المذهول وقصص أخرى
الشارع جميل و مزدان بالأشجار في حي انجيلوود بمدينة لوس انجلوس.
الشارع يبدو غائبا عن الكون بأسره في أحضان حلم يدفئه السكون ..
ويعززه الارتخاء المصاحب لصباحيات أيام السبت.
ثمة عصافير تحتضن صغارها ...
كلب يتثاءب في كسل ...
قطة تتدحرج على الأعشاب منغمسة في لحظات لهو...
وفجأة ...
اهتز الشارع...
اقتلعته من سكونه سيارات متطايرة مدوية بصراخ حاد.
سيارات شرطة ..
إسعاف...
وسيارة مطافئ..
ذٌٌُهِلَ السكان...
عيون تعاند الإغماض طلت حائرة من النوافذ..
فضول يدفع البعض إلى الاندفاع خارج بيته ..
تطايرت السيارات لتقف أمام بيت في أخر الشارع..
حاصرته .. طرق عنيف..أصوات تنادي.. هرج..
باب يفتح على عجل .. يندفع القادمون داخله ....صخب ..أصوات تتقاطع .. همهمات لاسلكية ... الشرطة تقتاد رجل ذو ملامح تركية .. ملابسه مبعثرة فوق جسمه...دم يلطخ يداه......يبدو في الثلاثينات من عمره .. نحيل... يتوسط وجهه الشاحب شارب كثيف الشعر... عيناه متسمرتان من الذهول.. عمق حيرتهن فلاشات التصوير.. والأصوات المتقاطعة..
يخرج من البيت ضابط شرطة يحمل عددا من السكاكين التي تقطر دما....
جارة عجوز تهمس لزوجها وهى تجذبه نجو باب بيتها .." ألم أقل لك لا تتحدث معه ... كنت على يقين من أنه إرهابي..إن حدسي لا يخيب".......
عجوز أخر يحدث جاره .. " قلت لأصحاب البيت .. لا تتركوا هذا الأجنبي لوحده في بيتكم...لا ريب أنهم نادمون الآن"......
أم تخرج مسرعة لتنزع طفلها وتدفعه داخل بيتها وتغلقه بقوة...
يدفع أحد رجال الشرطة الرجل المذهول إلى الكرسي الخلفي للسيارة .. فيما يواصل أخر قراءة حقوقه عليه...
"بإمكانك أن تصمت حتى يأتي محاميك ... كل ما تقوله سيتم استخدامه ضدك...لك الحق في مكالمة هاتفية واحدة .."
المتهم في حالة جمود كلي.
تنطلق السيارات واحدة تلو الأخرى .. ضجيجها يغطى صوت الشرطي وهو يؤنب التركي المذهول.." ألا تعلم يا هذا أن ذبح الخرفان في البيوت جريمة يعاقب عليها القانون بشدة ... ألا تعلم ذلك !.. لقد أحسن جيرانك صنعا بإبلاغنا".
هز المتهم رأسه في ذهول وهو يقول لنفسه ...
"لا بد أن في الأمر مزحة ما .. إنهم أصدقائي الأتراك وراء ذلك... لابد أنهم هم.. ....يا الله ....كم هو ثقيل المزاح ......في أيام العيد المباركة".
الهزيمة.... !
يا لها من ليلة شرسة ...أمضاها بحثا و لهثا .. اسودت قوائم رجليه وهي تطرق الإسفلت .. تدلى لسانه.. اضطربت دقات قلبه .يجري ..عيناه تسابقان قوائمه ..وهو يجرى ..الجوع كافر والبرد أكثر كفرا...
عند ناصية الشارع ..تراءت لعينيه أكوام القمامة .. انطلق نحوها مبتهجا..داعبت انفه روائحها...فتخدرت حواسه بنشوة غامرة.....تراقص ذيله منثرا حبات العرق .. قرصته أمعائه بقوة وتدفق ما تبقى من لعابه .....انقض بقوة على الكوم. .. يمزق الأكياس وينهشها... تناثرت المحتويات.. فتناثر معها ...قلبها.. وغاص فيها ....بعثرها يمنة ويسارا .. قافزا من كيس إلى أخر ... ثم أخر ... أعياه البحث ..ارتمى على الأرض... طافت عيناه المجهدتان بأشلاء القمامة المتناثرة..بقايا خبز .. مكرونة ..علب فارغة ..قطع قماش .. كتاب ممزق....تراقص رأسه .. غمره إحساس طاغي بالقهر .. لا أثر لبقايا لحم ..أو عظام ..... رفع رأسه نحو السماء ... خيوط الضياء بدأت تدب على سقفها ........عوى من الغيظ ثم بصق على الأرض وابتعد قائلا..".....قاتل الله الكلسترول والرواتب الوضيعة..... ".
القبر
.
على غير عادتهم .. دفنوه في الصباح الباكر.
شيعوا جثمانه على عجل وكأنما ليرتاحوا من عناء واجب ثقيل.
سكبوه في حفرة ثم أهالوا عليها التراب وافترقوا عائدين إلى بيوتهم وأعمالهم.
لم تشهد المقبرة قط مراسم دفن بهذه العجالة.
ما أن اقترب المغيب حتى وفد بعض الزوار......
امرأة عجوز..دنت من القبر..قبلته .... رشته بماء الزهر .. تمتمت كلمات لم يتسنى لأحد سماعها.
طفل صغر ..همس شيئا للقبر...واختفى مسرعا.
امرأة شابة .. لم تقل شيئا .. وضعت رأسها على القبر وغسلته بدموع دافئة.
أخرى أكبر سنا توجهت إلى السماء متضرعة بالدعاء .
في أواخر الليل زار القبر رجلان ... تلتفتا يمنة ويسارا... وضعوا إكليلا من الزهور .. ثم غادروا في عجالة .