـى لا تقع الرواية في فخّ مصادرة صوت الآخرين وانتزاع حقهم في التعبير عن قضاياهم.
لم يقتصر التحدي في "أنيموس" على الموضوع أو المخاض النفسي، بل امتد ليشمل البنية السردية ذاتها، جاءت الرواية بحبكة غير خطيّة تتوزع عبر "شظايا" من السرد والذاكرة، هذه البنية الفنية المعقدة لم تكن اختياراً عبثياً، بل معادلاً موضوعياً لحالة التشظي والضياع الهوياتي التي يعيشها البطل "تيم".
وصفت الكاتبة- خلال حوارها- الحبكة غيـر الخطية بأنها مثيرة، وتعد تحدياً كبيراً، مؤكدة أنها "بالفعل شظايا، هي أيضاً مدّ وجزر، ذهاب وعودة، سفر عبـر الزمن، عبـر الماضي والحاضر"، ويتضح أن التشظي السردي تناغم بين الشكل والمضمون؛ فبما أن البطل يعيش صراع الهوية بين الماضي بصدمته المبكرة، والحاضر بما يمثله من ضياع، فقد تطلب الأمر حبكة مثل هذه، تكسر المعتاد والطبيعي؛ لتمثيل هذا الصراع بعمق، عبـر "جسور متشابكة، لكنّها تصل بعضها ببعض، ولا يمكن تخطّي أي من تلك الجسور".
إن الصعوبة الفنية في بناء هذا الشكل تتجلى في ضرورة الحفاظ على التـرابط رغم التشتت الظاهري، مما يتطلب "دقة ومتانة في الطرح حتى لا تحدث الفجوات" السردية، هذا الأسلوب يفرض متطلبات ذهنية عالية على الكاتبة؛ إذ تطلبت هذه البنية أن تكون "الأعصاب مشدودة طيلة فترة الكتابة"، وحاجة إلى "قراءة مرات عدة وتدوين الملاحظات، وإلى حواس متفتحة وذاكرة خصبة وحاضرة"، وهذا يفسر وصفها المسبق للعملية الكتابية بأنها "توتر صحي".
تتطلب كتابة هذا النوع من الأعمال المركبة جهداً مضاعفاً في بناء الخاتمة، وتصف الكاتبة الوصول إلى النهاية بأنه أمر شاق جداً "يشبه حالة النـزاع"، بل ويشبه "خروج الروح من الجسد"، ورغم أن الشك والتـردد يساورانها لضمان نهاية "صحيحة ومتينة"، إلا أن اللحظة الحاسمة في كلمة (تمّت) كما تقول صفاء أو خضرة قد تأتي بشكل قسري، حيث قد "تكون النقطة الأخيرة حضرت نفسَها بنفسِها، كأن يغلق الباب فجأة ولا تستطيع فتحه بعد ذلك أبداً".
إن استخدام الكاتبة لهذه البنية المعقدة دليل على إيمانها بأن التحديات الفنية لا توقفها، بل تشدّ من أزرها وتخلق لديها دافعاً قوياً لتكمل المسيرة، وبذلك، فإن رواية "أنيموس" تقدم محاكاة دقيقة ومؤلمة لحالة الذهن المشطور، وتؤكد أن التعقيد الوجودي للبطل يفرض تعقيداً موازياً على البنية السردية.
يغلب على لغة صفاء أبو خضرة الشاعرية في الصياغات اللغوية، كونها لغة تشكلت في وعاء الشعر والقصيدة، مما طرح تحدياً حقيقياً في كيفية نقل هذا الثراء اللغوي من فضاء القصيدة إلى متطلبات السرد الروائي دون إرباك الإيقاع القصصي، وترى الكاتبة والشاعرة التـي سبق أن أصدرت مجموعة من الدواوين الشعرية أن اللغة عنصر أساسي في الكتابة و"سلاح ذو حدّين"، يمنح النص "عمقاً جمالياً ونفسياً"، وقد يودي به إذا لم تكن اللغة سردية مناسبة، من هنا أصبحت الموازنة بين الإيقاع الشعري والإيقاع السردي أمراً محورياً، فاستخدمت الكاتبة اللغة الشعرية باعتدال حتـى لا تربك النصّ وتخسر إيقاعه السردي"، هذا الاستخدام الاستراتيجي يهدف إلى نقل القارئ إلى "عالم مدهش جاذب ومتخيّل وعميق"، ويعزى هذا النهج إلى كون اللغة الشعرية لغتها في الأساس التي بدأتْ بها أول خطواتها نحو الكتابة، إذاً، اندمجت الخلفية الشعرية ذات الصبغة الجمالية بالأداء الوظيفي لتلك اللغة، من أجل التبسيط المعرفي، مما سمح بتليين المفاهيم الفلسفية المعقدة وتجسيدها حِسياً.
لقد واجهت الرواية تحديات كتابية إضافة إلى ما ذكر أعلاه، ومن تلك التحديات دمج الإشارات الفكرية إلى فرويد ويونغ وغيرهما في عصب النص السردي ولحمته اللغوية دون أن يشعر القارئ بثقل المفاهيم الفلسفية، كان هذا التحدي كبيـراً، لأن المفاهيم بطبيعتها معقدة إذا أخذت بقالبها الخارجي، ولتجاوز هذا التحدي فقد طرحتها الكاتبة بطريقة "متحركة، ليّنة، داخل النص، من خلال لغة الشخصيات، وتعبيرهم عن مشاعرهم وهواجسهم وتحرّكاتهم".
على سبيل المثال، لم يتم شرح مفهوم الانتظار أو الأحلام بشكلها الفلسفي المباشر، بل تم "تعريفه بلغة شاعرية محسوسة، متخيّلة ومصوّرة"، وبشكلها المحسوس، وهذا يمثل المزاوجة بين العمق والبيان الشعري ومتطلبات السرد، وترى الكاتبة أن الأفكار الفلسفية تصبح سهلة "حين تتجسّد، وتعكس الصراع النفسي أو حتـى الرغبة" من خلال الشخصيات وعلاقاتها الطبيعية معا في النص السردي.
ولتحقيق السلاسة، ابتعدت أبو خضرة في "أنيموس" عن نبـرة الوعظ والإرشاد وإلقاء الأوامر، وانتهجت "الكتابة من قلب التجربة، والمشاعر السائلة التي تمثل كلّ واحد فينا"، واعتمدت لغة "شفافة لكن عميقة تشبه التيار بظاهره الشفاف قويّ ومخيف لكنّه بارد ولطيف"، هذا النجاح في المزاوجة بين ثراء الشعر ومتطلبات السرد الروائي يؤكد أن الشعرية في "أنيموس" كانت جسراً للعبور إلى الأبعاد الفكرية المتنوعة، وكان عاملاً مساعدا لتظل الرواية مشعة بجمالها اللغوي وحاضرة حتـى بعد أكثـر من سبع سنوات على إصدارها، وتدفع الوسط الثقافي إلى استحضارها في هذا الحوار المخصص لها، إن هذه التركيبة اللغوية المعجونة من الشعر والسرد شكلت لغة ثالثة تحيا في النص، وتديم حياته بين القراء.
تتناول "أنيموس" موضوعات شديدة الحساسية والجرأة مثل الهوية الجنسية والتمرد على الأعراف الاجتماعية، هذه الجرأة لم تأتِ دون ثمن نفسي أو خوف من ردود فعل القراء، وهو ما أقرّت به الكاتبة في حوارها مع "آفاق حرّة"، لمعرفتها المسبقة بنظرات الآخرين وأفكارهم، ومع ذلك، تجاوزت الكاتبة هذا الخوف من منطلق إيمانها بأن "الكتابة هي مبدأ وأداة دفاع ومقاومة".
إن هذه الجرأة في الطرح الموضوعي، وتوظيف مفردات الجنس وحركاته وإيماءاته، تم لمعالجة قضية إنسانية بعمق فني ووعي تام بما تريد الكاتبة أن تنتهي إليه، إن هذا التوظيف هو تحويل للجرأة الفردية إلى نقد بنيوي؛ حيث تؤكد الكاتبة "إن لم يتمرّد [الكاتب] لن يستطيع الخروج من خلف القضبان سيبقى سجيناً للأبد"، فالكتابة هنا هي صرخة ضرورية ضد الجمود الاجتماعي.
إن صراع تيم في الرواية يوضع في سياق أوسع من صراع بين ذكورة وأنوثة؛ إذ ترى الكاتبة أنه يعكس "أزمة وعي حضاري بأكمله"، فالصراع الأساسي يدور بين "نظام رمزي يقدّس السلطة والأدوار الثابتة" وبين "وعي يبحث عن التوازن"، هذا التحليل يربط مصير تيم الفردي بالنقد الاجتماعي والفكري.
يتمثل التمرد في الرواية في "صرخة وجودية تسعى إلى إعادة تعريف الذات خارج القوالب الخشبية المتهالكة"، هي تمثيل لتجربة الإنسان العربي الذي يعيش في قيود، سواء تلك المفروضة عليه أو التي خلقها لنفسه دون محاولة للخروج منها، هذه القيود تتـرك شرخاً كبيـراً لا يندمل إلا بـ "صرخة ومقاومة ونظرة شمولية حقيقية نحو الحرية".
بهذا المنظور، يتم توظيف "الأنيموس" ليصبح قضية الهوية الجنسية الفردية كمدخل لنقد أوسع للجمود الاجتماعي والرمزي في الثقافة العربية، إنها تؤكد أن التحرر الذاتي هو شرط للتحرر الاجتماعي والحضاري، وتضع الكاتبة بوعي نفسها في خانة "الكاتب المتمرد" الذي لا يعنيه إرضاء القراء بقدر ما يعنيه إثارة التفكيـر في الزوايا المعتمة للمجتمع، وكما جاء في اقتباسات الرواية المفتتحة للفصول: "لا يفيد لوم المرآة، إذا كان وجهكَ مَعيبا"، و "من يعيشَ في خوفٍ لن يكونَ حرًّا أبدًا"، تؤكد الرواية ضرورة المواجهة وتأصيل الحرية.
رغم أن صفاء أبو خضرة أنجزت ديوانين شعريين ومجموعة قصصية قبل "أنيموس"، إلا أنها اختارت هذه الرواية بالتحديد لتكون انطلاقتها العلنية في عالم الرواية عام 2018، تلتها روايتها الثانية "اليركون" التي صدرت عام 2024 في عز احتدام الحرب الهمجية على غزة، هذا الاختيار التأسيسي يعكس ثقة الكاتبة بجرأتها وعمقها كبوابة لعبورها إلى السرد الروائي في الظروف الطبيعية وفي الظروف الحالكة كذلك، لتظل تمارس دورها؛ كونها كاتبة متمردة في ظل عالم غارق في أشيائه التي لا تعني العالم في شيء.
وبذلك يمكن النظر إلى "أنيموس" بوصفه نصا تأسيسياً لهذه الحرية ولهذا التمرد، لكن هذا العمل يمثل مرحلة التحرر الذاتي والوجودي للكاتبة، ويظهر تطور الرؤية الإبداعية من خلال المقارنة بين هذا العمل وبين روايتها السياسية الوطنية، اليركون. بينما ركزت أنيموس على الصراع الوجودي الفردي، والتشظي النفسي، والهوية الجنسية، فإن رواية اليركون فلسطينية بامتياز؛ لأنها انحازت إلى التركيز على الهوية الوطنية والقضية الفلسطينية، حيث مفردات النكبة، والمخيم، والمقاومة، وإحياء شخصيات تاريخية كغسان كنفاني، وإحياء التاريخ الثقافي الفلسطيني الذي يؤكد كنعانية الأرض قبل موجة الاحتلال البغيضة التي بدأت عام 1948 ولم تنته إلى الآن، يظهر هذالانحياز الإيجابي من خلال اخياراتها اللغوية المتمثلة أولاً وقبل أي شيء بمفردة "اليركون" الاسم الفلسطيني الكنعاني لنهر العوجا في فلسطين المحتلة، كأنها تعيد القارئ أيضا إلى مبدأ النكبة، حيث مبدأ الجغرافيا الضائعة والمستولى عليها.
من هذه النقطة يأخذ الحوار منحى آخر للحديث عن العمل الثاني "اليركون"، إذ تؤكد الكاتبة أن شغفها بتدوين الحكايات من الجدات والنساء الكبيـرات في السن منذ طفولتها كان يشتمل على حسّ روائي وسردي، هذا الاهتمام بالتاريخ والذاكرة يتجلى بوضوح في "اليركون" التي أعادت إحياء جرح الأرض وبحثت في عمق الهوية.
وعلى الرغم من التغييـر الواضح في النطاق الموضوعي للروايتين من النفسي الفردي في "أنيموس" إلى السياسي الجماعي في "اليركون"، تبقى ثيمات البحث عن الهوية، والصراع، والمقاومة ثابتة في مسيرة الكاتبة. فإذا كان صراع أنيموس ضد "نظام رمزي يقدّس السلطة والأدوار الثابتة"، فصراع اليركون هو ضد نظام رمزي يحتل الأرض والذاكرة، والثقافة والتاريخ، ويحاول محو الإنسان الفلسطيني ككائن حيّ وكائن حضاري كذلك.
هذا التطور يؤكد أن صفاء أبو خضرة تنظر إلى الرواية كفعل متكامل من المقاومة، يبدأ بتحرير الذات الفردية من قيودها وقوالبها المتهالكة، ويستمر بتحرير الذاكرة والوعي الجماعي من الاحتلال والتهميش، فأنيموس لم تكن النهاية، بل بداية حكاية أكبر تعبر عن مكنونات الإنسان العربي مهما اختلفت توجهاته وأفكاره فإنه لن يختلف مع صلب هذه الأفكار التي طرحتها الكاتبة في روايتيها.
يؤكد تحليل الحوار مع الكاتبة حول رواية "أنيموس" أن هذا العمل الأدبي كان ثمرة تكامل بين العمق الفلسفي والجهد البحثي والتضحية الوجدانية، وقد نجحت الكاتبة صفاء أبو خضرة في تقديم عمل يتجاوز حدود السرد التقليدي ليصبح دراسة نفسية واجتماعية، وبالتالي يمثل هذا الحوار مع صفاء أبو خضرة المفتاح الضروري لفهم عمق النص وتعقيداته، ويضيف بعدا نقديا مهما لمن أراد دراسة الرواية دراسة تفصيلية حسب نظريات "السرد المعاصرة"، ويثبت أن الروايات تولد في العادة من ضرورات وجودية ومحن شخصية وأحداث واقعية، وهزات وعي سياسية كبيـرة، مما منح الروايتين معاً قوة ومكانة كعملين أدبيين، لا يمكن تجاهلهما في دراسة ثيمات الهوية والتمرد في الأدب العربي الحديث، ومن الطبيعي أن تكون هاتين الروايتين مقدمة لمشروع سردي ممتدّ ومتنوع للكاتبة صفاء أبو خضرة، مشروع روائي واعد يضيف إلى معمار الرواية العربية لبنات مميزة.
الهوامش:
«*» لقراءة الحوار من خلال هذا الرابط: https://urli.info/1iZqM، ونشر بعد ذلك في عدة مواقع إلكترونية ثقافية.
«**» تبارك محمد عبودة صوالحة،من مواليد سوريا، كاتبة وفنانة تشكيلية، من أصل فلسطيني (عصيرة الشمالية- نابلس)، اشتهرت باسم "تبارك الياسين"، وقد صدر لها في فن الرواية "عفن أحمر"، و"شهقت القرية بالسر"، ومن المجموعات القصصية صدر لها "أريد أن أحكّ تلك الفكرة"، و"يوم بعثت لأحيا"، و"حين كانت الرغبة حرف جر"، وأقامت معرضين شخصيين الأول في السعودية، والثاني في الأردن، إضافة إلى معارض مشتركة في السعودية.
«***» صدر للكاتبة صفاء أبو خضرة ديوانان وهما: "ليس بعد" و"كأنه هو"، ومجموعة قصصية بعنوان "فلامنكو".
