

المقاوم
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
منذُ أربعةِ أيامٍ وأنا أشعرُ بأنَّ عقلي مشوشٌ مثل تلفازٍ قديمٍ فَقَدَ فجأةً إشارته ؛ الهزالُ يسري بطيئًا في بدني كله، والحزنُ يخيّمُ على قلبي ويؤلمه، لقد ظلَّ الجوُ طيلةَ هذه الأيامٍ مضطربًا كعادة أيام شهر مارس في صعيد مصر، وظلَّتْ رياحُ أمشير تضربُ أشجارَ النخيلِ والصفصافِ والمانجو والجمِّيز والنوافذَ الخشبيةَ وأسلاكَ الإنترنت كأنَّها جلادٌ بلا قلبٍ يجلدُ مذنبًا، وكعادتي عندما يقتربُ من قلبي الإحباطُ أهرب بسرعة البرق من « التيك توك » و« الفيس بوك » والجحيم الأحمر الذي يعيش فيه إخوتي في غزة هذه الأيام الغبراء إلى جوجل، وأبحث عن نفسي جديدها أو قديمها من خلاله ؛ فنار جوجل أهون مليون مرة من جحيمهما.
وبسرعةٍ كتبتُ في مستطيل البحث الذي يتوسّط صفحةَ جوجل البيضاء اسمي الذي اعتدت الدخول به إلى جوجل ألا وهو «العربي صابر النابلسي»، وضغطت على زر البحث ضغطةً واحدةً، ودخلت هذا العالم الافتراضي الذي يخفّفُ عنّي التشويشَ العقلي والهزالَ البدني والحزنَ والضيقَ اللذين زادا وفاضا.
رأيتُ في أعلى الصفحةِ صورتي بالأبيض والأسود، حدَّقت فيها أكثر، ورأيت شعري الأكرت، وعيني الكحيلتين المدورتين، ورمشي الكثيفين، وجبهتي العريضة، وأنفي الكبير المنتصب، وشفتي السمراوين الممتلئتين، وشاربي الأسود الذي يظللُ على شفتي العليا، وطابع الحسن وهو ينتصف ذقني، فضغطتُ مرةً أخرى، وقرأتُ ماكُتِبَ أسفلَ الصورة ؛
العربي صابر النابلسي.
فلسطيني الجنسية.
أسير بسجن النقب منذ ثلاثين عامًا.
مواليد 28 مارس 1968م.
وُلِدَ في نابلس بفلسطين المحتلة.
تخرَّج من كلية التربية عام 1997م.
عمل معلما للغة العربية بمدرسة القدس العربية في نابلس القديمة.
الطول 176 سم.
الوزن 72 كجم.
قلتُ لنفسي وأنا لا أصدّقُ ما قرأتُ:ــ
إنُّه نفسُ اسمي، ونفسُ ملامحي، ونفسُ تاريخ ميلادي، ونفسُ كُلِّيتي، ونفسُ سنة تخرُّجي من الجامعة، ونفسُ مهنتي، ونفسُ طابع الحسن أسفل فمي، ونفسُ طولي ووزني.
زاد ذهولي، وتسارعتْ ضرباتُ قلبي، وزاد جحوظ عيني، وجف حلقي، واضطربت أمعائي، ونسيتُ أمشير والعواصفَ التي تعصف بالنوافذ الخشبية وأشجار الصفصاف والمانجو، والنخلَ الذي يقاوم الرياح العاتية حول بيتي، وخيَّم الصمتُ عليَّ فجأةً، وارتعشتْ شفتاي، وقلتُ لنفسي في تلعثمٍ مستفهمًا وأنا أكاد أن أُجن:
هل يكون هو أنا؟ هل أكون أنا هو؟ هل نحن الاثنان واحدٌ؟ هل...؟!
ثمَّ في استدراكٍ قلتُ لنفسي إنّني العربي صابر النابلسي، وإنّني صعيدي من مواليد مركز البدراي بمحافظة أسيوط بجمهورية مصر العربية، وإنني مازالت أعيش فيها، ولم يحدثْ أن سافرت خارجها ؛ فكيف أكون أنا هو؟! وكيف يكون هو أنا؟! ثم قلتُ لنفسي:
لا لا، مايحدثُ لي ربَّما كان هذيانًا، وربما كان خطأً ؛ فهذا التطابق بيني وبين العربي الفلسطيني غيرُ معقولٍ.
نظرتُ مرةً أخرى في نتيجة البحث الثانية، ووجدتُ أسفل الصورة السابقة فيلمًا روائيًا قصيرًا تتصدّره صورتي نفسها، والنارُ المستعرةُ تأكلها من أسفل إلى أعلى، والدخانُ كَتَبَ أعلاه بخط كوفي «من حجرة الدراسة إلى الجحيم» ؛ فاندهشتُ أكثر، وتلعثمتُ أكثر وأنا لا أصدّقُ ما أرى لكنَّ فضولي سيطر عليَّ؛ فضغطتُ بسرعةٍ على زرِّ التشعيل، ورأيتُ العربي صابر النابلسي وهو في السابعة والعشرين من عمره ينحني، ويقبّل يد أمه العجوز التي تقف أمامه وهي تغطّي رأسها وكتفيها بطرحتها الفلسطينية الجميلة، وتدعو الله أن يحفظه، ويطيل عمره، ويسعد قلبه، ويرزقه ببنت الحلال، ويفتح العربي البابَ، ويخرج سعيدًا نشيطًا، يقتسمُ طعامه مع قطةٍ كانتْ تنتظره خارج البيت وهي تموءُ ثم ينظر سعيدًا في شجر برتقاله الذي أزهر زهورًا بيضاء جميلة، ويستنشقُ عطر برتقاله، ويقلِّد أصواتِ العصافير التي تغطّي الأغصان الخضراء، ويمشي حتى يصل بيت جاره العجوز، يجده جالسًا يغزل الصوف أمام بوابته ؛ فيقترب منه، ويقبّل رأسه التي كساها الشيبُ، ويربت بمحبةٍ صادقةٍ على كتفه، ويأخذ أولاد جيرانه الصغار معه إلى المدرسة، يخطون وسط الزيتون المثمر وأشجار البرتقال النابلسية الجميلة..
في حجرة الدراسة المزيّنة بخرائطَ ومعالم فلسطين التاريخية يحكي مثل جدٍ صادقٍ لتلاميذه قصصَ الأبطال الذين دافعوا عن أرضهم وتاريخهم ودينهم ثم يعود قبل آذان العصر سعيدًا إلى بيته، وعندما يقترب من بستانهم وبيتهم يجد الجرافات تحاصر البستان وهي تكشفُ عن أنيابها المرعبة، وتستعد لاقتلاع أشجار البرتقال والزيتون، وجنود الاحتلال يهجمون كالوحوش المفترسة على أمّه، وأمه العجوز التي ملأتْ التجاعيدُ وجهها ويديها، وانحنى ظهرها تتصدّى لهم ولجرافاتهم المسعورة، فيسرع نحو أمه، ويحول بينها وبينهم، ويحاول أن ينقذها منهم وأن يتصدى لهم بكل قوته، يقول لهم بصوتٍ مزلزلٍ إنه بيتنا وأرضنا يا ناس، إنه عالمنا الذي ورثناه من آبائنا وجدودنا يا هووووه، ويقول قائد الحملة ببشرته الحمراء وعيونه الخضراء ولهجته الغريبة إن الحكومة الإسرئيلية قد صادرت هذه القطعة، وسوف تبني فيها مستوطنةً جديدةً لأسر جاءت مؤخرا من كندا وروسيا وأثيوبيا وإسترالية، فيصرخ العربي فيهم كالمجنون: كيف؟! إنه بيتي وبستاني؛ فكيف تأخذونهما منّي هكذا في لمح البصر؟! كيف يا ناس؟! هذا لن يحدث أبدًا، فيلقون القبض عليه، ويقيدونه، ويهرولون مبتعدين به عن بيته وحديقته وأمه العجوز ويرمونه في صندوق سيارتهم الأمريكية الصنع..
يسيطرُ الذهولُ عليَّ لأن صوت العربي صابر النابلسي هو صوتي، وطريقة غضبه نفس طريقة غضبي، وأمه الشجاعة التي أبت الظلم وتمسكت ببيتها وأرضها نفس ملامح أمي ونفس لهجتها ونفس شجاعتها.
وأكاد أن أجن ؛ فأنا أعيش في قرية قاو بمركز البداري بقلب صعيد مصر؛ فكيف يشبهني وهو في سجن النقب بفلسطين المحتلة؟! وكيف أشبهه وأنا في الصعيد بهذا الشكل؟! وكيف تكون أمه شبيهة لأمي؟ وكيف يتطابق الطول والوزن هكذا؟! كيف؟!
ترتعش شفتاي، وأقول لنفسي «يخلق من الشبة أربعين» لكن هل الشبة يصل حد التطابق بهذا الشكل؟ وهل أمه تشبه أمي بهذا الشكل؟ وهل البيت والمدرسة والجيران يتشابهون بهذا الشكل؟ لكنني أبتسم، وأقول لنفسي إنني لم أتعرّض لمثل ماتعرض له من أحكام جائرة، وإن بيتي لم يتعرض لمثل ما تعرّض بيته له، وإن بستاني وأشجار موالحي لم يتعرضوا لمثل ما تعرض بستانه وأشجاره له، ويسيطر الذهول علي مرة أخرى.
ثم أمرّرُ سهمَ البحث إلى أعلى، وأرى صورًا لمدينة غزة الفلسطينية مدمرةً وقد تحولت الحدائق والعمارات والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والملاهي والمتاجر إلى ركامٍ، وقد صارت ملاعب الأطفال مجمعًا للتعذيب والحدائق ثكنة عسكرية للجنود الغرباء وأتذكر مافعله التتار ببغداد؛ فأحرّك رأسي يمينًا فشمالًا في استنكارٍ.
ثم أرى صورًا لأطفالٍ أبرياء يتمُ إخراجهم من تحت الأنقاض وقد غطى التراب سواد شعرهم وطمس ملامح وجوههم وسحق ألوان ملابسهم وهشّم لعبهم، وأرى صورًا لأمهاتٍ يصرخن كالمجانين في هلعٍ ولايعرفن إلى أين يسرن بعد أن اختفت معالم المدينة الفلسطينية العتيقة؟!.
أتفحّصُ الصور، وتتقلّصُ أمعائي كثيرًا عندما أرى أم العربي وهي تتكوّم فوق ركام المدينة، وترفع يديها في ضراعةٍ نحو السماء، وتستغيث بربها، وتطلب منه أن يرحمهم من هذا العذاب الذي لاتحتمله الجبالُ.
ثم أقرأ أخبارًا عن تدمير مخيماتٍ كاملة بمن فيها في فلسطين، وعن تصفيات لشباب دون محاكماتٍ قام بها العدو، وعن قتلى يتباهى جنود العدو بالخلاص منهم، وعن أبرياء ينفض أبدانهم الهزيلة البردُ والجوع والظلم والأسر والتهجير من بيوتهم وأوطانهم، وعن رؤساء قرروا تهجير أهل غزة خارج أوطانهم وتشييد ريفيرا جديدة مكان بيوتهم؛ فأشعر بأنني تهت عن نفسي وأنني لست أنا؛ وأن العالم ليس هو العالم الذي عرفته، فأقرر أن أبحث عني.
أمررّ سهم البحث لأعلى، وتقع عيناي على فيديو تتصدّره صورتي وقد شحب لوني وهزل جسمي وأنا أرتدي ثياب الأسر وفوق رأسي كتب «الأسر حياة.. التهجير موت»
أضغط على زر التشغيل، وأرى العربي يمسك حجرًا ويرسم نفسه في جدار السجن وهو يقبّل رأس أمه ثم يرسم نفسه وهو يلتف حول شجرة البرتقال ذات الجذور الممتدة في الأرض والثمار التي تلامس نجوم السماء ثم يرسم نفسه وهو يتصدّى للجرافات وجنود الاحتلال ثم يرسم نفسه وهو ينقش خريطة فلسطين في ساعده الأيمن ثم يأتيه جندي من جنود الاحتلال ويخبره بأنه سيخرج من السجن بعد أن قضى ثلاثين عامًا وأنه سيتم تهجيره إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال أيامٍ قلائل ؛ فيبتسم النابلسي ابتسامة الواثق من نفسه، ويكتب في جدار السجن «لا للتهجير».
أبتسم وأشعر بأنني قد عثرت على نفسي وأدرك أن العربي صابر النابلسي هو أنا، شكلي شكله، وصوتي صوته، وطولي طوله، ووزني وزنه، وأمي أمه، وأنني أعاني كل مايعانيه، وأنني لن أتخلّى عنه مهما حدث لأنني إن تخليت عنه أكون بذلك قد تخليت عن نفسي.
آخذ شهيقًا طويلًا، أخطو على مهل، أمسك المرآة، أنظر فيها، أجده قد احتلَّ ملامحي تمامًا، وأجد تفكيري مشوشًا، وجسمي هزيلًا، وملامحي حزينةً مثله تمامًا تمامًا؛ فأضع المرآة مكانها، وأخطو وأنا أخرج من صدري زفيرًا حارقًا.
أصل شاطيء النهر، أجلس تحت السنطة الكبيرة التي أحب الجلوس تحتها، أرى زهورها الصفراء الكروية وتحتها الأشواك البيضاء المدببة مثل إبرة خياطة وهي تحرسها، أحدّق في الزهور والأشواك وأقول لنفسي:
إن الأشياء الجميلة تحتاج إلى قوة كي تحميها، وأمسك حجرًا، أضربه بشكل مواز لسطح الماء، يصنع الحجرُ دواماتٍ جميلةً تصغر شيئًا فشيئًا حتى يسقط الحجر ويختفي في الماء، وأفكر في طريقة أساعد بها شبيهي الطيب في فلسطين خاصة أن البرد يقطع ذيل الفأر، والعدو دمّر غزة وينتوي تهجير أهلها منها، وشهور الحصار تجاوزت الستة عشر شهرًا، وحكومة الاحتلال كشفت عن أنيابها وانطلقت مثل الذئب المسعور تنهش أبدان الأبرياء.
في البداية أقوم بتأسيس موقع إلكتروني أطلق عليه صاحب الأرض وفيه أنشر كل مايتعلق بشبيهي العربي صابر النابلسي، ويقوم أصدقائي بمشاركة كل مانشرته، وتتحرك صور العربي وتملأ صفحات الفيس بوك والتيك توك ويعرف الناس معاناته ويقفون بجانبه ويعارض الشرفاء في كل مكان الظلم الواقع عليه؛ فتتراجع حكومة الاحتلال والحكومات الداعمة لها عن ظلم العربي وتعتذر له وتعوضه عن الأضرار التي أصابته ثم نؤسس حملة تبرعات كبرى هدفها إعمار فلسطين ودعم شعبها على العيش في وطنه بسلام.
ثم أكتب في مؤشر البحث «العربي صابر النابلسي» وأجد في النتيجة الأولى فيديو قصير أرى فيه شبيهي وهو يقف أسفل شجرة برتقال أمام بيته ويرتدي زيه الفلسطيني ويبتسم ويوجه الشكر لشبيهه الصعيدي ولكل شرفاء العالم الذين وقفوا بجانبه ودعموا قضيته حتى تحرر من الأسر واسترد بيته وحديقته وعمله ووطنه.