الأحد ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
طولكرم
بقلم رانيا مرجية

مدينةٌ تعلّم القلب كيف يقف دون خوف

ثمة مدنٌ

يظنّها المرء بعيدة،

حتى إذا وصلها

اكتشف أنها كانت أقرب إليه

من أماكن كثيرة عاش فيها سنوات طويلة.

هكذا كانت طولكرم بالنسبة لي:

مدينة لا تستقبل الزائر،

بل تستقبل روحه أوّلًا،

كأنها تعرف ما أنهكه

قبل أن يبوح.

دخلتها—أنا وصديقتي الكاتبة سيما صيرفي—

وفي القلب انتظارٌ هادئ

لبلدةٍ يُقال إنها تحمل طيبةَ أهلها

كرايةٍ لا تنكس.

لكنّ الحقيقة كانت أبعد من ذلك بكثير:

طولكرم لا تقدّم الوداعة،

بل تقدّم قوةً هادئة

تُشبه امرأةً وقفت طويلًا أمام الريح

ولم تنحنِ.

مدينة تحفظ ذاكرة ناسها كما تحفظ الأمّ آخر صورة لطفلها

في شوارعها

لا شيء مرتّب على طريقة المدن الكبيرة،

ومع ذلك

كلّ شيء في مكانه الدقيق:

المارة الذين يبتسمون دون سبب،

رائحة الخبز التي تسبق الظهيرة،

والأبواب القديمة

التي ترفض الاعتزال

لأن داخل هذه البيوت

ما زال هناك من يؤمن بالدفء.

طولكرم مدينةٌ

تتحمّل صمتها كما تتحمّل ضجيجها،

وتعرف أن الكرامة

ليست ادعاءً،

بل أسلوب حياة

لناسٍ لم يسمحوا للوجع

أن يشوّه وجوههم.

زيارة رولا غانم… حين تتحوّل الكلمة إلى مكان آمن

حين وصلنا إلى بيت الكاتبة رولا غانم،

كان المشهد أبعد من لقاء ودّي.

كان دخولًا إلى مساحة إنسانية محفوظة

لا يدخلها إلا من يعرف قيمة الحكاية.

رولا استقبلتنا

بهدوء امرأة

تعرف أنها لا تواجه العالم بالكلام،

بل بمخزونٍ من الإيمان العميق

بأن الأدب

ليس ترفًا

ولا غاية،

بل وسيلة للبقاء.

كلماتها لم تكن خطبًا،

ولا مواعظ،

كانت جملةً تخرج كنبضة،

وأخرى تهبط كطمأنينة،

وثالثة تُعيد ترتيب شعورك

لأنك تسمع الحقيقة

من منبعها الأول:

من امرأة لا تكتب لتُدهش،

بل لتشهد،

وتشهد بصدق.

سيما إلى جانبي

كانت تجمع الكلام

كما تجمع الأمّ

قطع الضوء المتناثرة في غرفة طفلها،

وأنا كنت أعلم

أن ما يُقال في هذا البيت

لن يبقى في البيت،

بل سيخرج معنا

كما تخرج البركة

مع الضيف الذي يُستقبل بمحبة.

طولكرم… مدينة لا تُغادر الزائر

عند الغروب،

وحين غادرنا،

لم يكن الطريق عودة،

بل استمرارًا لحالة وجدانية

بدأت هناك

ولم تنتهِ عند باب السيارة.

طولكرم لا تقول لك “ارجع”،

ولا تقول “ابقَ”،

هي تقول شيئًا أعمق:

“خذني معك بالطريقة التي تشاء.”

ومثل كل المدن التي تُشبه الأمّ،

فإنها تظلّ في اليد

وفي الجيب

وفي الذاكرة

وفي تلك المساحة الدقيقة من الروح

التي لا يجرؤ عليها أحد.

ولأن المدن الكبيرة تتعب،

والعالم يعلو صوته،

يبقى للمدن التي تتكلّم بالبساطة

وبالصدق

وبالإيمان بالإنسان

مكانٌ لا يزاحمها فيه أحد.

وطولكرم

هي إحدى هذه المدن النادرة:

مدينة لا تستعرض قوتها،

بل تمارسها…

وتعلّمك

أن الوقوف على قدميك

أمرٌ يحتاج أحيانًا

إلى مدينة

تمنحك قلبها أولًا

قبل أن تمنحك طريقها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى