الاثنين ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٢٤
بقلم عزيز القاديلي

الكتاب الذي أنقذني

لم أكن أتوقع و أنا أستمتع بالاستجمام ذات صيف جميل على شاطئ بحر طماريس بنواحي مدينة الدارالبيضاء، لم أكن أتوقع أنني سأقع أنا أيضا و بشكل درامي ضحية الغرق.

و أنا أستعيد إلى حدود الآن تلك اللحظات العصيبة و على الرغم من مرور سنوات طويلة على ذلك الحدث المخيف ما تزال الذاكرة ترتج، فحدث الموت مفزع و لا يمكن تقبله. كنت بالكاد قد أنهيت السنة الدراسية بتميز حاصلا على شهادتي الجامعية و كلي توقد لمواصلة مسيرة حياة متميزة و متفردة. و كي أتخفف من عناء السنة و مشاقها قررت الاصطياف بشاطئ البحر رفقة العائلة و في غياب الأم المتوفاة. كنا قد اعتدنا على قضاء بضعة أيام من العطل الصيفية بفضاء شاطئ طماريس الجميل، إذ ما أجمل صحبة الرمال الذهبية و الهواء البحري الصافي الصحي، و أكثر ما كان يغويني هو أن تعيش بجوار البحر. كنت مفتونا و أنا تستيقظ صباحا مع شروق الشمس و بصري يمتد بعيدا نحو أفق ضبابي و لا محدود، و يصلني صخب الأمواج و هي تداوم على حركيتها العبثية ليل نهار.

كان من عادتي و أنا أقضي هذا الاستجمام المدهش أن أكتفي بالاستلقاء على الرمال مستلذا سخونتها حاملا بين يداي كتابا، و كان الكتاب الذي حملته معي "الإنسان المتمرد" لألبير كامو. لم أكن أستوعب ما يعرضه من أفكار و تصورات فلسفية بقدر ما بساطتها إلا انها تتضمن صعوبات مفاهيمية غاية في العمق و إشكالات فلسفية غير معهودة.

و لن تفارقني ذكرى ذلك اليوم الذي قررت فيه السباحة و سط أمواج خادعة، إذ كانت في البداية هادئة و مغرية و جذابة، تستميلني بلطافتها و أنا أرتمي في أحضانها، كان ذهني يجتر بقايا أفكار بدت لي عصية على الهضم و الفهم، كانت أمواج البحر تتلاعب بي كذلك أفكار الكتاب، كنت ربما ذاهلا أو غائبا و أنا أشق صفحة الماء، و أتهادى وسط البحر الفسيح، اندفعت متعمقا سائحا بلا بوصلة منتشيا بالتمثلات التي كانت تتصارع بداخلي و تتراقص لها خلايا الذهن باستمتاع. بدأت الأمواج تصخب فما عدت أفرق بينها و بين ما يتموج بداخل الذهن، و حينما استدرت ورائي بدا لي الشاطئ بعيدا فقررت العودة، إلا أن ما حصل أفزعني إذ بقدر ما كنت أتحرك نحو الشاطئ كان تيار مائي يجرني نحو الأعماق، فبدأ الخوف يراودني و استيقظ المتمرد منتفضا، و سرت رعشة عميقة في أكل أوصالي تمدني بكل الجهد كي أصارع التيار الذي يسحبني إلى داخل البحر. وعيت أنني في ورطة من أمري و بدأت أطياف الفكر تحوم من حولي و أنني غارق لا محالة.

و حينما أحسست أن نهايتي قد حانت بدأ ذهني يتساءل: أ هذه نهايتي؟ و الكتب التي نويت أن أقرأها هذه السنة؟ و الكتب التي اشتريتها مؤخرا، لماذا اشتريتها و أنا الآن على عتبة الغرق و الزوال؟

و الكتب الأخرى التي على رفوف مكتبتي الصغيرة و التي تنتظر أن ألامسها و أقرأها؟ أ هذه هي النهاية؟ لا يمكن أن يحصل ذلك بهذه السهولة، لا يمكن.. كانت الأسئلة تتهاطل علي مثل شلال و أنا في غاية الإنهاك من كثرة ما بذلته من مجهود لمصارعة التيار، فكان الحل أن ألفت المصطافين القلائل الموجودين بالقرب من الشاطئ إلى مصيبتي. كنت أرفع يدي بصعوبة باذلا ما تبقى لي من طاقة في الصراخ و النداء طلبا للمساعدة. سأعرف فيما بعد أن رجال الإنقاذ كانوا قد غادروا الشاطئ لتناول وجبة الغداء، و من حسن حظي أن أحد المصطافين انتبه إلى استغاثاتي، فسارع للبحث عن رجال الإنقاذ. لم تمر إلا بضع لحظات كانت طويلة بالنسبة لي و صعبة حتى رأيتهم يسبحون باتجاهي، و حينما اقتربوا طلبوا مني الاسترخاء على ظهري حتى أساعدهم في سحبي نحو الشاطئ. لم تكن المهمة سهلة إذ تطلب ذلك الالتفاف على التيار المائي للخروج إلى بر الأمان. كنت أشعر بالدوار و التعب و أنا أقف على رجلاي، كنت على أهبة أن أشكر الذين أنقذوني إلا أن التعامل الفض و القاسي الذي واجهني به رئيسهم أيقظ بداخلي المتمرد الذي سكنني فكد أفقد صوابي و أتشاجر مع من أنقذني، لكن لحسن الحظ التف حولي أحد المصطافين و جرني بعيدا عن الجميع و هو يزرع الطمأنينة بداخلي و يهنئني على سلامتي و نجاتي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى