محمد ناجي ووليد مدفعي
في التاسع عشر من تشرين الثاني… حين يغيب الكاتبان وتبقى الأمة تحت الضوء محمد ناجي ووليد مدفعي
ثمة أيام تعبر رزنامة حياتنا من دون أن تشي بشيء،
وثمة أيام أخرى تُلقي بظلّها على وعينا،
كأنها تريد أن تقول شيئًا أكبر مما نملك القدرة على ترجمته فورًا.
التاسع عشر من تشرين الثاني واحد من هذه الأيام.
يومٌ يجمع بين رحيل كاتبين عربيين كبيرين:
المصري محمد ناجي والسوري وليد مدفعي،
كأنّ القدر أراد أن يجمع بين دلتا النيل وحارات دمشق،
بين رائحة الطين ورائحة الياسمين،
بين صوتين كتبا من أجل الإنسان… لا من أجل المجد.
هذا اليوم لا يضعنا أمام موتين، بل أمام مرآة واسعة نرى فيها هشاشتنا الثقافية، ومساحة الفقد التي تتّسع كلما رحل صاحب قلم حقيقي.
محمد ناجي… حين يصبح الكاتب ضميرًا لبلد بكامله
محمد ناجي لم يكن الكاتب الذي يملأ القاعات ضجيجًا.
كان الكاتب الذي يملأ الروح صدقًا.
خرج من قلب الريف المصري، من البيوت التي تعرف رائحة التراب أكثر مما تعرف وهج العناوين، ليكتب عن الإنسان البسيط كما لو أنه كنزٌ قومي يجب حفظه.
في كل رواية تركها ناجي، هناك حياة كاملة تُعاد إليها كرامتها:
حياة الفلاح، والمرأة المنسيّة، والحالم الذي يسقط ثم ينهض.
وعندما خذله الجسد، ظلّت الروح تكتب حتى آخر رمق.
حتى حين كان في باريس، في معركة الجسد الأخيرة،
ظلّ يحمل القلم كمن يحمل سلاحه الأخير.
رحيله في 19 نوفمبر كان فاجعة صامتة…
ذلك النوع من الفواجع التي لا تثير العناوين، لكنها تترك ارتجافة خفيفة في قلب كل قارئ صادق.
وليد مدفعي… حين تتحوّل دمشق إلى ورقة وقلب الكاتب إلى مدينة
وليد مدفعي لم يكن مجرد روائي أو مسرحي.
كان عينًا ثالثة لدمشق.
كتب عن البشر الذين يمشون في الأزقة، عن الوجوه التي تبتسم رغم خيباتها، عن تناقض الإنسان في مدينة تختزن التاريخ لكنها تنزف من حاضرها.
مدفعي لم يكن يكتب من مسافة،
كان يضع نفسه في النص.
كان يكتب بشجاعة، بسخرية حانية، بحكمة لا تتصنّع.
مسرحه كان مساحة لقول ما لا يُقال،
ورواياته كانت محاولة لفهم الإنسان وهو ينهزم أو ينتصر، أو حين يفعل الأمرين في اللحظة نفسها.
رحيله في اليوم ذاته لم يكن مجرد مصادفة زمنية…
بل كان تنبيهًا: أن الثقافة العربية تخسر واحدًا من شهودها كلما أُطفئت شمعة كاتب.
ماذا يقول لنا هذا اليوم؟
يقول لنا الكثير، لو أصغينا:
• إن الكتابة ليست ترفًا في زمن الأزمات، بل ضرورة للبقاء.
• إن الكتّاب لا يموتون إلا عندما نتوقف عن قراءتهم.
• إن الأمم التي تهمل كُتّابها، تهمل مستقبلها.
• وإن الذاكرة الثقافية ليست حدثًا، بل مسؤولية.
حين يجتمع رحيل ناجي ومدفعي في تاريخ واحد،
فهذا يعني أن الوجدان العربي—على تعدده—له جذع واحد:
الإنسان.
ثقافتنا اليوم بحاجة إلى هذه الأصوات… ولو جاءت من الغياب
في زمن تتصدّع فيه المنطقة،
وتزدحم فيه حياتنا بالخبر العاجل،
يأتي هذا اليوم ليقول لنا إن هناك ما هو أعمق من الضجيج:
هناك الكلمة.
الكلمة التي تغيّر الوعي.
الكلمة التي تحفظ الحكاية.
الكلمة التي تشهد على زمنٍ قد لا ينجو منه سوى الأدب.
محمد ناجي ووليد مدفعي ليسا ذكرى عابرة،
بل جسرين يصلان بين الماضي والحاضر،
بين الإنسان العربي وخوفه،
وبين وجعه وقدرته المدهشة على النجاة.
ختامًا… الأدب ليس حدادًا بل مقاومة
التاسع عشر من تشرين الثاني ليس يومًا للبكاء على الغياب،
بل يومًا للتفكير بجرأة:
ماذا نفعل نحن لنحمي أصوات كتّابنا؟
كيف نصنع مساحة للمعنى في عالم يضيق بالسطحية؟
وكيف نحافظ على جذوة الإنسان في زمن يحاول أن يطفئها كل صباح؟
إن موت كاتب ليس نهاية كتاب،
بل بداية سؤال.
وفي هذا السؤال…
تنهض الأمم التي تعرف قيمة الكلمة.
