الجمعة ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
الأدب الاعتقالي في فلسطين:
بقلم غدير حميدان الزبون

بين الزنزانة والحرية بالكلمة

الأدب الاعتقالي الفلسطيني هو حياة تتجلّى بالكلمة، ووعي يتحرّر رغم القيود، وشهادة تُدوّن على جسد الوطن قبل أنْ تُكتب على الورق.

في هذا الأدب، يلتقي الألم بالحرية، ويصعد الأسير فوق جدار الزنزانة ليصبح شاهدًا على ذاته وذاكرة شعبه، وصوتًا لا يمكن لأي قيد أن يُكمّمه.

إنه أدب يستحضر الوجود الإنساني في أقصى درجاته: الألم والصمود، الصمت والكلمة، السجن والسماء، ليخلق تجربة أدبية فريدة، قادرة على الإلهام وإعادة تشكيل الوعي الجمعي.

وبذلك، يصبح الأدب الاعتقالي الفلسطيني مشروع مقاومة ثقافي، يلتقي فيه الإبداع الفني مع السياسة الوطنية، ويصبح كل نصّ وثيقة حيّة للذاكرة الفلسطينية.

أولاً: جذور الأدب الاعتقالي الفلسطيني

1. مرحلة ما قبل النكبة

قبل عام 1948، كتب الفلسطينيون رسائل ومذكرات تتناول تجربة القمع الاستعماري البريطاني، ورفض التهجير والاحتلال. هذه الكتابات كانت محدودة الانتشار، لكنها شكلت نواة للأدب الاعتقالي، حيث أخذت من الألم روحًا، ومن الحرمان صلابة.

2. مرحلة ما بعد الاحتلال 1967

مع الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة، وازدياد الاعتقالات، بدأ الأدب الاعتقالي الفلسطيني بالظهور بشكل موسع.
فقد أصبح السجن مدرسة للأدب، والزنزانة مختبرًا لتجريب اللغة والوعي. كتب الأسرى قصصهم ورسائلهم وقصائدهم على أوراق صغيرة، على جدران الزنزانة، أو حتى على ملابسهم، لتبقى الشهادة حاضرة رغم الإقصاء.

3. مرحلة الانتفاضات

مع انتفاضتي 1987 و2000، أصبح الأدب الاعتقالي أداة وطنية مضاعفة: يوثق أحداث الانتفاضة ويعكس تجربة الأسرى، كما يعزز الانتماء الوطني لدى المجتمع الفلسطيني. هذه المرحلة شهدت كتابة نصوص أكثر جرأة، وتحليلًا نقديًا للتجربة الإنسانية تحت الاحتلال، مع حضور قوي للرمزية الأدبية والفلسفية.

ثانيًا: دور الأدب الاعتقالي في تشكيل الوعي الفلسطيني

1. بناء الهوية الوطنية

يُسهم الأدب الاعتقالي في تكوين وعي وطني متين، حيث يقدّم الأسير صورة الإنسان المقاوم، ويُظهر قوة إرادته في مواجهة آلة الاحتلال، وهو بذلك يُعزز الانتماء الوطني لدى الداخل والخارج.

2. التوثيق التاريخي والسياسي

تُعد النصوص الاعتقالية وثائق حية تحافظ على الأحداث والتفاصيل اليومية داخل السجون: أساليب التعذيب، العزل، الحرمان، المحاكمات، وحتى الانتصارات الصغيرة التي يعيشها الأسير كل يوم.

3. تفكيك السردية الاستعمارية

الأدب الاعتقالي يكشف زيف الرواية الإسرائيلية التي تصوّر الأسير كمجرم، ويقدّم الرواية الفلسطينية الحقيقية، الإنسانية، والمقاومة. كل كلمة مكتوبة داخل السجن أو عنه هي موقف أخلاقي وسياسي، يعيد تعريف الحرية والشجاعة.

4. الأثر العالمي

ترجمة العديد من النصوص الفلسطينية إلى لغات أجنبية ساهمت في إشراك العالم في القضية الفلسطينية، وأظهرت أن الأدب الاعتقالي جزء من حركة الأدب المقاوم العالمي، على غرار نصوص مانديلا وغرامشي.

ثالثًا: السمات الفنية والجمالية للأدب الاعتقالي الفلسطيني

1. اللغة المكثفة

نظرًا للظروف الصعبة، يميل هذا الأدب إلى لغة مختزلة لكنها غنية بالمعاني. كلمات قليلة تحمل مشاعر قوية، وتحوّل النص إلى مساحة تأملية وفلسفية، مع حضور الشعر الداخلي حتى في السرد الروائي.

2. البنية السردية

يعتمد على:
السرد بضمير الأنا.
اليوميات والمذكرات.
الرسائل المتبادلة بين الأسرى.
تقنية الاسترجاع الزمني (الفلاش باك).
الحوار الرمزي مع الوطن والأسرة والحرية.

3. الرمزية

يستعمل الأسير الرموز كالزنزانة، القيد، النافذة، الضوء، المفتاح، والزيتونة، لتجسيد مفاهيم الحرية، الصمود، الأمل، والانتماء.

4. التناص الديني والأدبي

يستحضر نصوصًا دينية من القرآن والإنجيل، وينسج تناصوصًا مع الأدب العربي الكلاسيكي والشعر المقاوم، مع إشارات إلى الأساطير الفلسطينية والعالمية.

رابعًا: نماذج أدبية وتحليلها

1. وليد دقّة – "سر الزيت"

رواية تعكس صمود الإنسان أمام القهر، وتحوّل الزنزانة إلى فضاء فلسفي للتأمل في الحرية والكرامة.

تُظهر الرواية العلاقة بين الفرد والوطن، والوعي بالمقاومة اليومية الصغيرة.

2. كريم يونس – "رسائل من قلب العاصفة"

يقدّم الأسير صورة الإنسان الذي يحافظ على إنسانيته رغم العزلة الطويلة، ويعلّمنا الصبر والصمود.

3. عبد الله البرغوثي – "أمير الظل"

يُبرز قدرة النصوص الاعتقالية على المزج بين السرد النضالي والسيرة الذاتية، ويكشف تفاصيل الحياة اليومية في السجن.

4. كتابات الأسيرات

تركّز على تجربة النساء في الأسر، خاصة الأمومة والمعاناة المزدوجة من الاحتلال ومن قيود السجن، لتخلق صوتًا نسويًا فريدًا داخل الأدب الاعتقالي.

خامسًا: التحديات التي تواجه الأدب الاعتقالي

المصادرة والمنع داخل السجون: تمنع إدارة السجون الأدوات والورق، وتضبط النصوص المكتوبة.

ضعف النشر الأكاديمي: تبقى العديد من النصوص مخطوطات غير منشورة.

قلة الترجمات: مما يقلل من وصولها إلى القارئ الدولي.

القيود السياسية والأمنية: يواجه الأدب الاعتقالي محاولات منع واسعة داخل فلسطين وخارجها.

الأدب الاعتقالي الفلسطيني هو شهادة حية على صمود الإنسان الفلسطيني وإبداعه تحت القيد.

إنه أدب يجمع بين المقاومة والفن، بين الشهادة والتوثيق، بين الوجع والأمل.

فكل نص يُكتب داخل السجن أو عنه يضيء العتمة، ويثبت أنّ الكلمة أقوى من القيد، وأنّ الحرية الحقيقية تبدأ في ذهن الإنسان قبل أنْ تبدأ في الأرض.

هذا الأدب ليس مجرد نصوص، بل هو حياة مكتوبة، ذاكرة حية، وهويّة فلسطينية صامدة، قادر على أنْ يوصل رسالة فلسطين إلى العالم، ويؤكد أنّ الكتابة مقاومة لا تُعتقل، وأنّ الحرية تبدأ بالكلمة قبل أن تتحقق على الأرض.

المصادر والمراجع:

مراجع عربية

دقّة، وليد. سرّ الزيت. القدس: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، 2018.
يونس، كريم. رسائل من قلب العاصفة. رام الله: وزارة الثقافة الفلسطينية، 2016.
البرغوثي، عبد الله. أمير الظل. بيروت: دار الأندلس، 2014.
أبو هواش، عيسى. "الأدب الاعتقالي الفلسطيني: دراسة توثيقية". مجلة شؤون فلسطينية، العدد 237، 2020.
شلاعطة، عزيز. أصوات من خلف القضبان. الناصرة: مركز الدراسات المعاصرة، 2019.
أبو رحمة، نائلة. أسيرات من فلسطين. رام الله: دار الشروق، 2013.

مراجع أجنبية

Mandela, Nelson. Long Walk to Freedom. London: Abacus, 1994.
Gramsci, Antonio. Letters from Prison. New York: Columbia University Press, 1994.
Soleiman, Samaher. Palestinian Prison Literature: Resistance and Identity. London: Routledge, 2021.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى