

المكان والزمان في رواية أموات

القسم الثالث من دراسة موسعة عن هذه الرواية: المكان والزمان:
بعد أن تحدثنا عن البنية والسرد والشخصيات في هذه الرواية، نسلّط الآن الضوء على موضوعة المكان والزمان المهمة في أدب شاكر الأنباري.
يهتم الأنباري بالمكان كعادته، مستخدماً الجهد الأكبر لوصفه وإعادة فلسفته، ولا يحتاج المرء لعناء التفكير والبحث ليصل إلى هذا الاستنتاج، فهناك صفحات كثيرة مليئة به، من خلال انتقالات ما بين لوفان البلجيكية ومناطق بغدادية مثل الميدان وشارع الرشيد والشوّاكة، وأخرى دمشقيّة مثل مقهى الروضة المعروفة والحريقه والميدان وسوقَي الجمعة في الشيخ محي الدين والتنابلة القريب من شارع الحمراء.
لنلاحظ كيف يصف الروائي المكان، "لوفان في الصيف مدينة سياحية بامتياز. ... قررت الجلوس قرب تمثال واجهني فجأة ... يطل على ساحة كنيسة فخمة. وسط بحيرة صغيرة ممتلئة بفقاقيع الهواء. تجمّع البشر حول التمثال، مفتون وجدته ساحرا أنا الآخر وفكرت أن الحياة دائما ما تفاجأ المرء بأشياء جديدة ومثيرة، تمثال صغير ليس لرجل واضح المعالم يقف على منصتين ... يمسك بيده اليمنى كأسا ضخما يصب منه الماء في جمجمته المفتوحة بينما تمسك يده اليسرى بكتاب يطالعه بتركيز شديد! الرسالة واضحة بلا شك، فكلما كثرت عدد الكتب التي يقرأها الإنسان اتسعت معرفته وزادت حكمته". ص 15
يصف الراوي مدينةَ لوفان من خلال عالمه الداخلي "صوت النهر يأتي خافتاً في ليلٍ ساجٍ على الجميع ... وخرير الماء القادم من جهة ما لا أعرفها...". ص 42، لوفان التي أخذت الحيز الكبير في وصف المكان ص 87 ليس بطريقته الخاصة بجولات لا يصف من خلالها البنايات فحسب، بل يصغي أيضاً لمرتضى المقيم فيها منذ عقودٍ، لكنه يشعر بالغربة والحزن رغم افتخاره بثقافة الغرب أثناء حديثهم عن نصير. ص 88 - 89
ويصف الراوي امتنانه للمكان و"تعلّقه" به قائلاً "لقد منحتني لوفان قصصاً رائعة قد تكون مادةً دسمةً للتأمل والكتابة"، ص 158 فيباشر بسرد حكاياتِ أبطاله "... تمنح المدينة معنى وهوية، فهنا المكان لوفان يوضح ويصور علاقة الإنسان بالمكان، "لولا حكايات سام، ونبال، ولميس، ونصير، ومرتضى، لكانت لوفان بالنسبة لي، مثلها مثل أي مدينة زرتها أيام، او عشت في بيوتها"، لاحظ العلاقة الحميمية بين المكان والزمان وتأثيرها على الإنسان والذاكرة الجمعية وعلاقاته الشخصية الأولى ذلك لما كانت لوفان لها أهمية". ص 159
وهناك أمثلة كثيرة على وصف المكان من خلال صديقه مرتضى يضيفها فيصف المنطقة خضراء مليئة "قادني مرتضى من طريق غير مألوف. ... وارتقى بي التلّة الواقعة خلف بيته عبر مساحات من الأشجار والمنبسطات العشبية". ص 159
يتابع الراوي وصف بعض الأماكن التي كان يتردد عليه مرتضى والشهيد نصير في بلجيكيا، ومع ذلك يقول الراوي "المكان الأول سمة المغتربين"! فكرة يطرحها الروائي ويعمل على تكريس عمله لها.
"قلت هذا المكان جلس فيه نصير متأملاً التمثال قبل مغادرته إلى المجهول تتساقط تلك التداعيات في ذهني وأنا استمع إلى سام يصل حديثا". ص 116
ويصف الكاتب شارع الاستقلال في مدينة إسطنبول الذي يبدأ من تقسيم وينتهي ببقعة إسطنبول العثمانية، ليعبّر عن حالة الموسيقي سام، حيث يصبح المكان الأفضل بالنسبة له.
وينتقل بالمكان من لوفان إلى بغداد "لم أكن أتصور وقتها حين كنت التقي نصير في بغداد أنني سأقف ذات يوم على تلّة تشرف على المدينة لأحدق في الشقة التي قطنها قرب المحطة". ص 160
وهو ما يحصل للمغتربين والمنفيين، يعود الروائي مرة ثانية إلى اختيار موضوعة عودة البطل (المثقف الملتزم) إلى الديار، نصير يتكلم عن قصة مغترب عائد إلى بلده فتتجسد موضوعة النوستالجيا التي ذكرتُها سابقا.
يتجول الراوي في أرجاء المكان وهذه الشوارع "البائدة" التي يراها في صيف بغداد، ويصف المحطة العالمية المقابلة لجامع ابن بنيّة، يفكر الكاتب هنا بأي طريقة ليصف أماكن بغداد، "يركب باص يربط بين ساحة النصر وعلاوي الحلّة بدون أي هدف ومن هناك يراقب امتداد نهر دجلة بين الكرخ والرصافة، ويرجع ماشياً في بعض الأيام مرورا بحي الشوّاكة وسوق السمك". ص 162
يحاول الروائي أن يجسد عودة المغترب إلى ثقافته العراقية الثورية الأصيلة، فرغم أنه صار يشتغل موظفاً كبيراً، لكنه يرفض الامتيازات ويتحرك بدون حماية، يذهب إلى شارع المتنبي باحثاً عن الكتب، ومقهى الشابندر وأم كلثوم والزهاوي وساحة الميدان والحيدر خانة والمناطق البغدادية التي يشتاق إليها ويرافقه إلى بار شعبي قديم. ص 164-163
البار هو المكان المفضّل بالنسبة للروائي لوصف تقاطع الزمان بالمكان، وبيان مغزى الرواية الفني، والواقع السياسي، يدخل شخص إلى هذا المكان فيقول الراوي "خارج البار كانت بغداد تعيش جحيمها،" أي بار في زمن الانفجار. الراوي يجلس ويقول "لم يغب عن ذهني أنه يعمل مستشارا لوزير وهو عنوان كافٍ للموت". ص 165 إلى أصوات الانفجارات، والزمان أيضا، هنا يقول "قال إنه قرر أن يقطع السنوات...وقد تجاوزت الثلاثين سنة التي قضاها في الخارج...وسيعيش حتى النهاية في البلد مهما حدث.. وما سيحدث". ص 165
في البار جاءهم شخص ضخم "أول جملة وجهها لنا أننا جبناء، وسفلة، جئنا على ظهر دبابة، والبسطال الأمريكي يقبع على رؤوسنا، ثم مضى في حديث طويل منفعل...". ص 166
يذكرني هذا الموقف ببار رواية "النخلة والجيران" لغائب ط. فرمان حيث يرصد الحالة السياسية في البلد، والجسر الذي يتبول عليه الجندي البريطاني، يقول عنه: بغداد صايره مراحيض مال الإنجليز!
طبعا قتله الحاقدون من المتطرفين ليس بحجة أن الوزراء والمستشارين تعاونوا مع الأمريكان وحصلوا على رواتب عالية وامتيازات كبيرة فحسب، بل لأن نصير قام بنشاطات ثقافية لا يرضون بها وأنه يتحرك بدون الاستعانة بالحمايات! كان وجوده استفزازاً لهم! كانت النخبة الحاكمة في وادٍ آخر لم تعجب به حتى حان قتله. ص 168
وكان نصير يستعيد ذكريات رومانسية عن مقاهي الميدان مثل "طعم الشاي الذي كان يتذكره وهو يعيش في لوفان وشارك في مهرجان النجف ... وأمسية شعرية في مقر الحزب الشيوعي وسط بعقوبة وسافر إلى الناصرية". وفي كل هذه الحكايات كان الراوي يركز على المكان ينتقل من لوفان إلى بغداد إلى بعقوبة إلى الناصرية ويعيد حادثة اغتيال المثقف نصير. ص 170
وليس صدفةً أن الكاتب ينهي روايته بالمكان كأنه امرؤ القيس يتذكر الديار:
المكان- لوفان- لميس ترقص، حزينة، الراوي يتابعها، اقترانها من زوجها نزوة، كانت شابة مراهقة وفرق العمر كبير! صارت تتحدث عن نفسها وحياتها، "أحسست وكأنني أتقمص هذه المدينة وربما جاء هذا الإحساس لصغرها وشخصيتها الحميمة، وهو ما تمنحه للمرء بعض المدن والأماكن من غير سبب معروف، ومن خلال ما زودتني به تجربتي في السفر والتجوال. فهناك مدن عذبه وأخرى عدوانية ممتعة وجافة كصحراء...". ص 174
يتذكر الراوي الأماكنَ، يدور في شوارعها بين قصص قد لا يربطها رابط لأول وهلة، "وجدتني في القاهرة ودمشق وإسطنبول وبغداد وأثينا وسالونيك مع قصص وحكايات نبال وسامي ولميس ونصير ومرتضى كما لو كانت جزءا مني تقمصتني هي الأخرى، أحسست وكأنني أعرفها منذ فترة طويلة". ص 174
يقصد مدينة لوفان كأنها إنسان، يتوائم ويتماهى معها ويشعر بعلاقه إنسانية معها، "شاهدتُ الغابات وسناجبها" وبدأ يتآلف كثيرا مع لوفان، يعشق "رائحة البلاط العتيق ويتأمل "زخارف الواجهات الأسطورية على الكنائس، والبيوت القديمة.." وساحة الذبابة التي أصبحت معروفةً بالنسبة إليه، وتمثال المعرفة، والرموز الثقافية الكثيرة! لكن لماذا؟ لأن هذه المدينة من السهل التآلف معها طالما فيها استقرار ورخاء وجاء الأحرار والفقراء إليها من كل حدب وصوب، من كل القارات والعالم، جاؤوا إليها هاربين من الإرهاب! ص 174- 175 كل الرايات تَتّجه نحونا! كما يقول شاعرُ روسيا الكبير ألكسندر بوشكين.
الزمان:
لاحظ، إنه يمزج بين الماضي بالحاضر الذي لا يزال يعاني من آثار الدولة العثمانية عند وصفه حال بطله الموسيقي السوري سام في إسطنبول. ص 117
هنا يتحقق الهرونوتوب، مجمل علاقات الزمان بالمكان، فنحن أمام حركة ثلاثة مصائر إنسانية تنويرية: الأول شهيد الكلمة، بينما صديقه الثاني فنان مجبر على إقامة يصعب تسميتها، منفى، غربة، مهجر، لكن الأهم أنه يعاني، والثالث حائر يكتب عنهم وباقي الأموات في متحف الأحياء! في لوفان بالذات حيث درس نصير، يطلب الراوي من مرتضى أن يحدثه عنه "أخبرته أن نصير انشغل بعد رجوعه من منفاه الأوروبي بمفهومين، الأول ردم الهوّة في روحه وسماها الثقب الأسود لمجرّة الذاكرة". ص 160
ويشير الراوي إلى الزمان بحرقة المتألم فيقول: "نصير الذي اغتالته مدينته بغداد قبل عقد من السنين"، وأنّ أحداث هذه الرواية بعد الثورة السورية، فهنا يشير الراوي إلى زمن الكتابة والحدث، لكنه يعود إلى الوراء، يصور نصير وهو يسير في الميدان وشارع الرشيد حتى ساحة التحرير يتطلع إلى أعمدة الشارع المتهالكة، والواجهات. ص 140
يصف شوارع بغداد التي فارقها نصير منذ عدة سنين مرت على تلك الأزقة ورجع إليها قرب شارع فلسطين. ص 140
ونقرأ أيضاً على لسان الراوي "مضى على موت نصير عقد من السنوات"، ذهبا إلى الجامعة الكاثوليكية التي تخرّج منها ليسألوا السكرتيرة عنه وقالوا لها إنه تخرج قبل 15 سنة، قد تكون ارتأت أن "تدّعي" عدم وجود معلومات، و"أنها حقّاً لا تملك بيانات عن تلك الفترة ويُفضل تقديم طلب رسمي بالأمر، "فخرجنا خائبين"! ص 172 طبعا، لا يمكن للموظفة أن تعطيهم معلومات عن شخص غير موجود، "لم أقصد أن أكون مغامراً حين مضيت في رحلة العودة التي لم أتخيل البداية نزهة في عالم الأحلام". ص 172
في المقابل، يتحرك الراوي في أمكنة لوفان محاولاً من خلالها إعادة فلسفة واقعه العراقي والبحث في أسباب محنة المبدعين الأحرار ليس من العراقيين فحسب، بل من السوريين، ويقول: "... والتقطتُ صورة للواجهة وجذب نظرنا تمثال غريب يشبه واحدا من تماثيل النحّات جياكوميتي (السويسري ز. ش.) لكنه بحجم صغير، معنون بالرجل الذي يمشي بين بلدين. وخطر بذهني حالنا نحن. لم نمشِ بين بلدين فقط، بل بلدان عديدة، وهي التجربة المرعبة التي خاضها سام ونبال في أحدث تجربة لتجسيد هذا التمثال الغريب". ص 170
لكنه يقول في "فكرة جياكوميتي المتغلغلة في البرونز الصلب، فكرة الاندماج بين الأعراق". ص 170
ونقرأ أيضاً "الهجرة صارت سمةَ عصرنا المتسارع الإيقاع. قد يكون الرجل المشّاء موضة عصرنا هذا، هناك ملايين الجنود تغزو بلدانا. وملايين المهاجرين يقطعون الصحاري والبلدان للوصول إلى جنة افتراضية،...الرجل المشّاء فعلا عنوان لهذا القرن". ص 171