القصيدة على الحافة
إذا كنت لأؤرّخ علاقتي بقصيدة النثر، سأقول إنها بدأت يوم وضعت معلمة اللغة الفرنسية بين أيدينا قصيدتي "حرية" لبول ايلوار، و"نزوح" لرينه شار. كنت آنذاك في الثانية عشرة من عمري، وفي الصف الثالث المتوسط. لا أزال، الآن، أحيا تلك اللحظة المنعطف، كما لو أنها حدثت في الأمس، وتحدث اليوم. قبلها، كانت لي محاولات كتابية، خصوصا في القصة، لكني أدركتُ مع هاتين القصيدتين كم أني أنتمي الى الشعر. الى هذا الشعر بالذات.
وأنّ هذا، هو الشعر الذي أريد أن أحياه، وأن أقرأه، وأن أكتبه، وأن أنحاز اليه. ثم اكتشفتُ في مرحلة لاحقة قصائد أخرى لشار وايلوار، وبعدهما لأراغون. وعندما ترقيتُ الى الصف الأعلى، سرقني بودلير ورامبو. والى لصوص النار هؤلاء، خطفتني عصابة من الشعراء الجميلين بهذه اللغة، دلّني عليهم فضولي الأدبي الخاص، خارج المنهج التعليمي. لكنّ هذا المنهج، بالفرنسية تحديدا، كان له فضل قدح الشرارة الأولى. وهذه الشرارة المولّدة هي البوصلة التي فتحت أمامي الطريق الى الشعر.
في موازاة ذلك، لم نكن نألف في مدارسنا، نحن أبناء العربية، شعرا عربيا يشبه هذا الشعر الفرنسي الذي أحسست بالانتماء اليه. كانت أكثر قراءاتي بالعربية محصورة بالروايات، فضلا عن اعمال جبران النثرية، الأقرب ما تكون الى روح الشعرية الحديثة. لكن أستاذ العربية كان يقول لنا ويكرر على مسامعنا، حول أعمال جبران هذه: إنها ليست شعرا. إنها نثر. هكذا ولدت في ذهني سكيزوفرينيا كاملة بين معنى الشعر بالفرنسية ومعناه بالعربية، حيث انحصر الأخير بمفهوم الاستظهار، وخلاصته قصائد مقفّاة وموزونة، كنت أحفظها من دون أن أشعر بأيّ تماهٍ معها، لا شكلا ولا مضمونا، بمعزل عن قيمتها أو جماليتها
.
كان ذلك في الثمانينات. نحن اليوم في سنة 2006. أي ان نحوا من عشرين عاما قد انقضت منذ ذلك الحين. ابني البكر، هو اليوم في الصف الثالث المتوسط، ويدرس بالفرنسية قصائد أراغون في حين أنه يحفظ في العربية الاستظهار تلو الاستظهار، حفظاً ببغائيا. ابني هذا يسألني: كيف تقولين لي إن ما تكتبينه شعر، فيما لا تنتهي الأسطر الشعرية في قصائدك على القافية نفسها
؟
نحوٌ من عشرين عاما قد انقضت، وقبلها انقضت عشرينات كثيرة، ولم يتغيّر شيء أساسي في مناهجنا الدراسية بالعربية. وأكاد أقول إن عشرين عاما أخرى ستنقضي، من دون أن يتغيّر حرف واحد في هذه المناهج، في اتجاه فهم مغاير لمعنى الشعر، واللغة الشعرية، ولفلسفة التعلم الأدبي، ولخلق حساسية شعرية في العربية، توازي الحساسية في الفرنسية أو في سواها من اللغات الأجنبية
كان من الطبيعي، وحال قراءاتي الشعرية هي على النحو الذي ذكرتُه، أن أختار اللغة الفرنسية، تلقائياً وعفويا وفطريا، عندما بدأتُ بكتابة الشعر. أقول تلقائياً وعفويا وفطريا، لكن الوقائع تجعلني اعتبر ذلك الخيار قسرياً بسبب انعدام الظروف الموضوعية لاحتمال كتابتي بالعربية. لكي أوضح، أنا مقتنعة بأن قراءاتي المحصورة بالكلاسيكيات العربية والمفتوحة في الوقت نفسه على الحداثات الأجنبية، هي سبب رئيسي في اختياري الفرنسية، في بداياتي مع الشعر. ذلك أني لم أهرب الى الفرنسية كرهاً بالعربية، إذ لطالما عشقتُ هذه اللغة وبرعتُ فيها منذ صغري، لكني لم أشعر، بكل بساطة، أن قراءاتي فيها تناسب ما أريد التعبير عنه شعراً. يومذاك، لم أكن قد عرفتُ ان العربية قد اجترحت معجزتها الحديثة، وكان عليَّ ان أنتظر قليلا كي أعود من تلك الغربة اللغوية.
من جهة أخرى، إن توجهي الى القيام بدراسات علمية في بداية تحصيلي الجامعي، جعلني أمعن في هذا الاغتراب، الى أن اكتشفت، اكاد أقول بالصدفة، (لا شك عندي اليوم في أنها "صدفة موضوعية")، قصيدة النثر العربية، عندما أصبحتُ في العشرين من عمري. وبقدر ما كانت قصيدتا شار وايلوار منعطفا حاسما في خياراتي، فإن اللحظة التي انكشفت لي فيها قصيدة النثر العربية من خلال مجموعة "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" لأنسي الحاج، شكّلت المنعطف الحاسم الثاني في انعتاقي شعريا. منذ تلك اللحظة، رحت أنهل من بحر شعراء الحداثة العربية، واحدا تلو آخر، وأقول لنفسي: هؤلاء هم أيضا شعرائي، وهذه هي لغتي الشعرية.
لماذا هذا الانتماء عندي الى قصيدة النثر؟ لأنها، بكل بساطة، القصيدة على الحافة، وانا لا ارى نفسي إلا على الحافة. لأنها قصيدة الحرية، وانا لا اعيش حياتي وكلمتي الا حرّة. لأنها قصيدة النهش والنهب والتوتر والالتهام، وانا لا أعرف روحي إلا منهوشة ومنهوبة ومتوترة وملتهَمة وملتهِمة. لأنها قصيدة الفطرة الصادقة، ولكن المشغولة حتى الدوخان، وانا أؤمن أكثر ما أؤمن بذكاء العفوية. لأنها القصيدة الوحيدة التي تترك للخيال ان يلاقي قَدَره، وتُفرج عن زلازل الرأس. لهذه الأسباب وغيرها الكثير، أجدني أنتمي انتماء صاعقا الى قصيدة النثر.
هكذا إذا، بدأتُ مشواري الشعري بالعربية، لكني رحت أكتشف الى جانب جمال هذه اللغة وغناها وبروقها، بشاعة الجدالات المتحزّبة والعقيمة التي لا تزال مستشرية فيها، على المستوى الشعري:
أكاد لا أصدّق، مثلا، أني حين أُدعى الى ملتقى شعري في بلد عربي، نادرا ما يمر الملتقى من دون أن يشتعل نقاش عبثي بين أنصار الوزن وأنصار قصيدة النثر.
أكاد لا أصدّق أني لا أزال أقرأ في صحفنا مقالات عن هذا الموضوع، هنا من يدافع وهناك من يتهم، وأن ثمة حتى يومنا هذا من يحاسب الشعر على أساس المعادلة بين الشكل وحق الوجود، بدل المعادلة بين القيمة الشعرية وحق الوجود.
أكاد لا أصدّق أني تلقيت رسالة منذ بضعة اسابيع يشتم فيها كاتبها، المتخصص في اللغة العربية، (وسأعفيه من ذكر اسمه)، انحيازي الى نشر قصائد نثر في جريدة "النهار".
أكاد لا اصدّق شراسة الانغلاق والإنكار والرفض التي لم تزل مستشرية على ضفة "الحرس القديم"، في حين ثمة على الضفة الثانية، ضفتنا، ما هو أفدح، وأعني تحديدا التقصير الكبير على مستوى جعل ثمار قصيدة النثر موضع نقد جدي وحقيقي وعميق.
طبعا، لا أنكر أن ثمة الكثير من الاعتباطية والاستسهال المقيتين لدى البعض في كتابة الشعر الحديث، وهما اعتباطية واستسهال يساهمان في جعل هذا الشعر لقمة سائغة في فم منتقديه. ولا أنكر، في زمن الانترنت هذا، أن كميات كبيرة مما يسمّى قصائد، هي في الحقيقة مسوخ شعرية، تطالعني في بعض المواقع والمنابر الإعلامية. ولكن لطالما كان هناك مسوخ شعرية، بوزن وبلا وزن.
لذلك حان الوقت لكي نضع حدّا لهذا الجدال الذي لا يستفزنا إلا ليعرقلنا ويشلّنا. حان الوقت لكي يسكت هذا الزعيق المزعج، ولكي نفكّر في كيفية تطوير رؤانا الشعرية وكيفية الذهاب بالشعر الى ما بعد الشعر والنثر، بدلا من محاولة الركض وراء اذيالنا.
يؤلمني ويخجلني أني لم أكتشف قصيدة النثر العربية إلاّ في العشرين، وأني مضطرة لأن أشرح لإبني مرارا وتكرارا انّ الشعر ليس الكلام المسجوع. فمتى، وكيف، يبدأ إصلاح مناهجنا الدراسية في اللغة العربية وآدابها، ومتى، وكيف، يبدأ إعداد الأساتذة إعدادا يستجيب حاجات العصر الأدبية الراهنة، ومتى، وكيف، تنطلق جهود علمية ومنهجية في سبيل جعل قصيدة النثر مادة نقد وتشريح ودراسة حقيقية وشاملة؟
يؤلمني ويخجلني أني لم أزل أطالَب بالدفاع عن قصيدة النثر في البلدان العربية، في حين أن أهل الكتابة في أوروبا يطرحون أسئلة على غرار: كيف يمكن استخراج الشعر من العلم. فمتى، وكيف، يستطيع الشعر العربي أن يخترق زمنه الخاص، ليحيا أيضا في زمن الحياة نفسها؟
يؤلمني ويخجلني أن يكون الشعر موضع استهزاء واستخفاف وتندّر في أحاديث الناس هنا، في حين أنه حجة قـيـميّة وموضع تباهٍ في ثقافة الناس العاديين في أوروبا. فمتى، وكيف، يصير الشعر العربي جزءا من الإرث الروحي والمعنوي لفلسفة الكائن البشري في بلادنا؟
"اذا مات الشعر، أين أمل العالم؟"، صرخ يوما ليوبولد سنغور. فعلاً، أمراض وآفات كثيرة تهدد الانسانية في هذه الألفية الجديدة، وعلى غرار ثقب الاوزون وازدياد حرارة الارض وارتفاع منسوب المياه في المحيطات، لم يسلم الشعر من فيروسات من نوع آخر ليس لها أيّ لقاح حتى الآن، اخطرها إغراء المرئيات المتجسد في شكل رئيسي في التلفزيون والكومبيوتر. لذلك، مهمٌّ جدا ان يجتمع هذا العدد المحترم من الشعراء والكتّاب والأكاديميين لمناقشة مسألة قصيدة النثر العربية. لكن الأهمّ أن لا يكون المؤتمر مناسبة لإلقاء المداخلات فحسب، بل أن يكون بابا مستقبليا الى دراسة الأسباب التي تجعل الشعر، والأدب عموما، غريبا عن ثقافتنا وخبزنا اليومي، والى بلورة طرائق عملية "نتذاكى" بها على خطر المرئي فنرفع هذه الغربة، ونصالح الحياة مع الشعر، ونصالحها خصوصا مع ما نسمّيه، اضطرارا (وهو روح العصيان على التصنيفات)، قصيدة النثر، لكي يتحقق ما همس به فرناندو بيسوا يوما: "كن شاعرا في كل شيء تفعله، مهما يكن بسيطا وقليل الشأن. كن شاعرا خارج النص قبل أن تكون شاعرا فيه. كن شاعرا في مأكلك ومشربك وسلوكك وحبّك وذهابك وإيابك ونومك. كن شاعرا على الدوام".