الكتلة الرمزية وجماليات السرد
(1)
كتب القاص"باسم الشريف" نصوص مجموعته "القصصية "شواهد الأشياء"بوعي لغوي وفني اصبح من النادر توفره فيما يكتب من نصوص أدبية إن في القصة وإن في الشعر وإن في الرواية
،يحافظ باسم الشريف على تلك "الشعرية" المحببة في لغة الخطاب القصصي، ولايمنعه اقتصاده الشديد في تنميق العبارة عن الاحتفاظ بمقدار عقلاني يمنحها انتماءً واضحا الى سيرورة جمالية اقتحم بها "لسانٌ"ضراوة البقاء في فضاءات تدعو الى الامحاء.
تطرح "شواهد الاشياء"سؤالا جديا حول جدوى التخلي عن المسحة الجمالية للخطاب الادبي والترويج لتوصيفها بما يقيم تناسبا طرديا بين الوعي للغوي بجمالية الخطاب وبين الخواء الحداثوي،بما يؤسس لنزعة تتبنى الجماليات العدمية وتبحث عن بوابة سهلة لولوج عالم الكتابة بشكل يعفيها من اية مطالبة بأدنى مستوى من الوعي بسيرورة لغتها بابنيتها وعلاقات عناصرها العلامية ببعضها والمراحل الكبرى لتشكلهاكخطاب بين الخطابات
وكأن القص –مثلا- هو سرد لحكاية فحسب،ان هذه المهمة تضطلع بها الجدات والاجدادعلى خير ما يرام،وكان الحصول على تشكل ذهني لحكاية ما هو عملية ابداعية لذاتها، وفي الحقيقة،فإن ما يجعل من التشكلات الذهنية الحكائية اعمالا أدبية لا يقتصر على معناها فحسب بل يشارك في توطيده مبناها معمارا ولغة وأخيلة واسلوبا وأبعادها المجازية التي تخترق سطوح الواقعات السردية لتلج اعماقا من الكشوف والحدوس والرؤى قدمت شواهد الاشياء رؤيا شعرية متميزة للحكاية ومبناها السردي.
نهضت بها آليات سرد متقنة تمكنت على امتداد صفحات هذه الرؤيا من الحفاظ على كينونتها السردية من التلاشي والذوبان في خضم التجليات الشعرية وشعرية المجاز والعلاقات الجمالية بين علامات الشواهد، ان هذه الشواهد هي من النصوص القصصية القليلة التي يمكنها ان توحي للقارى بما يربك الثوابت الاجناسية القائمة نظراً لتمركزها في جغرافيا مشتركة الانتماءات هي جغرافيا النص الحي القادرة على ان تمد الصلات وتعقدها مع جغرافيات انسانية مجاورة سابحة في الفراغ الكوني / فراغ العلامات الكبير. فالادب ـ كما يعبر فوكو ـ: (يحيل من اللغة والصرف والنحو الى سلطة التكلم المجردة حيث تلتقي كينونة الكلمات المتسلطة والوحشية غبر المدجنة) (1).
لقد نجح باسم الشريف في انتاج تجليات تتجاوز الزمان والمكان الموضوعيين الى فراغ الحلم الارضي وفضاء العروج الفكري محلقا في زمان ومكان مطلقين الا انهما على صلة وطيدة با لوقائع المعيشة ويذكران دائماً بهذه الصلة المركزية التي تبقي الحلم الرؤيوي الصوفي متمحورا حول الواقع ومتجذرا في الحياة، يرى "ايكو" ان انتاج التجليات هي الوظيفة السيميائية المركزية للادب، وانتاج التجليات يعني (ان نعكف على الاشياء الحاضرة لندرسها ولننحتها بطريقة تمكن الذهن اليقظ ـ بعد تجاوزها ـ من ادراك معناها غير المعبر عنه يحيل الموضوع على سديم من المضامين) (2) وهذه الفعالية تبقي الرمز / العلامة (مفتوحاً قابلاً للتأويل بصفة مستمرة) (3).
(2)
شواهد الاشياء هي شواهد تجربة وجودية جنوبية بامتياز، ان رؤيا طللية ان صح التعبير تستشرف خراب العالم،العالم يدخل في جدلية خلاقة مع المكان المعيش، ليتبادل معه الادواروليصبح كل منهما نافذة رمزية على الاخر وعلامة تحيل حفرياتها على الاخرى في مركب نفسي لا ينفصم، وهنا يغدو خراب العالم خرابا لعوالم وخراب تلك العوالم الصغيرة هو خراب للمتناهي في الكبر.
رائحة الجنوب،ماؤه المشبع بالازمنة والاشباح والرؤى، طينه ذو الرائحة التاريخية النفاذة، قصبه، زوارقه التي تمخر عباب الوجود وترسو على شطأن الذاكرة وتبني مرافئها في لا وعي الجماعة، كل ما يرسم لوحة الجنوب في العقل الباطن للامة العراقية يرتسم حركا ملونا ممتلئا بالاصوات والشخوص في نص عابر للنصوص،يؤسس لجنس كتابي يتخطى المفاهيم الصنمية للاجناس ويعضد سيرورة النص البصري، النص الذي منحه ابناء البصرة من الوعي الابداعي والقلق الانتاجي الشي الكثير على يد كتاب تناسخوا مع كينونة (بصرياثا) مدينة الحلم والوهم "والمواطن الابدي "،هذا المواطن كان يوما " الخليل بن احمد" وكان في اخر "علي بن محمد " وكان في غيره "السياب " وكان "محمد خضير" ولم تزل هوية المواطن الابدي البصري مفتوحة لكل من ينتمي الى مدينته فيحسن الانتماء حينئذ تتكفل له (بصرياثا)بان يصبح قادرا على ادارة حوارية العالم، وان يتحول ما يكتبه الى خطاب عالمي يتجاوز مكانه المحلي انطلاقا من محليته غير المنغلقة، والمحلقة تحليقا تواصليا تداوليا في فراغ العلامات.كتاب منحوا النص البصري امتدادات وسمات ترشحه لان يكون نصا كونيا معولما يخاطب ثقافة " القرية العالمية" بلسان عراقي مبين لسان قادر على احتواء محليته وفرديته وتقديمها للاخر،واعيا تماما لاهمية عدم التدهور في فخ التشرنق التحنطي والتمركز حول "لوغوس الانا"لانه يقيم حدا فاصلا بين الذات والعالم.
(3)
ان عالم " شواهد الاشياء "هو عالم مائي،قارة مائية تحتوي امكنة باسم الشريف، الماء يفرض سيادته على الموجودات ويدخل في جبلة كل شي، في الاحجار في السماء، في الجدران،في الارض، في الظلام السائل الدبق،والنهار الشفيف الماثل على نوافذ تطل على يوميات المصير، في الانكفاء على الذات وفي الانفتاح على الاخر،في عش الطائر وفي الانفساح اللانهائي لبيت الطفولة ومجرة المهد،فالماء يمثل (عنصر الخلق في الفكر(4) عنصرا يختزل الطقوس والعادات ويتغلغل متاصلا في الاساطير والحكايات الشعبية.
يشير "جاسم عاصي "الى اغتراف الكثير من الكتاب من مصادر المياه وتوظيفهم لها كدوال على حركة الحياة ونمو الفاعليات وتحميلها ابعادا فلسفية وصوفية وانها تشكل مصدر اخصاب الفحولة والانوثة ونهوضها واكتمالها فهي بالتالي منعطف لادراك الاشياء والظواهر الخفية وبذلك يكون الارتباط حياتيا ويؤشر الصيرورة عند الشخصيات (5) كما يشير الى جعلهم من العوالم المائية حاضنة تشهد صراعات الانسان والى الدور الذي تلعبه المخيلة المائية في تفعيل السرد والوصف وبالتالي تؤدي الى احالة النص الى حافة الاسطورة (6). شكل الماء حضوره النصي في الشواهد عبر علامات مائية واخرى مرتبطة بالماء دلاليا مثل ((التربة الندية وطحالب الشط الرسوبية ص9،نعقت المراكب كما لو كانت غربانا ص10، تاكد من عودة المزارعين وصيادي الاسماك نحو ازقتهم الخشبية ص10،رمى براسه ناقما يشم اديم الارض التي تضوعت بروائح الجداول ومكونات الشط ص10، انها جذوع نخيل وقناطر ص11،لم يكن ارتيابا من الطوق الذي فرضه حرس السواحل.. ارتياده المسفن وسماع مايطلقه البحارة الهنود من كركة ص11، مقبرة الدوب ص17،لاوقات المد المتشح باردية الغسق الدامي ص20،هولولوهولويالله ص20،ترك ظله الموشوم على جسد المياه ارتعاشات قلقة هز انزلاق المردي زورقه وجعل جسده الناحل يتململ ص21، لاتقترب من تلك المقبرة الطافية إنها الشؤم عينه ص 22، شواهد احسستها بعبق الطلع الذي تنفست وبدغدغة المياه وبشفافية مديات الاعماق الطاغية وسعف النخيل واحتدامة النزق بتشابك الجذور وسط غرين الجرف المستبد ص 30))ان لوفرة العلامات المائية دلالاتها، مثلما ان العلامة المائية بوصفها مركبا ً رمزيا ً وكيانا ً اشاريا ً من الممكن ان تحيل الحفريات السيميائية في بواطنه وطبقاته الدلاليه على مجموعة من الدلالات التي تغني النص مثل:
1. دلالة التطهير:
يتداخل الماء مع النار في رمزية التطهير، النار تطهر الكينونات بالتعذيب والماء يطهر بالكشف عن الجوهر الاصلي في جوانيات الكينونة بعد إزاله غشاوات الدنس الارضي وظهورات القتامة والحجب، هذا مانجده في التقريرات العالمية للفكر الغيبي مما يمثل مشتركا ً ميتافيزيقيا ً عاما ً بين الديانات يتموضع في سيمياء العلامة المائيه، لايمكننا التغافل عن هذه الدلالات ونحن نقرأ قول الكاتب: (وهل ستستحم في النهر؟ - بادرتني امي – ربما قلت، او ربما هناك في ذلك القسم المعزول) يقول باشــــــــــلار: (تنضج انفعالاتنا في العزلة) (7) الام / الارض تحرض ولدها على النزول الى النهر والتخلص من اثار الذنوب التي تقتحم الذات في سياق جبري يبرز سطوة القدر وتغييره للاشياء قد يكون مصحوبا ً باللذه والالم معا ً ويكتنفه الخوف من المجهول وارتقاب الاتي الغامض: (لم انتبه الى امي التي رمقتني بأزدراء: مابالك؟ تساءلت.. الان بوسعي الكشف عما اضمره، اطرقت مفكرا ً أستحم يا امي فأن الاستحمام في هذا الوقت منعش، شئ رهيب باغتها) يقول باشلار (الانسان يعلم غريزيا ً ان المكان المرتبط بوحدته مكان خلاق) (8) ولا يقرأ هذا النص الا في ضوء فهم اصيل لجدلية المقدس والمدنس.
2. دلالة الخصوبة والتخليق / انتهاك العدم:
يقول الاستاذ ياسين النصير: (كل الاحلام تحيا في المياه ويذكرنا الماء بالرمز البدائي الاول للخلق، اتصال خفي بالارض الام) (9).
لاشك في ان للماء دلالة ذكرية تقابل الدلالة الانثوية للارض، الماء يوقظ الخصوبة الكامنة في رحم الارض، ويندمج الاثنان معا ً على مركب علامي واحد محمل بدلالات الخلق والانبعاث من الغياب والضمور والجدب، هذه الرؤيا السيميائية للماء كانت جديرة لدى (يونغ) بأن تصبح شكلا ً من اشكال الانماط الاصلية، التي تهوم على بحر الدوال الفسيح. من هنا يصبح النزول الى الماء جسرا ً نفسيا ً تقيمه الذات مع كل هذه الدلالات العميقة الكامنة في الماء بوصفه (وطنا ً كونيا ً ودعوة ً الى الحلم والسفر) (10) وهذا النزول الى الماء.—يجعل منه الكاتب رحلة عودة الى الولادة / الخلق / حماية الرحم الامومية / المأوى الاول للكينونة المتدحرجة في سديم الوجود والعدم: ((كان ثمة انتظار غامض، تناهى الى سمعه نقيق الضفادع الحاد.. تسلل بزورقه عبر اغصان العرائش المتحاضنة.. عاد الى مقبرة الدوب الغرقى.. اعتمر عدة غوصه بعد ان تأزر بصرتها الكالحة.. هبط منزلقا باتئاد تحف به الاصداء التي مازالت تتجاذبه نحو الاعماق، اذ تنادت عوالم القيعان.. برتابة لها صدى الرنين المخنوق، فاحت من الاعماق رائحة المخاض، كان ثمة شيء قابع هناك، ربما كان حبله السري الذي اودعته امه القاع ايفاء بنذرها)). ان الكاتب غاص في روح الماء وللماء روح مقدسة، ليتحد بالمطلق اتحادا صوفياً، ليمسك الزمن الهارب بكلتا يديه ويعيد تشكيله وفق تطلعه الاثير، وما رائحة المخاض التي فاحت من الاعماق الا اصداء البدايات البعيدة وتهويمات تشكلات الكينونة التي كان (الحبل السري)علامة دالة عليها، وقد وضعها الكاتب في موضعها المناسب من النص لتعمق الرؤيا الصوفية وتؤكدها وهي مدهشة في موضعها من المعمار السردي للنص، اذ جاءت في نهاية القصة لتعلــــن البحث عن البداية وتؤطر الحدث باطار غيبي مطلق عبر علامــــــــة (النذر) علامة تؤكد قطبية المقدس في سيمياء العلامات المائية للنص.
(4)
التكثيف / الوصف الرمزي:
يرى فوكو ان (الاشارات التي تؤول لاتدل على الخفي الا بمقدار ما تشبهه) (11) ويشير " جان ريكاردو " الى انه لايوجد وصف بلا حكاية فهو مدرج دائماً في الحكاية بل ان كل وصف يبعث حكاية بنفسه، حكاية واقعة ضمن الوصف (12) فبما ان الوصف يوقف سير الاحداث بعد ان يعلق الزمن، فمن الطبيعي ان يستجد الوصف بين علامتين بحيث تستطيع الحكاية الدفاع عن نفسها وهي تزيد من كثافتها هذا هو دور الاطار المكثف: وضع توازن حركي شامل ان دور الوصف الرمزي هو وضع دليل حكائي خاص بالماضي او بالمستقبل وفيه يمكن ان تترتب ولو حتى كبذرة لتصرفات مستقبلية (13).
ومن البقعة المائية / القارة السائلة في جسد النص، تنطلق تنويعاته الوصفية التي تعضد با ستمرار النظام العلامي والجمالي للنص وتمنحه قدرا من التماسك والقدرة على التواصل مع المتلقي، بما يسخره لها الكاتب من استبطانات لعناصر الرؤيا الجنوبية المعطاء وانشطاراتها المرجعية، ومن ابرز هذه العناصر العلامية التي تخاطب العالم الحي وتحيل من خلاله على ما وراء الماديات:
اولأ-الروائح:
تحيل الروائح –بوصفها علامات سابحة ونافذة خلال الحدود الحسية –على وجود شبحي لأطياف الفراغات المسكونة بالنسيان،والمنهمكة في حواريات العزلة،تلك الموجودات الضبابية الهلامية التي تنم عن بصيص متوهج لارواح عالقة في عوالم جهنمية فنتازية،تتقاطع مع الطبيعة دالةعلى الخفي بمقدار ما تشبهه،يقول فوكو:(بين العلامات والكلمات ليس هناك الاختلاف القائم بين الملاحظة والسلطة المقبولة..ليس هناك في كل مكان سوى لعبة واحدة لعبة الاشارة والشبيه،ولذالك فإن الطبيعة والكلمة تستطيعان ان تتقاطعا الى ما لانهاية مشكلتين – لمن يعرف القراءة- نصا كبيرا واحدا)(14)
والروائح في شواهد الاشياءجزء من الجدل النوعي للنص،الذي (يحلل مادية العلامات في شفافية المعنى)- على حد تعبير جان ريكاردو- (15):((في البدء كان عزاؤه بأن الرائحة هي خليط من عبق الحب بوك ورائحة التربة الندية وطحالب الشط الرسوبية غير انه ايقن ان الرائحةهي بمثابة إقحام ولم تكن مصادفة اختفت متلاشية مع روائح شجر البمبر والسدر الوافر ص9،بعد أن خلبت روحه الروائح كان جسده قد انتفض يقظا من جرائها ص10،انبثق العبق من ثنايا الجدران ص12،الجسد الهلام المحفوف بالروائح ص12،كان العبق مازالت بقاياه تحتل بواطن أنفه ص15،رائحة استوطنت البساتين وأشياء أخرى ستحدث ص16)).وربما انعقدت مقاربة ما بين سلطة الروائح وحضور توهمي لمباهج أنثوية حثيثة:(بعد ان خلبت روحه الروائح..حينئذ أنغقدت في عمق خياله صور تستوطنها مباهج أنثوية ص10)هذه الروائح المؤجلة في شعرية الزمن في السرد القصصي للشواهد تمثل التفسير الذي ادخره النص (المسفن) لمقطعه الاستهلالي (ارتعش جسده كما لو كان كتلة من التوترات عندما داهمته تلك الرائحة ص9)،اذ تعد الافتتاحية عنصرا مهما في المتخيل السردي لانها تمهد للخطوة القصدية الثانية في الخطاب فالافتتاحية تكون مفتوحة على اللاحق من الاحداث والى تكثيف ثيمة النص (16)
ويشير ريكاردو في حديثه عن التكرار النصي الى أنه عندما يتعلق الامر بالنص وعنوانه فإن الآيدلوجية المهيمنة تنصح بالتكرار وبصرامة بدلا من استبعاده العنوان ليس نصا آخر حتى وان نتج عنه وبهذا الوضع لايتمتع باستقلالية وان كان مستخلصا وبهذه الصفة فإنه يتميز عنه (17) المقاربة الحسية السابقة تقود بانسياق دلالي الى مقاربة حسية أوسع تنبثق من العلامة الحسية المركزية في النص (الرائحة)تنعقد المقاربة ما بين الرائحة والمخاض (برتابه لها صدى الرنين المخنوق فاحت من الاعماق رائحة المخاض صـ 26) إنها تحيل على البدايات وتداعيات التشكل الاول للذات في رحلة عودة إلى سديم الغياب / الحضور تحيل على بدائية المأوى (ربما كان حبله السري الذي أودعته امه القاع إيفاءً بنذرها صــ 26) , هذه العلامة الطقسية (النذر) ربطت ما بين الوليد (بطل القصة) وبين الرحم البدائي (العالم المائي) الموصل إلى أعماق الارض / الوالدة الكبرى , عاقدة الصلة الازلية بين الكينونتين الانسانيةو والاسطورية عبر الحبل السري المنذور الذي رسب في الاعماق مطلقاص الكينونه الانسانية في رحلة بحث مستمرة عن تلك الامومة المائية / الارضية الغامضة الاسطورية , إن الكاتب هنا (يطرح أسطورة لا بالمفهوم المثيولوجي أو أعتماد المتن الاسطوري بقدر ما أعتمد الدلالة الاجتماعية والنفسية من خلال أسطرة الواقع مشيداً عليها حكايات تنامت بالتكرار وترسخ عبرها المعتقد الاجتماعي إلى اسطرة متميزة) (18)وفي هذا السياق أستذكر مقولة لفتت إنتباهي لكارل غوستاف يونغ يفسر فيها أعطاءه إذنا صاغية للأساطير الغريبة المنبعثة من النفس قائلآ (لسوء الحظ لم ينل الجانب الاسطوري للأنسان إلا أهتماما ضيقا في هذه الايام , لم يعد بإمكانه خلق الخرافات والنتيجه أنه يخسر الكثير إذ من المهم التحدث أيضا عن أشياء غير مفهومة: لا يمكننا رؤية عالم أخر تحكمة قوانين مختلفة بسبب أننا نعيش في عالم معين ساهم في تشكيل عقولنا وبناء أسس حالتنا النفسية: من المؤكد أن رجل الا ساطير يتطلب الذهاب إلى أبعد من كل هذا لكن رجل العلم لا يسمح بمثل ذلك) (19)
ثانياً – الاصوات / السلاسل الايقاعيه:
إذا كان العمل الادبي هو قبل كل شئ (سلسلة من الاصوات ينبعث عنها المعنى)(20) فإن هذه الاصوات قد تقل أهميتها في بعض الاعمال الادبية أو تغدو شديدة الوضوح بحيث تغدو الطبقة الصوتية شرطاً ضرورياً للمعنى(21) والعمل الادبي بتعبير أخر – أنتقاء من النظام الصوتي للغة ما ولا غنى عن علم الصوتيات في أي تحليل مناسب للأنماط الصوتية (22) وفي العالم اللساني للعلامات ترتبط الشفرات الصوتية بدلالات , فالمنطوق الرمزي يقود-وفقا لمستويات ايحائية تقوي وتضعف.. إلى شئ متصور ذهنياً يحس ويدرك إدراكاً مجرداً , ليشكلا معا قطبي الثنائية العلامية اللسانية: الدال والمدلول , وليندمجا معا في بنيه لفظية أشارية هي عبارة عن مركب العلامة. وحين نتعامل مع نص أدبي فلابد لنا من التوقف عند النظام الصوتي للمرسلات , فالكتاب – من العيار الثقيل – لا يغفلون عن الاثر الكبير للأبنيه الصوتية التي تحتويها نصوصهم على المتلقي , ذلك أن (طبقة صوتيات الكلمة) هي أولى الطبقات الاربع التي وجد أنغاردن العمل الادبي مكونا منها في بنيته الاساسية (23) ومن شأني في التحليلات الصوتية للنصوص الادبية ألا أحصر الفاعليات الصوتية في الجانب اللغوي من شخصية العلامة – وأن كنت أبتدئ به نظراً لأهميتة الاساسية في مجمل البنيه الصوتية للنصوص - إلا أنني أفضل التعامل مع تلك البنيه على أساس أنها تتشكل في الكتله الرمزية / السياق الدلالي العام للنصوص من تحايث عدة محاور وفقاً لطبيعة النص ومستوى رقية الفني , " وفي الشواهد " بوصفها نصاً سردياً غنياً بالوعي الصوتي لحركية العلامات , نستطيع ان نتتبع الاثر الواضح للعلامات الصوتيه في محاور منها:
1. طبقة صوتيات الدوال:
فللدال اللغوي بنيته الصوتية المميزة له عن سواه ولا تتساوى العلامات في جمالية البناء الصوتي , مثلما لا يمثل هذا البناء – بالضرورة – ذريعه إلى أقصاء علامة ما مهما بدت فقيرة في جمالية الصوت – من العائلة العلامية للنص أو طردها من المعجم الادبي الذي لا حدود له سوى حدود جماليات النظم ووعي المرسل لجدوى النظام الذي يعمل على تشفيره وتحويله إلى رسائل لغوية ذات سمات اسلوبية أدبية.
وكاتب " الشواهد " في أختياراته لعلامات النص – ذو نزعة جمالية , هو متقشف في أدبيات الجزالة والسلوكيات البلاغيه , إلا أنه أستعاض عنها ببلاغه أكثر جدوى وأقرب إلى التوجهات الحداثية للكتابه هي شعرية الخطاب السردي السهل الممتنع , السهل لأنك تدلف بيسر وطمأنينه إلى بواطنه وهو ممتنع لأن الجمع بين اللغه الغنيه السليمة وبين العمق هو مما لا يلقاه إلا ذو حظ عظيم من الكتاب , ولعل أوضح شاهد على ذلك قصيدة النثر التي تعاني في أيامنا من أنجراف مع دعوى البساطة والتقشف في الجماليالت اللغوية والزهد بشعرية النص إلى حد تحولت معه في اكثر الاحيان إلى بنيه رياضية حاسوبية متشابهه المبنى والمعنى والايقاع والشكل والمضمون , وأصبح كتاب قصيدة النثر وكأنهم يكتبون نصا واحداً , أختفى مفهوم "الفرادة " و"الخصوصية الاسلوبية"في حمأة التخلي المحموم عن الجانب الجمالي في شخصية العلامة حتى في حدوده الدنيا،واللهاث – غير المفهوم – وراء هياكل نثرية هلامية ملآى بالجماليات العدمية التي أشرنا اليها في المقدمة (24) ترزح تحت وطأة قطيعة معرفية مهول مع الاصول والاسس بقضها وقضيضهاوهذا ما لاتحمد عقباه على مختلف الصعد الإجناسية للكتابة الادبية لأن النص العربي لايختلف- فيما نقرأه اليوم من قصائد نثر وقصص "حداثانية" لاحداثية- عن نص هندي او ياباني او انكليزي مترجم.
يتمثل الوعي الصوتي بجمالية العلامات على امتداد التدفق السردي للشواهد ومن امثلة ذلك (ارتعش جسده مثل كتلة من التوترات عندما داهمته تلك الرائحة احس من خلال اضطجاعه..ترددت في فضاء ات النخيل ااصطفاقات فزعة..متلاشية مع روائح شجر البمبر والسدر الوافر تحت ظلال النخيل الباذخ الذي يحف به السمو، بدا انفه النافر المتيقظ بارزا بشكل مزر عن مساحة وجهه المتداخلة ص9)
نلاحظ عناية الكاتب بإيقاع المفردة،وسبك العبارة تلو العبارة بعد اشباع سابقاتها صوتيا،ان المشبه به (كتلة من التوترات)الذي يجانس بين الحركات القصيرة (الضم في الكاف وفي التاء الثانية من التوترات،وبينهما ضمتان مندغمتان في تنوين التاء المتطرفة / الفتحة في لام كتلة وفي تاء التوترات / التشديدان المتعاقبان لتائي التوترات) ثم ينهي الجملة التشبيهية بحركة طويلة (المد في التوترات) فضلا عن الحضور المزدحم للتاءات الخمس بوصفها اصواتا ساكنة مجهورة متجانسة البنية التركيبية،شكل نظاما تواصليا مشرقا مع المشبه (ارتعش جسده)من حيث الكفاءة الايحائية العالية للمشبه به في تمثيل المشبه ومنحه بعدا حسيا مطلوبا في السياق النفسي لعلامات العبارة،ومثل ذلك ينطبق على وصفه لاصوات السعف المتداخل بأنها ترددلأصطفاقات فزعة،ان صيغة (افتعل)من الخماسي بصادها وطائها المتجاورتين تجسد الوظيفة الشعرية التي يرى ياكبسون انها (تتجلى في كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة وليست مجرد بديل عن الشيى المسمى ولا كانبثاق للانفعال) (25) ان اصطفاقات نخيل الشريف الفزعة تذكرنا في رقتها الصوتية الايحائية بالصورة،بوشوشات نخيل السياب ونباح الكلاب المبعثرة في تلك الوشوشات كصورة مشهدية قائمة على الايحاء الصوتي لعلاماتها،ولاريب في ان الشريف قد افلح في الحاق العلامات ضمن سياقات اسنادية مناسبة مما جعلها عوالم أغنت (النظم)بمفهومه "العبد قاهري"و (النظام) بمفهومه السوسيري، مما اكسب الدلالات قوة في التعبير عن الدوال،ورسخ المعاني بطريق أقصر في ذهن المتلقي بما دشنته الكتابة من صور أحال عليها الصوت وأوحى بها.
اما نصه القصصي (سنابك المتقدات) فهو بذاته انثيالات صوتية جامحة في تداعيات تمزج الحدوس بالوقائع والمكان با للامكان والمرئي باللامرئي: (تتناهى اليه كل تلك الاصوات والمشاهد ببريق غريب ومتشبث بدا الزمن يتوقف كما لو كان الشاهد اللامرئي يغمض عينيه بحبور،آنئذ تغدو الرؤى شبيهة بالدوامات،تسحبه آلاف الكلمات المتقدة والمليئة بالمضمرات الى قرارها،وحدها اللغة تخب برأسه مثل قطعان من الخيول الجامحة ص69)يتكررهذا المقطع القائم على تداعيات المعاني والأصوات اللاواعية –كلازمة في موشح أوقصيدة – مع تغيير متواصل،والامر نفسه ينطبق على نص (عوالم جنوبية)بمكنوناته الثلاثة،وهما بناءان شعريان بامتياز بالرغم من نزعة سردية واضحة الا ان خيول الأصوات وسنابك الكلمات جمحت ماشاء لها فضول الكشف ان تجمح في الفراغات البيضاء محيلة الخواء الى معترك للاصداء وميدانا للاشعور لتملأه صهيلا وتكتنفه مجاهيل الذات وأغوار الوجود، إن بنية التداعي في جموحها الاول والثاني والثالث والرابع هي بنية المتاهه/بنية دائرية مغلقة تنتهي من حيث تبتدي وتبتدي من حيث تنتهي،بيد ان القوة الضاربة للاندفاع العلامي "السنابكي"تبقى في الاوج في نهايتها المفترضة مثلما ابتدات ثائرة،عارمة، ولم يتسرب الوهن السردي ولا التفكك المعنوي الى مسيرة النص الطويلة – نسبيا - بالرغم من انطلاقها في فراغ نصي واحد هو فراغ التداعيات مؤشرة امكانية شعرية جديرة با لتقدير من لدن السارد،قادرة على انتاج السرد الكثيف مثلما تنتج السرد الشفاف في لحظة انتاجية مناسبة من المخاض الابداعي.
2-الاحالات السببيه للاصوات /الكائنات ذات الشخصية الصوتية:
أزعم ان الدور الذي تلعبه علامات تحيل على كائنات ذات شخصية صوتية لا يقل أهميه في تشكيل البناء الصوتي العام للنصوص عن البنى الفونيميه للدوال , فالموجودات الصوتية التي ينتقيها النص من العالم الخارجي ويضيفها إلى عالمه تجسد الصوت بمنحى وصفي غاية في الاختزال ويضغطها في كثافة (العلامة) لتحيل في اللاوعي الجمعي للغة على هيئة صوتية ذات تشكل رمزي ومن هذه الدوال التي برزت في النص:
أ – الغربان:
الغراب علامة ذات شخصية لونية وصوتية أكثر مما هي بنيه فونيمية لغوية أنه (الكاهن الاسود) كما وصفه د. حاتم الصكر في دراستة (تأملات في فضاء الغراب) (26) أنه كائن حلت له لعنة البشر لا الآلهه فهو بشير الموت والخراب والبين في المعتقدات العربية الموروثة , بشر النابغة بأن رحلتهم عن الديار غداً وبشر المتنبي بالبين وخراب المنازل وألقى قصيدة قافية في مسمع المعري ناعياً صديقه الشريف الرضي! (27) أما باسم الشريف فقد تمثلت له الغربان صوتيا في المراكب البخارية التي تنعق مدنسة قارته المائية بمخلفاتها الم ا التي تلوث أصوات القارة وهواءها وسماءها وتعلو على أصوات موجوداتها الاصلية / الكائنات المائية النبوية: (نعقت المراكب – كما لو كانت غرباناً – نعقت طويلاً ص 10)
ب – الزوارق:
وهي علامات ذات شخصية حركية وصوتية وكثيراً ما إرتبطت لدى الادباء بدلالات فلسفية أو صوفية تتجاوز ماديتها إلى الابحار في الكينونة وأستجلاء العوالم الغامضة والمبهمات الكونية والاسئلة الانسانية الكبرى , ولدى " الشريف " أظهرت المرإكب والزوارق حضوراً صوتيا بيناً في تشكلات السرد: (أقتربت زوارق الدورية بأصواتها المضجرة ص 13) ووجدنا الكاتب عقد مقاربة نصية بين منبهات المراكب ونعيق الغربان في الفقرة السالفه).
جـ ـ النهمة:
جمع (نهام) والنهام علامة أنسانية صوتية محضة , أنه كائن من الغناء الموقع بـ (إيقاعات البحر المتفاقمة ص 23) كما وصفه الكاتب , النهام يقود هواجس البحارة وخوفهم من المجهول وشوقهم إلى اليابسة المأهولة بالكائنات الاليفة عبر تراتيله الجنائزية المصحوبة بجماليات الحناجر الخشنة , أن الجوقة السمفونية للنهام كائنات لا تمتلك العذوبة الصوتية ولكنها تحيل إصطخاب زمجرتها إلى مقاطع من سمفونية البحر اللامتناهية.
د – اللغط / الاصوات المتداخله:
اللغط علامة شديدة الكثافه لأنها تحيلنا على مجاميع من مصادر الصوت: أصوات موجودات غير حية , أصوات موجودات حيه أنسانية وغير أنسانية , تنضغط في المساحه الدلالية لهذه الدالة , فتزداد تداخلاً وغموضاً وتحيلنا على دال سابح ومدلول يعوم قد أعتنقا في بنيه الغياب ولن يتركا لنا سوى ديمومة الاثرتارة تحل هذه العلامة في (نقيق الضفادع الحاد ص 26) الذي تناهى إلى مسمع بطل (المسفن) عندما طاف حول سدرة الدار / الطلل محيلا على مسخ وجودي للفراغ الاليف أقترفتة الازمنه مستبدلة أصوات ساكينها بنقيق لا دلالة له سوى أستحضار مزاح للأصوات البشرية الغابرة الغنية بالدلالات. وتارة تتجلى في " الاصداء " المنادية نداءات عنيفة (وقتها أستجمعت الرؤى والاصداء نداءاتها بعنف لتنسكب في قرارة نفسه بذات الوتيرة وهولولولو هولو يالله ص 26).
واخرى تتموضع في (كركة) أستلها من القاموس اللهجي العامي وظفها في قصته(المسفن) تلك الاصوات اللغوية التي يقضم بعضها بعضا لتحيل إلى سياق صوتي غير مفهوم حين يصدر عن جماعة لغوية أخرى مثل (الهنود) الذين عبر الكاتب عن لغطهم الذي كان يتوقف لسماعه في أرتياده وتجوله اليومي في المسفن بقولة: (وسماع ما يطلقة البحارة الهنود من كركه له ما يبرره ص 11) وقد وفق بإنتقائها من اللهجة العراقية وتوظيفها مثلما وفق سلفة البصري (السياب) في أنتخاب لفظة (خطية) من عامية شعبه في قصيدتة الخالدة (غريب على الخليج) ومثل ذلك ينطبق على عبارة (هولولولو هو لو يالله) في قصتة مقبرة الدوب فهي مستلة من معجم البحر والنظام اللغوي الخاص بالبحارة وقد وظفها الكاتب لتجسيد صورة نفسية ألهبت خياله بأصوات شبحية لبحارة غابرين كانو يمتطون صهوة تلك السفن / الخيول المائية الغارقة ليمخرو عباب العالم المائي / الكون المصغر.
ثالثاً – الحركة:
تعج شواهد الاشياء بإلتفاتات كثيرة إلى الحركة , وتوظيفها في التشكلات السردية للمشاهد , وهي صور مشهدية في مجملها , صور كبرى تندرج في سياقها مجموعة من الصور الجزئية المتناغمة المتماسكة في وحدة موضوعية ونفسية , فمن ذلك قولة: (أقتربت زوارق الدورية.. متقدمة بقوة , شاطرة المياه نحو أندفاعات زبدية متضادة ص 13) يعج المقطع السابق بالعلامات الحركية أفعالا وأحوالا , ولا ريب إن سيادة العلامات المقترنة بالحركة تبتعد بالنص عن السكونية والثبات ففي مملكة اللاشعور تقترن الحياة بالحركة والنشاط وتقترن بالافعال مثلما ما يقترن الموت بالجمود والتحنط الفعالي , أنها لوحة مائية مرسومة بالكلمات وكاتبنا رسام ماهر على امتداد شواهده ولا اجد نصاً ينقل المشهد الذي يراه من يقف على ضفة الشط حين تمر الزوارق بإرتساميه المادي والنفسي واكثر دقة واحتواءً للحركة وأحساساً بها. وحين يعبر عن ركلة تعرض لها بطل (المسفن)من مامور الدورية لايكتفي بالوصف الخارجي المحدود للركلة بوصفها فعلا حركيا ماديا بل يمنحها ثقلا دلاليا مضاعفا بواسطة الوصف التشبيهي محيلا على علامة اشتهرت ب"الركل" و"غياب العقل":(داهمته ركلة خيل اليه انها ركلة حمار ممسوس ص15)وهي بلا شك من مشاهد وعبارات السخرية السوداء.ومن النصوص الاخرى التي تظهر وعيا جماليا با لحركة قولة (تراكضت المويجات ببطءٍ معهود مخترقة ركائز المسفن ص15 بدت حركة الناس والزوارق في اوجها ص15 استباح المد سطوحها المعشبة ص21 تمادت اذرع المد بارتفاعاتها المتصاعدة ص21 ترك ظله الموشوم على جسد المياه ارتعاشات قلقة ص21 هز انزلاق المردي زورقه وجعل جسده الناحل يتململ ص21 بدا المطر يهطل خفيفا وهو ما زال يمضي قدما ص49)
رابعا –الالوان:
ما دمنا نتعامل مع رسام حاذق بالكلمات فلا يمكن ان نتوقع من ريشته اللغوية ان تستغني عن احدى اهم خامات الرسم،تلك هي ((الالوان)) التي تحيلها اللغة الى علامات ضروس تزيد من كثافة الكتلة الرمزية للتشكلات السردية في الشواهد، فمن ذلك (تمنى لو يؤتى بقوة ابصار كي يدرك هذا الجسد الهلام المحفوف بالروائح ص12) انه كيان سديمي يحيل على ذات متخيلة منحها النص كثافة تنتزعها من عالم الحدس الى عالم الادراك والحس، وكقوله (ند عن طيف لجسد امراة مخلوقة من عتمة غسقية كان ظلها مرسوما على الجدار الذي كنت ماثلا بازائه ص34)تحيلنا هذه الصورة السردية الى ابعاد الشفافية اللونية والتلاشي المادي الذي يختزله اللون ويلقي بظله على الموجودات وهي مضغوطة في احتدامات لونية قاتمة تقضي على شفافية الحضور الانثوي في النص لتحيلها الى محض ظل كئيب على جدار ما انها ظل وليست انثى حقيقية،هلام شبح عابر مرفي رؤيا الشاهد،ان للالوان القاتمه والشاحبة حضورا حاد في الشواهد مما يعكس حزناكونيا يتموضع لونيا كما في قوله الاخر: (راها تدفن وجهها في فوهات المباخر تحاور الادخنة المتفاتلة مثل افاع متوحشة تكشف صدرها المرصع بالاوشام نحو السماء ص22) لوحة مرسومة باللونين الازرق والاسود (فوهات المباخر / الادخنة، الاوشام / السماء) دعمتها الصفات بالحركة (المتفاتلة،متوحشــة)، كما تحفل الشواهد بالعلامات اللونية النورانية مثل (الليل الفيروزي،جناح ملاك،الفراغات المتوهجة،مراياه الخبيئة ص44 تلوح التماعاتها الملغزة ص46 تبرق غررا من نور متشحة برؤى الفجر الدامي ص54 ببريق غريب ومتشبث ص73 الكلمات المتقدة ص73 اسيجة النجوم الممضضةص20)
(5)
الفراغ السردي /جدل الامكنة والازمنة:-
تتمحور سيرورة الوقائع في الشواهد حول انموذجين من الفضاءات:
1- المكان الموضوعي:
وهو الغالب على البنية الفضائية العامة للشواهد،مكان معيش له نكهته ورائحته وموجوداته الخاصة،امكنه جنوبية بامتياز،عوالم جنوبية –بتعبير الشاهد- تحيل على رؤية عراقية – هل اقول بصرية؟ - مشبعة بالوجد والنشوة والحب والحرب والحياة والموت واعباء التاريخ والافراح الدامية.
أ-المسفن:
مكان صناعة الاسفار والرحلة في المجهول،وتخليق الاحلام التي تنطلق بالكائنات الخفية اللامرئية /بحارتها المائيين – الى ارض البحر – لن اقول عرض البحر – مكان لايكتفي بيوميات الصناعة القدرية بل يضع عالم الشاهد بين قوسين من يوميات الرحلة الارضية بين الحضارة الكلوروفيلية بمباهجها الصوفية المتاحة والتجوال الوجودي في غيبوبة الترياق ووسائل "الهروب"من اشياء المسفن الصغيرةمن انصات بليغ الى"كركه"لاتدل على شيى واختراق لجدار الممنوع ممثلا بطوق حرس السواحل والتدهور مابين اسيجة البيوت الطينية المتصدعة او التوحد بشبح امرأ ةغامض يستعاض عن دهشة خلفها في الذاكرة بعناق جذع مطروح تحت سريان حشرات اللحظات الضائعة الى ان تنتهي الرحلة الارضية بالعثورعلي جثة امرأة المامور وعودة الشاهد الى انزوائه الاثيرو الاخير.
ب-مقبرة الدوب:
مكان يقف على طرفي نقيض مع المسفن، المسفن مرسى المغامرات الارضية وفضاء صناعة الدهشة والتشويق اما مقبرة الدوب فتمثل القطب المعاكس في ثنائية الحياة والموت في رؤيا المكان المائي،انها نهاية البدايات نهاية طموح وبداية السكون اللامتناهي والتلاشي في فداحة النسيان وضخامة كتلة الغياب السائدة،حتى لا يبقى من العالم المائي /الارضي سوى (الاصداء التي ما انفكت تتجاذبه،اصداء تزخر بهمهمة غامضة وانين مخنوق ومتداخل يد ثر الذاكرة برؤى موحشة تغرقه في مجاهيل خالها خلجانا شيطانية ص20)،مقبرة الدوب هي الطلل المائي الذي يقابل الطلل الارضي، يستجلي النص جوانياته الشديدة العزلة واسراره الغامضة محاولا ان يفتض طلاسمه (لاتقترب من تلك المقبرة الطافية انها الشؤم عينه ص22) المقبرة المائية معادل موضوعي لعالم الاحياء،وهي تختزل في كتلتها الرمزية منحنيات العيش في العالم الذي يقع خارج الذات:مدينة /قرية/وطن تتوحد المسارات وتتقاطع تجارب البر والبحر في بؤرة المكان الميت،تقول د.سيزا قاسم في حديثها عن بناء المكان الروائي:(ان اضفاء صفات مكانية على الافكار المجردة يساعد على تجسيد ها...ويعكس البناء المكاني كل هذه الامور والمنظومات الذهنية مع اختلاف اسلوب كل رواية في استخدام هذا الترابط الذهني بين المجرد والمكان)(28)افصحت الرؤيا الطللية للمكان المائي عن كتلتها الرمزية عبر انبثاقات الزوال المتناثرة في فراغ النص مثل (حاول ان يلم بحشد الوجوه تلك.. حاول ان يمسك بذيول ازمنة خلت ازمنة صحبه الذين تقاسموا الموت ص24).ان مقبرة الدوب في الماء مثل مقبرة ام البروم في اليابسة – في رؤيا السياب – يخرجها الرائي /الشاهد من سباتها العدمي وينفخ حركة الحياة في قيامة للموتى /قيامة للمكان والزمان – ليستعيد الماضي حضوره شبحيا وهي الية لاسبيل سواها الى استعادة ماضي المكان السحيق الغارق في دوامات الزمن الهارب (انحدر بزورقه تجاه مقبرة الدوب الغرقى التي استباح المد سطوحها المعشبة فكر ان السنة المويجات المتهادية جعلت الحيوات تدب بهياكلها عادت اليه النداءات..عادت كما لو كانت خوارا او حشرجات جماعية تقذف بها اكف الموج من قرارة قيعان سحيقة..الاتتعب تلك الاصوات ص23)،بزغت اشباح الدوب المترنحة ص23)والزمن السردي بوصفه بعدا من ابعاد المكان لاينفصل عنه لايتلاشى بل يدخل في ديمومة التحولات والرؤى (خالها مثل شواهد حجرية تسور رقعة الدار التي بقدر ما كانت تشيخ وسط تلك الانواء كانت تزدحم بالذكريات مثلما هي الان مزدحمة بالاسئلة اروقتها لاتنام ص20).والدوران حول سدرة الدار وسيلة نفسية او حيلة وجودية لاسترجاع عالم استلبته سلطة الزمن وجعلته من ممتلكات الماضي (هاهو يجوب الاروقة التي كان قد ولجها طاف حول سدرة الدار كان ثمة انتظار غامض ص26)تتجسد عبر الكتلة الرمزية الدورانية حول قطبية الفراغ الزماني والمكاني تلك الوظيفة السيميائية للزمن السردي التي يصفها د.حسين الجبوري بانها تتوقف على رمزية العلامة اللغوية التي قسمها سوسير على الدال والمدلول وراى ايكو حتمية اقتران العلامة بشفرة تفضي الى فهمها من لدن الملتلقي فالعلامات تشكل ادراكنا لعالم الادب وهنا يجيى دور التقسيم الثنائي لسيميائية العلامة فهي علامة عرفية / اصطلاحية من جهة وهي من جهة اخرى قائمة على اساس سوسيو /ثقافي يمكن تحويلها الى علامات ذات اتجاه ايحائي رمزي(29).
ج-النزل:
مكان له شخصية زمانية محضة،هو مقطع من زمن الشاهد اكثر من كونه مكانا احتوى الحدث - (خيالات ثقيلة ومشوشة تسعى الى مأوى على مساحة جدار الزمن المغلول ص49،ان احدا ما كان ليتذكر زمن النزوح ممن عاشوا احداثه انه وجود قصي لنسيج متواتر من حقائق خفية ما زالت تعيش في كنف شواهد احسستها ص30)اننا جميعا نعيش في نزل ما في هذا العالم،جغرافيا تنا السعيدة والحزينة محطات في سفر محتوم،وحواريات النزلاء،في قصة (شواهد الاشياء) التي استمدت منها المجموعة عنوانها المركزي ما هي الا استبطانات لجدلية الزمن الصارمة عبر ثيمة النزوح الذي يكتسح عوالم اثيرة لنزلاء الشواهد (يقولون انهم سيمنحوننا الاراضي التي وعدوننا بها..شعر الجميع بالغصة.. استرقت النظر الى عيني جدي اللتين بدتا وكانهما خرزتان من اليسر المفضض..في الصحراء كيف لم يعد لنا نحن الشيوخ سوى انتظار الموت هناك ص36)اما المقطع الاتي فهو اختزال مكثف لمجمل الايقاع الزمني للنص سيرورة الوعي الزمني للراوي (فرغت حلقة النزلاء من مقومات تواجدها عندما اسدلت التساؤلات التي لااجوبة لها على امانيهم المعلقة وسط مسرح النزوح النهري لاحت امامي الطرق المؤدية الى بيوتنا التي امست كل عوالمها محض استحضار اما ما خبى لنا فهو غامض مثل سحنات الوجوه التي اختفى خلفها التساؤل..من اين لنا بذلك الجني كي نمسك جميعا بكلتا خصيتيه ولا نطلب منه شيأ سوى رد بيوتنا التي محيت ص37)ان الجني علامة تجسد فيها الزمن الذي لا شكل له ودلت على انه ليس لاحد من قدرة عليه،الجني هو القدر الذي لايقهر،جني اصم تتكسر على طبلة اذن حواريات الخوف واسئلة الذوات القلقة،يقول د.عبد الله ابراهيم (ان الزمان والمكان يرتبطان ويتاثران بكل من الحدث والشخصية)(30) وذلك في حديثه عن وظيفة الرؤى في القصة العراقية،كما يشير الى ان الخلفية الزمانية والمكانية قد شحبت وبدت عبارة عن حالة سرابية تبحر فيها الشخصية وهي تتضور الما وان الزمان والمكان يوضحان الأرضية التي تقوم عليها بعض حقائق السرد القصصي وبذلك تضفيان السمة الواقعية على القصة(31).
ومن العلامات المكانية الأخرى في الشواهد:
د- الأباريق والقدور والمباخر التي خبا مجد أيامها الخوالي ص31بوصفها علامات مكانية تحيل على تجليات زمانية.
هـ-المباني القديمة ص31 وهي أمكنة ذات شخصية زمانية.
و- النافذة التي كنت متبروزا فيها ص31 يقول باشلار (من خلال النافذة يتحاور البيت حول الاتساع الهائل مع العالم)(32)
ز –الجدران الرطبة ص33.
ح –القسم المعزول من النهر ص34 الأمكنة المعزولة بمثابة ملتجآت للذوات اللامنتمية للفراغ. المحيط بها، تمارس فيها سلطة التوحد بالطبيعة الأم وإدارة العالم الشخصي-
ط –الفنار الشاخص ص37 وهو بمثابة حارس الماء وعابده المطل على هواجس السفن والبحارة،وهو قناع للشاهد.
ي –تنانير الأكواخ المبعثرة ص38.
ك –القباب ص44 علامات تحيل على أمكنة القداسة مقاربات أرضية لقبة السماء
ل –تضاريس الجنوب ص40.
م –القيعان ص45 وهي من الأمكنة المعزولة التي تنفتح رمزيا على العقل الباطن للشاهد،القيعان بمثابة العالم السفلي للقارة المائية في الرؤيا.
ن –البيوت العتيقة ص53 وهي تنتمي إلى الثيمات المكانية:د,ه،و،ز،ي.
س- فناء كوفان:حيث تلتقي الأزمنة باستمرارفي رحاب اللامتناهي في الكبر،المكان الصغير/المسجد،المقدس،المعمد بدماء الإمامة الشهيدة، امامة العقل: علي بن أبي طالب، مسلم بن عقيل، هاني بن عروة، الشهيد الثاني، طبقات اجتماعية تتوحد تحت راية الثورة المقدسة.
ع – السجن ص 78 المكان الضيق الذي يتداخل مع كافة أشكال الأمكنة المعادية.
ف – مكتبة صرح الصدارة العلمي ص84 وهو مكان مرتبط بالثيمة المكانية: س. وغيرها من الأمكنة الموضوعية.
2- الأمكنة المجردة / اللامكان:
فراغات نصية مفترضة تحيل على عوالم نفسية تنتمي الى مملكة الحلم أكثر من انتمائها الى التشكلات الموضوعية المعيشة للمكان بيد أن الصلة بين النوعين غير منقطعة البتة، مثل:
أ- المجهول:
ب- فراغ يحاول طريق الرحلة الأرضية للشاهد استجلاءه.
ت- الفضاءات المرآتية: عوالم متناثرة تنبثق من مرآة المياه المتشطية ص24، تصبح جسرا بين عالمين يفتح الظاهر على الباطن حيث الواقع يمحى.
ج-العمق/ الأعماق ص26. أمكنة مشبعة بحشرجات المخاض السري للكينونة الغواصة في الارتباط بالمقدس / الارتباط المشيمي بالأرض / الأم الكبرى وألام الموضوعية.
د- دوامات السأم ص31: فضاءات تبتلع الأشياء والمكونات وتأريخ المسرات الشخصية للشاهد.
هـ- الفراغات الحكائية لسرديات الأمومة ص32.
و–السكون ص33وهو بمثابة عالم الصمت الذي يحتشد بأصوات الازمنة تسري واهنة عبر تضاريس المكان
ز – مسالك الفراغات المتوهجة ص44.
ح –مدينة الاشباح والفجر المنتظر ص70 حيز ضبابي يتمخض عنه اللاوعي فــــي رؤيا/قصة (سنابك المتقدات)وهي وان لم يكن لها عنوان ارضي محددالا انها تخلق هذا العنوان عبر وصف المكان الذي قدمه الكاتب لهذه المدينة مفتاحا لفهمها (ارقها الانتظار،لا احد يدرك فجيعتها،او يخفف من وطاة غربتها،راقبتها دوائر معلومات الشيطان،توجسوا من دلالات فجرها ومعادلات انتظارها،..قال ثلة ممن توغلوا في بواطن تاريخها:متمردة طاردوها بسبب الرفض المزمن،تدارك اخرون:حلمها غامض ومريع ستحيد عن مساراتنا..هبت عاصفة القبائل تحمل احقادها من خلف دهاليز الازمنة..تردد ان المدينة تعد لمصلحها الغيبي وهو لم يزل قائما خارج الزمن لذلك وشموا ازمنتها بالسواد عملوا ولائم للدم وقالوا ان الحبل السري لذلك المصلح الغيبي ما زال عالقا في عمق المديات ص71)هذا الوصف المكاني لمدينة الاشباح بدلالاته العميقة التي يشترك العقل والعاطفة في تشكلها سرديا ليحيلنا على مكان لاثاني له تلك هي مدينة المهد وفضاء انبثاق الكينونة ووعيها لوجودها انها البصرة الثائرة الصابرة المتمردة على طغيان التاريخ وديناصوراته الرهيبة والياتها لتحطيم الكينونة المتسامية وهي بدورها تحيل في دلالاتها المكانية الكبرى على الوطن،مكانا يحتوي البصرة وتحتويه في كتلة رمزية تمنحها العلامات كثافة دلالية تشاكس نظارة التاويل وحفريات القراءات.يقول د.عبد الله ابراهيم:(ان تركيب أي نص ابداعي يكون نتاجا لمظهره اللفظي وعن هذين المظهرين تترشح الدلالة المكانية في النص) (33)
فاللغة الادبية تقوم بتخليق عوالم جديدة من تعالق الدلالات اللغوية ويقوم القارى بكشف تلك العوالم الجديدة وما بين يديه ما هو الاسيل من الدلالات قام الكاتب بتنظيمها على نحو خاص يومى او يقرب او يسهل ولادة العالم المتخيل في ذهن القارى فالالفاظ مفاتيح يستعين بها القارى لانشاء مدينة التخيل العجيبة (34)وفي هذا يكمن (دور الرمز في تجسيد تصور البشر لعالمهم)(35). فالمكان (حامل لمعنى وحقيقه ابعد من حقيقته الملموسه) (36) واخيرا وليس اخرا اؤكد ان شواهد الاشياء علامة مميزة في مسيرة الادب البصري،تفيد من الاخطاء الفنية للقصة الثمانينية والتسعينية التي رصدها د.عبد الله ابراهيم في المتخيل السردي وتتجاوزها تجاوزا واعيا ومؤسسا، وهي كتابة غنية ومغنية بحداثتها.
[1]
مشاركة منتدى
6 تشرين الأول (أكتوبر) 2013, 07:09, بقلم abdallah ben zahia/Algérie
مقال ممتاز، أشكرك على هذا التحليل الذي يبدو كأنه يخترق الماوراءيات الأدبية، من خلال النضرة المتأملة للعمل الأدبي، لكن يبقى أن نقول أن ررمزية النص تكون في أغلب الأحيان الخلفية التي لا يريد الكاتب إظهارها بشكل علني، هذا الجزء الأول من المعادلة الإبداعية التي يعمل الكاتب على الوصول إلى حلها، و هي بالطبع تمثل النص الذي يبده في الأخير، أما الجزء الثاني يتمثل في مدى شاعرية اللغة التي يستخدمها، و كما هو معروف فالشاعرية على مستوى اللغة تبعث تلك المعاني الظاهرة و المحتملة التي يظل عن طريقها القارئ في المتن الروائي، خاصة من أول قراءة، لكن سرعان ما تجتمع المعادلة( رمزية اللغة/ شعرية اللغة+ القارئ) لتعطي نتيجة إبداعية مفادها دخول القارئ في الإطار الروائي و تفجيره لتلك المعاني و هو تتويج للكاتب.