الميتاقص أو مرايا السرد النارسيسي في رواية "خشخاش" لسميحة خريس نموذجا
حواشي نصّبت نفسها عتبات.
ـ "لا علاقة لما سأرويه بما سمعتموه ويثقل رؤوسكم..". واسيني الأعرج : "حارسة الظلال".
ـ "خلاصي الوحيد، هو أن أكتب قصة عزلان، التي لا أعرف منها حرفا واحدا، ليس مهما أن تعرف، المهم أن تشعر…".
يوسف القعيد :"مرافعة البلبل في القفص".
ـ "هذه الرواية فيها مؤلفان : مؤلف يقدّم العمل كلّه لك، ومؤلّف داخلي، المؤلف الأساسي ستجدون إسمه بالكامل على غلاف الرواية وربّما طالعتكم صورته على غلافها الأخير…" يوسف القعيد : "شكاوي المصري الفصيح".
ـ "مازلت لا أعرف بعد إذا ما كنّا في فضاء قصة أو رواية، ويبدو أنّي لا أعرف أساسا كيف تُصنع الرّواية سوى أنّني سوف أحاول الحتفاظ بحواس يقظة ونفس طويل إلى آخر المطاف". نورا أمين : "قميص وردي فارغ".
ـ "أنا أيضا أعرف كيف أقصّ عليكم أحسن القصص وسأريكم منها كل عجيب وغريب غير ما رأيتم من كلّ سلف.
أحمد المديني : "حكاية وهم مغربية".
ـ "أنتم يمكن أن تكفّوا عن القراءة… لكن دون تشاؤم، ونسير، كلّ في طريق". عبد الرحمان منيف : "قصة حب مجوسيّة".
ـ "قالت بربارا وهي تتنهّد :
– للنص طعم الصداع ساعة يعصف بالأعصاب ولكن لا تتمهّل إيّاك والركون إلى استجراء التراكيب الفجّة والعواطف الجوفاء.
– وماذا أقول للبحر يا بربارا ؟
– لا تقل شيئا، اكتب وكفى". فرج لحوار : "الموت والبحر والجرذ".
ـ "ما هذه الأحداث التي تتوالى بمثل هذه السرعة ؟ مهلا ! تأزّمت الأوضاع رغما عنّا ولابدّ لها الآن من حلّ، كيف الجمع بين تحمّل مسؤوليتنا كاملة والحفاظ على حرّية تصرّفنا ؟ كأنّ هذا الرّاوي يريد أن يتخلّص من أزماتنا ويتنصّل من مسؤولية انفراجها". محمود طرشونة : "دنيا".
ـ "الليلة شرعت في تحبير تلك الرواية التي طالما حدّثتكم عنها، أو قرأت لكم بعض فصولها الوهميّة أو رأيتموني أعيشها بكل شغف، لكن لكم تأسّفتم مثلما أتأسّف، لعدم تفرّغي لكتابتها. جيلالي خلاص : "رائحة الكلب".
ـ "… ألم تقم بعملية انتحار وفشلت ؟
لا أبدًا.
لكن الروائي كتب هذا !
والله ما يقوله الروائي عنّي لا يلزم إلاّ نفسه، ولعلّي سأطالب بنزع هاته… هاته الوصاية اللاّمعقولة".
سفيان زدادقة : "كواليس القداسة ككل القصص".
ـ "لم أكن أريد، قبل هذا اليوم، كتابة هذه الرواية لأنّه وكما تعلمون، ومنذ أن أحرق الرعاع في مدن وقرى الأندلس كتاب "ابن رشد" واتّهموه بالكفر والزندقة، وإلى أن حكم "علماء" الأزهر بحرق كتاب "ألف ليلة وليلة" في قاهرة المعزّ في أواخر القرن العشرين بتهمة إفساد الذوق العام، وأنا أخاف القلم والقرطاس. ولكن درويشا هدّدني بالقتل !
قال : إن لم تكتب هذه الرواية سأقتلك شرّ قتلة !
وقال : سأضعك داخل جلد حمار وأضرم فيك النيران". إبراهيم درغوثي : "الدراويش يعودون إلى المنفى".
ـ إذا وصلت أيّها القارئ إلى هذه السطور فأنت شجاع حقّا لأنّك فتحت نافذتك بل أشرعتها في وجه عواصف شتّى ويحقّ لك أن تتساءل عن نهاية ما لهذه اللوحات التي يزعم الكاتب أنها تمثّل "رواية". محمد جابلّي : "مرافئ الجليد".
بهذه العتبات وسواها أردنا التقرّب من أحد النصوص الروائيّة الأردنية المعاصرة، وبهذه العتبات أردنا أن نمترس القارئ حتّى نقيه وهج المفاجأة ولسعة "الخشخاش".
لم يعد إسم سميحة خريس مجهولا لدى القارئ العربي فقد عرفها من خلال مجموعة من النصوص الروائية والقصصيّة التي لا يمكن إلاّ أن تحتل مكانا مضيئا في إحدى زوايا ذاكرته، فمنذ نصوصها الأولى استطاعت الكاتبة أن تجترح لنفسها مسلكا خاصا وتُنتج لها مريدين يلاحقون جديدها الإبداعي إيمانا منهم بأنّها مبدعة يستحيل بين أصابعها اليومي إلى فنّ مبهر والواقعي إلى سحر لغوي عجيب.
اسمها الكامل سميحة علي خريس، كاتبة أردنيّة من مواليد 1956 بعمّان، متحصّلة على الإجازة في علم الاجتماع من جامعة القاهرة. تعمل في مجال الصحافة منذ سنوات فتردّد اسمها في الصحافة الإماراتيّة والأردنية وفي كثير من الصحف والدوريات العربيّة بالقاهرة ولندن وباريس. تشغل خطة مديرة تحرير الدائرة الثقافية في صحيفة الرأي الأردنية ومنسقة بوحدة التأهيل والتدريس في مركز الرأي للدراسات والمعلومات، كتبت القصة القصيرة والرواية والسيناريو الإذاعي وقصص الأطفال. صدر لها :
المجموعات القصصية :
– مع الأرض – دار الأيام – الخرطوم 1987.
– أوركسترا – دار الكندي – أربد – الأردن 1996.
الـروايـات :
– رحلتي – دار الهيثم – بيروت 1980.
– المدّ – دار الشروق – عمّان 1990
– شجرة الفهود – تقاسيم الحياة – دار الكرمل – عمّان 1995. نالت عنها جائزة الدولة التشجيعية – الطبعة الثانية 2002.
– شجرة الفهود – تقاسيم العشق – دار شرقيات – القاهرة 1997. نالت عن السيناريو المعدّ عنها الميدالية الذهبية في مهرجان القاهرة للدراما – الطبعة الثانية 2002.
– القرمية – أمانة عمّان 1999.
– خشخاش – المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2000.
– الصحن – دار أزمنة – عمّان 2003، ط 2، عن دار سنابل بالقاهرة.
– دفاتر الطوفان – أمانة عمّان 2003، ط 2، عن الدار المصرية اللبنانية.
اخترنا في هذه الدراسة أن نحاور روايتها "خشخاش" الصادرة سنة 2000 ببيروت في 107 صفحة من القطع المتوسّط بغلاف يحمل لوحة زهرة الخشخاش للرسّام الهولندي الشهير فان غوخ.
ولأنّه غالبا ما يسلّمك النص الإبداعي، بعد الانتهاء من قراءته، مفاتيح مقاربته، فإنّ قارئ الـ"خشخاش" – ونقصد القارئ الباحث – لن يبحث كثيرا عن موضوع لدراسة هذه الرواية لأنها هي نفسها التي تهبك إلى جانب المتعة خيوط مواقعتها نقديا. وقد خيّرنا أن نتوقّف عند أهمّ ظاهرة أسلوبية فيها وهي "الميتاقصّ" التي نهض عليها نصّ سميحة خريس. والميتاقص في تعريف شديد التكثيف هو القصّ الذي يجعل من نفسه موضوع حكيه أو كما سمّته ليندا هتشيون Linda Hutchean : سرد نارسيسي، في كتابها الذي حمل نفس العنوان Narcissistic Narrative [1]
فهو عملية قصّ القصّ وحكي الحكي ورواية الرواية. وقد أطال فيه الحديث الناقد أحمد خريس في كتابه "العوالم الميتاقصية في الرواية العربية" فرأى أنّ هذا الصنف من الروايات يمثّل "تيّارا رافدا، لحركة عامة نشأت في الستينات، وأطلقت عليها صفات كالتجريبيّة والحداثية والجديدة…" [2]
وتطرّق إلى هذه الظاهرة في الكتابة الروائية الناقد المغربي محمد عز الدين التازي في دراسته "مفهوم الروائيّة" داخل النص الروائي العربي فوصفها بأنها مجموعة من النماذج الروائية العربية الجديدة تشتغل "في إطار الموازاة بينها ككتابة روائية تشيّد عالمها من تفاصيل المحكي وبين تعبيرها عن مفهومها الخاص لعناصر الكتابة داخل هذا الجنس الأدبي، وهنا تفضح الرواية موقفها من الروائية.." [3]
وقد درس التازي بعض الروايات العربية التي مثّلت حسب رأيه هذا التيار الإبداعي ومنها :
"عالم بلا خرائط" لجبرا إبراهيم جبرا و"شرق المتوسط" لعبد الرحمان منيف و"وردة للوقت المغربي" لأحمد المديني و"الديناصور الأخير" لفاضل العزّاوي و"يحدث في مصر الآن" ليوسف القعيد. وبعض هذه النصوص تكرّر في كتاب أحمد خريس حين تناول ذات الظاهرة وأضاف إليها نصوصا أخرى مثل "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان و"مجنون الحكم" و"محن الفتى زين شامة" لسالم حميش و"مملكة الغرباء" لإلياس خوري و"قميص وردي فارغ" لنورا أمين و"رحلات الطرشجي الحلوجي" لخيري شلبي و"النجوم تحاكم القمر" لحنّا مينة… إلخ.
ونستحضر نصوصا أخرى تندرج ضمن هذا التيار ومنها "حكاية وهم مغربية" لأحمد المديني و"لعبة النسيان" لمحمد برّادة و"عين الفرس" للميلودي شغموم و"رحيل البحر" لمحمد عزالدين التازي و"قصة حب مجوسية" لعبد الرحمان منيف و"الموت والبحر والجرذ" لفرج لحوار و"فوضى الحواس" و"عابر سرير" لأحلام مستغانمي و"مرافئ الجليد" لمحمد جابلّي وآخر ما صدر من نصوص تقتحم هذه الخانة رواية الجزائري سفيان زدادقة "كواليس القداسة" ورواية "حاجب المقام" للتونسي ظافر ناجي. ونأمل أن يجد هذا التراكم الإنتاجي من يهتمّ به في مستقبل الأيام حتى يتعزّز العمل النوعي الذي قدّمه أحمد خريس بأبحاث أخرى تميط عنه اللثام.
الغيرة والكتابة :
تطالعنا الرّاوية في "خشخاش" كاتبة قصّة هاوية تنشر محاولاتها الإبداعية في الصحف ولم يسبق لها أن نشرت كتابا. قرّرت أن تتحوّل من كتابة الخواطر والقصص إلى كتابة الرواية بعد أن شاهدت لقاء تلفزيا يحتفي بإحدى الروائيات بمناسبة حصولها على جائزة أدبيّة فأثارت غيرتها ودفعتها إلى التفكير بجديّة في كتابة رواية.
إنّ الرّاوية حسب ما يبدو لا يحرّكها هاجس الكتابة والإبداع بقدر ما تحرّكها مشاعر الغيرة. فهي راغبة في كتابة رواية تحدّيا لتلك المرأة التي شاهدتها على الشاشة "تتحرّك بثقة وتحرّك كفّيها كثيرا كأنّما تشكّ بفهم المذيع الذي استضافها احتفالا بحصولها على جائزة أدبية" ص 23. وتحاول الرواية أن تفسّر تلك الغيرة وتحلّلها لتصل إلى أنّها غيرة من فعل الكتابة لا غيرة من حسن تلك المرأة وجمالها فقد بدت لها سمينة وعادية وصاحبة اسم يفتقر للفنيّة.
"هذه الكاتبة ليست رشيقة، إنها قطعا أسمن منّي، ولكن القضيّة المريرة في أنها كتبت رواية وأذاقتني مرارة الغيرة الحقيقية. أدخلتني في تحدّ لن أنجو منه إذا لم أكتب الرواية" ص 24.
وهكذا نكون قد لمسنا أولى علامات الميتاقص وتوفّرت لنا شروطه القاعدية، فالرّاوية هي الشخصية الرئيسية التي ستدير الأحداث وهي كاتبة عزمت على كتابة نص روائي وهذا النص هو الذي سيكون متن العمل وموضوعه وستدور حول إنجازه كلّ أحداث الرواية، لنكون أمام خطاب ميتا-سردي "خطاب حول الطابع الروائي للرّواية، وتفكير حول ذاتها وكيفيّة انبنائها وشكلنتها" . [4]
الرّاوية والكاتبة : المشاكلة والاختلاف.
تتقاطع صورة سميحة خريس مع الرّاوية في "خشخاش" في صفة الكتابة، فكل منهما كاتبة قصة. كما أن صيغة السرد الذي جاء بضمير المتكلّم يجعل القارئ يسقط في مماهاة الرّاوية بصاحبة الأثر الأدبي، غير أنّ الرّاوية ترفض هذا الإسقاط لترفع ألوية استقلالها من خلال بعض الإشارات الدالة على أنّ صاحبة الأثر غير الرّاوية داخله حتى أنّها لا تتردّد في جعلها غريمتها الأولى التي تعمل على تحدّيها لكتابة الرواية، فالمرأة التي احتفل بها البرنامج التلفزي ورغم عدم ذكر اسمها صراحة فإنّ كل الدلائل تشير، وبشكل صريح إلى أنّها ليست سوى سميحة خريس، فتذكر الرّاوية أنها صاحبة رواية "شجرة الفهود" وليست هذه الرواية لغير سميحة خريس والتي تحصّلت بها فعلا على جائزة الدولة التشجيعية.
"هناك نساء يحققن نجاحات معقولة، ولكنّي شعرت بالغيرة من هذه، رغم أن زوجي ظلّ يقشّر البرتقال منصرفا عنها ولم يرفع عينيه باتجاه الشاشة إلا مرتين دون أن يصدر عنه أي تعليق، هي تثرثر عن روايتها "شجرة الفهود" ص 23.
وتعود الراوية لذكر أحد مؤلفات سميحة خريس مرة أخرى حيث تذكر مجموعتها القصصية "أوركسترا" في أحد الحوارات التي جمعتها بالشخصية الروائية التي تشاركها كتابة الرواية :
– تحاسبيني.
[…]
– لا أفعل، ولكن اعتبريني كما ظنّوا، مجنونة، لا أواخذ على كلماتي، ألم يتهموني بالجنون عندما بهرني البحر وسمعت وحدي حديثه في أوركسترا كاملة.
– هذه سرقة، انتبهي، هناك كاتبة ألفت نصا يحمل هذا العنوان "أوركسترا" ص 40.
وبهذا التنكّر تكون الرّاوية قد عبرت بالقارئ مخاطر إسقاط صورة الكاتبة والتي يظهر اسمها على الغلاف (سميحة خريس) على شخصية الرّاوية التي تروي داخل النصّ وسعت إلى إقناعه بأنها على طرفي نقيض بل أنّ الراوية لم تُقدم على كتابة نصّها إلاّ تحديا لصاحبة الاسم المرسوم على الغلاف وغيرة منها.
ولكن ما الذي حدث ؟ فإذا كانت الراوية غير صاحبة "شجرة الفهود" وإنّها هي من كتب النص فكيف استولت عليه سميحة خريس وهي التي لم تكتب الراوية نصّها إلا غيرة منها وتحدّيا لها ؟!!
تلك هي ألعاب الميتاقص، فتتشظّى الذات الكاتبة إلى مجموعة من الذوات : ذات القارئ وذات الناقد وذات المنافس وذات المتآمر، فتشتبك الذوات وتتداخل لتلتبس الرؤية أما القارئ التقليدي فلا ينجح في فكّ خيوط اللعبة السردية إلاّ متى تخلّص من ذائقته التقليدية وبادل النص الروائي مكرا بمكرٍ.
النص في مواجهة الناقد :
تنشغل رواية "الميتاقص" أو الميتا-رواية كما يعرّفها الناقد المغربي سعيد يقطين بأسئلة الكتابة نفسها فيلتفت النصّ إلى أدواته وتكويناته ومنجزاته يسائلها ويناقشها، فتنشط الذات الناقدة وتتضخّم ليخيّم النقد على النص الذي استبدّت به حالة النقد الذاتي أو محاسبة الذات لتوضع ذائقة الكاتب موضع نقاش، ويتّضح ذلك بجلاء في مضارب كثيرة من رواية سميحة خريس.
مناقشة العنوان الروائي :
تعمل الرّاوية، في محاولة للتقليل من قيمة ما جاءت به غريمتها الكاتبة على كشف أحد عيوب عنوان روايتها التي تحصّلت بها على جائزة والتي كانت السبب في وجودها على شاشة التلفزيون، فترى في ذلك العنوان الذي وضعته لروايتها "شجرة الفهود" عنوانا تقليديا وتذهب حدّ التهكّم والسخرية من تلك الصياغة حين تشبهه بعنوان فيلم ساذج.
"اسم تقليدي. كأنه عنوان فيلم قديم أبله" ص 23. ولو طوينا الرواية وعدنا لقراءة عنوان العمل الذي تدّعي الراوية أنها هي التي كتبته للاحظنا أنّ إطلاق كلمة "خشخاش" على نصّ روائي يثير حفيظة القارئ ويربك ذائقة تلقّيه ليدفعه إلى التساؤل على علاقة اسم تلك النبتة البريّة المتهمة بعلاقة ما مع الأفيون بنصّ روائي ؟
تعرّف الراوية الخشخاش بأنه "نبت ممنوع تداوله أو بيعه أو شراؤه أو زراعته… لعلّه المصدر الأصلي لمخدّر الأفيون" ص 106.
إنّ المتأمّل في هذه الصفات التي حملها الخشخاش (نبات ممنوع، مصدر مخدّر الأفيون، لا تموت بذوره، ينبت في كل مكان…) لا يمكن أن يفوته ذلك الشبه العميق بينه وبين الرواية جنسا أدبيا، فقد حوربت الرواية منذ نشأتها واعتبرت مفسدة للأخلاق وللذوق كما ردّد بوالو في كتابه "فن الشعر" [5]
وهي عند الساسة والحكام أفيون مخرّب لعقول الناس السابحين في المياه الراكدة لذلك كانت على امتداد تاريخها تُواجه بالقمع والحجز، فيمنع بعضها مثل الخشخاش من التداول والبيع والشراء وحتّى الزراعة / الكتابة، غير أنّها مثله "نبات لا يموت بذوره" فتتكاثر في الظلام وفي السجون والمعتقلات وفي الصحاري وفي المنافي وفي المدافن لتفشل أمر قامعيها وتخذل منجّميهم المنظرين لفنائها.
الشكل والمضمون :
لن نكون في الرواية المنخرطة في تيار الميتاقص، وعلى عكس الرواية التقليدية، أمام أحداث واقعيّة عاشتها الشخصيات، بل سنكون إزاء أحداث نصيّة أو أحداث لغوية يمور بها النص والمؤلف الضمني وهو عادة السارد الذي يأخذ على عاتقه مسؤولية رواية قصة النص الذي يكون بين أيدينا. لذلك يمثل العثور على بداية للنص حدثا وظهور شخصيّة روائية حدثا ونسج العقدة حدثا وفكّها حدثا والانتقال من عملية الوصف إلى الحوار حدثا وهذا ما يميّز "المكتوب الروائي التقليدي الذي يحاكي الواقع ويعكسه" عن "المكتوب الروائي الجديد الذي يخلق عالمه الخاص" [6]
ورواية "خشخاش" لسميحة خريس من هذه الروايات التي زهدت في كتابة سيرة الإنسان لتكتب "سيرة الكتابة الروائية، سيرة النص الذي نحن بصدده" [7] . إنها رواية تعي ذاتها، يتّحد داخلها الشكل والمضمون فيصبح الشكل هو المضمون والمضمون هو الشكل نفسه، فالمؤلف الفعلي يبحث عن شكل روائي مختلف يقطع مع العادة ليخرج للقارئ بعوالم كتابية جديدة وكذلك حال المؤلف الضمني / السارد – وهو سارد في الخشخاش – يبحث عن كتابة رواية جديدة رغم أنّ عمله الذي يقدم على إنجازه هو عمله الروائي البكر بعد تجارب متواضعة في القصّة القصيرة.
هكذا تتقاطع صورة المؤلف وصورة السارد من جديد لتدفعنا إلى السؤال مرّة أخرى، هل السارد في الخشخاش غير الروائيّة المتربّعة على الغلاف ؟!!
تأتينا الإجابة من خارج النص، في عتبة من عتباته على الغلاف الأخير للرّواية ممضاة من صاحبة الأثر، تحمل نبرة تهكّم وتحدّي فلم تر نفعا من ذلك السؤال العبثي الذي يهرع إليه القراء/ النقاد مع كل نص يواجهونه : "سيكون ذلك ممتعا، وليذهب المراقبون إلى الجحيم : ليخلطوا بيننا ؛ ليكتشفوا ما أرادوا من حقائق، وليرتبكوا ويضلّوا الطريق، ما عليّ منهم ! ليستدْعوا عقّالهم ومجانينهم إلى المحكمة ! ليصلبوني أو يمنحوني صكوك الغفران، ما همّ ! فكلّنا نلعب الورق !!!
سميحة ".
لقد طُرحت مشكلة الشكل الروائي في القسم الخامس من النصّ بشكل مباشر وصريح من خلال ذلك الحديث الذي دار بين الرّاوية والشخصيّة الروائية حول مفهوم الرواية فنقرأ مثلا :
" – أنت حقّا تقليدية، تفهمين الرواية، بداية وحبكة وأحداث متسلسلة، إذن لابدّ من نهاية، وتزوّجوا، وعاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات، توتة توتة، خلصت الحدوتة" ص55.
إنّ هذا الموقف الذي تواجه به الشخصيّة الروائية الرّاوية / الكاتبة يمثّل أحد أشكال المعاناة التي تنتاب الكاتب الحداثي لحظة الإبداع فعليه أن يكتب نصّا مُقنعا ومختلفا ومتحرّرا من ضوابط النص السردي التقليدي الذي حدّدت ملامحه الشخصيّة الروائية.
وتعود الرواية إلى طرح مأزق الشكل الروائي في القسم التاسع حين تحدّثت الرّاوية/ الكاتبة عن وجوب أن يكون للرواية كيان واضح المعالم فتصطدم بموقف الشخصيّة الروائيّة التي تحاججها بكلامها الذي صرّحت به في لقاء صحفي والذي ذكرت فيه أن الإبداع يختار شكله :
– توقفي عن اللعب ولنكن أكثر حزما، فلسنا إزاء ثرثرة فارغة، أنا أنوي أن أكتب رواية، وعليك مساعدتي.
– وماذا عليّ أن أفعل لتكتبي رواية ؟!!
– بعض الالتزام، زمنا أتعقبه، مكانا أتأمّله وأُؤَثِّثُه بك وبسواك من الشخوص، ألم تلاحظي أني أكتب عنك فقط وأن كل ما حدث حتى الآن مجرّد لعب، ثرثرة… للرواية كيانها الواضح.
– تكذبين، أما قلت مرّة في لقاء يتيم معك باعتبارك كاتبة أن الإبداع يختار شكله، والآن تختارين لروايتك، اتركيها حرّة مثل الماء ينسكب على الأرض، لا شكل متوقع له" ص 83.
–
كما يحملنا هذا الحوار القصير إلى مسألة أخرى تؤرق الكتّاب وخاصة أولئك الذين يزاوجون في كتابتهم بين الكتابة النقدية والكتابة الإبداعية فيحدث أن يجد القارئ فجوة عميقة بين ما ينظّرون له في بحوثهم العلميّة وما يطبّقونه في أعمالهم الإبداعية، فتتقدّم أبحاثهم النظرية لتواقع الحداثة وما بعد الحداثة بينما يظلّ منجزهم الإبداعي قليل المغامرة لا يخاطب إلاذائقةتقليدية. ويستحيل الأمر مع بعضهم إلى مأزق فيحرجون نصوصهم بالسؤال ويواجه الواحد منهم قلمه الإبداعي بقلمه النقدي ليجترح لنفسه منهما قلما ثالثا هو مزيج من الموهبة والعلم.
وهذا هو ما عبّرت عنه سميحة خريس في ذلك المقطع الحواري من روايتها "خشخاش" فهي الأخرى تعيش بشخصيّتين، شخصية المبدعة وشخصيّة الناقدة.
الشخصية الروائية في مواجهة تاريخها :
تتمرّد الشخصية في رواية "خشخاش" على تاريخها الاحتفالي الذي كرسته الرواية التقليدية ذات المنحى الواقعي لتواجه الكاتبة بزئبقيتها فقد تحولت إلى كائن ورقي بلا ملامح ثابتة يحكمها مبدأ التبدّل والتحوّل لا مبدأ اليقين والثبات. وقد استعانت سميحة خريس بالأسلوب الساخر لتنقل إلى القارئ ذلك التحوّل في جماليات كتابة الشخصية الروائية حتى أن المشهد السردي تحول إلى باروديا مضحكة.
" - […] كيف أصفك ؟ أحتاج إلى صفات.
– […]
– صفات !! شعر أسود مثلا.. علامات مميّزة، شامة ؟؟ ضربة سكّين على الجبين ؟؟.. ماذا تريدين ؟؟
– لا تسخري، لا يمكن رسم شخصيّة دون صفات محدّدة.
قهقهت
– هذا شأن الهواة، أكتبي يا عزيزتي، أكتبي، لدي شعر أسود، وعينان واسعتان… سوداوان… لا… زرقاوان.
تسمّرت يدي تشدّ القلم، إذ شهدت تلك اللحظة عينيها تغيّران الألوان بسرعة فائقة… أسود… أزرق، وواصلت تهكّمها دون اعتبار لرعبي.
– صفي أذنيّ… صغيرتان، جميلتان.
أمسكت بشحمتي أذنيها بكفيّها، وشدّتهما… فتمطّطت الأذنان كحبل طويل مرعب… وهي تضحك.
– هكذا أجمل… أعني أكثر حداثة… أهذا ما تريدين ؟؟" ص ص 58-59.
إنّ هذه السخرية التي قُدّمت بها الشخصيّة الروائية في هذا المشهد الروائي تذكّرنا بمواقف النقد الحديث منها وبعبارة نتالي ساروت (Natalie Saaraute) : "لقد فقدت الشخصية الروائية التقليدية قوّتها الإقناعية، فأصبحت في العمق تجسيدا للابتذال والهمّ" [8]
لذلك عمد "الروائي الجديد" إلى اغتيال ملامحها القديمة كالوجه المعلوم والصفات الخلقية الثابتة والاسم الشخصي واللقب العائلي ليدفعها إلى النصّ كائنا ورقيّا هلاميّا لا مقابل له في الواقع ولا شبيه له غير ذاته حتّى أن كافكالم يتردّد في إطلاق حرف « K » على الشخصية الروائية في عمله "القصر" (Château) وليكتفي في روايته "المحاكمة" بمجرّد رقم خلعه اسما على شخصيّته ليجهز على كل ما قد تفتعله تلك الشخصية من كاريزما أو ربوبيّة في النص.
لقد تحوّلت الشخصيّة إلى مجرّد كائن لغوي، شخصية بلا أحشاء بعد أن كانت "تصادي الشخص الحقيقي المركب من لحم ودم وعظام" [9]
مع روّاد الرواية الكلاسيكية (زولا، بلزاك، هيقو). لقد حدّدت أدبيات النقد الحديث والمتون الروائية الجديدة حدود الشخصية التي يجب أن ينظر إليها باعتبارها علامة لغويّة ليس لها وجود خارج النص. لذلك لا أهميّة لتكوينها الفيزيولوجي ولا إلى تاريخها العائلي أو الطبقي ولا ضرورة لأن تحمل اسما أو لقبا.
وهذا نفس الموقف الذي صادفنا في رواية "خشخاش" حين تعلن الشخصيّة للكاتبة – الكاتب الضمني – أنّها تخلصت من اسمها : "كان ذلك عندما كان لي اسم" ص 58.
ألعاب التحدّي بين الكاتبة والشخصية الروائية :
تنهض العلاقة بين الرّاوية/ الكاتبة والشخصيّة الروائية على أرضيّة من التنازع حول النصّ والقصّ، طرقه وشروطه، فتحدث بينهما أحيانا ثارات وفجوات، تصل حدّ الخصومات والمعارك، فتتمرّد الشخصيّة الروائية على الكاتبة، مثلا، لتحتجّ على طبيعة المعاملة التي تلقاها منها، فترفض أن تمثل دور العبد الطيّع الذي تنحصر حياته في تنفيذ رغبات سيده أو دور مارد القمقم.
" – عزيزتك !! ها.. تعاملينني مثل جنّي المصباح السحري، تتوقعين أن أقف بين يديك، شبيك، لبيك، أنت لا تعرفينني، يمكنني أن أذهب بعيدا" ص 54.
ويمكننا رصد موقف آخر للشخصيّة وهي تهدّد الكاتبة المنشغلة بأمورها المنزلية أنها لن تروي لها جزءا من الرواية إن هي لم تخضع لأوامرها فتترك ما بيدها من أمور الدنيا لتلتحق بعالم الكتابة فتقول في نبرة تهديد ممزوج ببعـض الترغيب :
"واصلي قطف الملوخية وقتل الوقت، وإن لم تمسكي بالقلم في هذه اللحظة، فإنّ فاصلا مثيرا في سيرتي سيفوتك"ص 96.
إنّ هذا الموقف، رغم كثافته، يطرح أمرا خطيرا وسؤالا مركزيّا هو سؤال "زمن الكتابة"، فهل يحدّده الكاتب أم ملكات الإبداع ؟ وهل الكاتب حرّ في اجتراح الزمن الذي يشاء ليبدع أم هو مجرّد كائن مسيّر من قوى خفيّة قد تكون الشخصيات التي يدّعي أنه خلقها كما هو الحال في رواية "خشخاش" ؟!
قد يتّخذ النزاع شكلا آخر فينهض الكاتب مهدّدا الشخصيّة متوعّدا، وهو ما وجدناه في نصّ سميحة خريس فتفكّر الرّاوية/الكاتبة، عندما تضيق ذرعا بتلك الشخصية اللحوحة المتطفّلة، بتصفيتها وقتلها :
"فكرة شيطانية التمعت في خاطري، سأطردها. بعزم مخيف لم أعهده في ذاتي، قرّرت، سأقتلها إذا جاءت، أليست صنيعة، أنا صنعتها من فقاعة… سأمحوها.. هكذا…" ص 63.
وقد تحتدّ مشاعر العدوانية بالكاتبة من فرط ما أصابها من اضطهاد من الشخصية الروائية والتي ما تنفكّ تملي عليها شروطها فيدفعها ذلك الإحساس بالقهر إلى التفكير في إتلاف النص الروائي برمّته فنقرأ : "اللعنة على هذه الحكاية، يجب أن تنتهي… لا أريد أن أكتبها.. لا أريد" ص 68، وهذه حالة كثير من الكتّاب الذين يفقدون في لحظة سهو خيوط اللعبة السردية فيفكّرون في إعدام نصوصهم التي مازالت بعدُ دون خواتمها.
إنّ حالة الإبداع كما تقدّمها سميحة خريس حالة مخاض عصيب، فولادة النص الإبداعي دائما ولادة متعسّرة يعيش أوجاعها الكاتب في عتمة فضاءات الكتابة وحيدا دون مساعدة أيّ كان، لذلك إذا صادفك كاتب بعد زمن خارجا من عزلته شاحبا، هزيلا حاملا في يده مخطوطا، وهو يسرع نحو إحدى دور النشر فلا تسأل عن سبب هزاله وشحوبه فهو بعد في حالة "نفاس".
ولكن تلك العلاقة التي رأيناها سابقا بين الكاتبة والشخصيّة يمكن أن تنقلب إلى تحالف وتواطئ عندما يستبدّ الوعي بكليهما فتكتشفان أنّهما مجرّد لعبة بين كفّي المؤلف فنقرأ حديث الشخصية للرّاوية الكاتبة : "أنت لم تسألي نفسك. أليس محتملا أنّك مجرّد نقطة أو خط من قلم ؟ أليس محتملا أنّك مثلي، وأنّ هناك روائيا يلعب بنا نحن الاثنتين، خيطين بين أنامله، يحرّكهما وراء الستارة وما نحن إلا ظلّ كلماته… أنا وأنت" ص 85.
صدمـة البيــاض :
تتواطأ الراوية – الكاتب الضمني – مع الشخصيّة الروائية في ثنايا النص، لتوقع بالكاتب في مأزق الفراغ.
"تعالي معي في اختبار بسيط، لنغادر أنا وأنت الصورة تعالي نوقع بمن يكتبنا الحيرة. نختبئ ونتركه للفراغ، نختفي فلا يجد ما يكتبه " ص ص 86-87.
فقرّرتا أن الانسحاب واللعب مع الكاتب لعبة "الاستغمّاية"، وفجأة يصطدم القارئ وهو يقلّب الصفحة السابعة والثمانين بالبياض ويهزّه من جديد بياض الصفحة الموالية والصفحة التي تليها، ثلاث صفحات من البياض تقطف باقة القراءة لتلقيها في هوّة سحيقة من التساؤل، هكذا يفكّر القارئ هو يواجه البياض معتقدا للوهلة الأولى أنّه أمام أخطاء الطباعة الشهيرة التي قد يحدث أن تشتهي – ولأمور تبقى مجهولة – نسف صفحات من كتاب غير أنّ الخروج من لحظة الارتباك والتردّد والعودة إلى آخر الصفحات المكتوبة ونقصد صفحة الإعلان عن نيّة الدخول في مغامرة الاختباء تكشف عن خيبة الظنّ التقليدي وظلمنا لفنّ الطباعة، ففي كلام الشخصيّة الروائية الذي وجّهته للرّاوية ما يملأ ذلك البياض الذي صدمنا إذ تقول :
" سنختبئ، هنا، في مكان قريب، نتسلّل بهدوء، نتجاوز الأوراق، هنا، وراء الورقة الثالثة، سنصمت تماما. نحبس أنفاسنا فلا يرانا. لا تخافي من اكتشاف أنّك شريكتي، وهم في رواية.." ص 87.
سيميائيا يمكن قراءة هذا البياض باعتباره استراتيجيّة سردية ارتكبها الكاتب لخلخلة مسار التلقّي وإحراج القارئ ثم ألصقها بكل من الراوي والشخصيّة مقدّما المسألة كما لو كانت مؤامرة حيكت ضدّه. إنّ هذا التحليل يدفعنا إلى الحديث عن "شعرية البياض" فقد استحال هذا البياض في الرواية إلى حالة من الزخم اللوني بعد أن كان تعبيرا عن النقصان. ليتحوّل هذا البياض إلى لون عجائبي يحتضن كل أسرار الألوان الأخرى كما هو الحال في تعبيريّة وكيميائية الألوان في فنّ الرسم، غير أنّ حضور البياض في نصّ الـ"خشخاش" قد يقوم مثالا على لحظة انهيار سيولة الكتابة عند المؤلف عندما تفرّ عنه ملكات الإبداع، فيتوقّف القلم مرتبكا عاجزا عن ملء الصفحات البيضاء التي تمثّل للكاتب أخطر أعدائه وعندها يصبح البياض عنوانا للفقدان يذكّرنا بأن النصّ، هو الآخر، يمكن أن يرتدي أكفانه ويموت ويقبر وهو بعد مشروع نص.
لقد مثّلت مغامرة البياض في رواية "خشخاش" أطرف الألعاب السردية التي واجهت القارئ لأنها أحدثت قطيعة كاملة مع النصّ الروائي التقليدي ووضعت ذائقة التلقّي الكلاسيكيّ في مأزق أنطولوجي حقيقي.
النــص / الــرقــابــة :
يتعرّى النص الروائي في "خشخاش" لسميحة خريس أمام مرآة الوعي بشكل شبقي ليمارس "عادته السردية" علانية فينشغل بمداعبة أعضائه وتكويناته متلذّذا ليكون نصا مختلفا، يحق له أن يدرج ضمن "الكتابة الإبداع" باعتبارها "كتابة دقّ العنق"، "كتابة تعتعة تذهب إلى التخوم" [10]
لتطيح برأسها في لحظة "صوفية" تتعالق فيها كل المكوّنات والممكنات والتي يمثلها كلٌّ من المؤلّف والمؤلف والشخصيّة والقارئ والناقد والرقيب.
لقد ألمعت الرواية إلى أكثر أنواع الرقابة خطورة وتأثيرا في مصير النص الإبداعي ألا وهي الرقابة الذاتية تلك الرقابة التي تندلع في أعماق الكاتب فتلجم قلمه وتأسر خياله وتجبره على الإقامة داخل الأقفاص وخارج ذاته، فتتوجّه الرّاوية/ الكاتبة إلى شخصيّة روايتها محتجّة على عبارة "هيت لك" :
" ـ توقفي.. نقطة نظام من فضلك. هل تعرفين حسن الشوابكة ؟؟
ـ من هذا ؟ الشوابكة.. من ؟
ـ يحسن بك أن تعرفيه جيّدا، أسمر بقامة قصيرة وعيون ذكيّة وخدود منمشة بوشم بدوي عتيق، يستطيع أن يصادرك، أن يمنع عنك الكلام، فيقصّ من حياتك أو يلغيها، عليك أن تفكري به جيدا قبل أن تتفوّهي بكلمة، خاصة عندما تقولين هيت لك.. وما شابه من ألفاظ خارجة" ص 39.
وكما يبدو من الحوار السابق فإنّ الرواية تتعرّض لأحد أشكال الرقابة التي يمثلها الرقيب الأخلاقي المسؤول عن إراقة دم اللذّة وفتح "موريستينات" الكبت، لذلك عمدت الكاتبة في وصفها له إلى مجموعة من الصفات الخلقية الخاصّة أغلبها يرمز إلى الحزم والصرامة والتعصّب، وفي اسم "حسن الشوابكة" [11]
إحالة على معنى الإيقاع، فسلطة الرقابة تجهّز شباكها متحفّزة لتصطاد النصوص الضالّة أو العاقّة.
ونتيجة لهذا الوعي بخطر السقوط في شباك "الشوابكة" يوضع الكاتب بين خيارين أحلاهما مرّ : القول الحرّ والمغامرة بالنصّ فيدفع به ليواجه مصيره الرقابي وإيداعه القانوني، وعادة ما يكون مصيره الغياب الأبدي، أو خيانة النص بتشذيبه وتقليم أظافره ليكتسب الملاسة المطلوبة فيمرّ عليلا لا خير فيه.
إذن ينهض الخوف أخطر المخاطر التي تتهدّد النص الإبداعي وينسحب ذلك على مشتقات الخوف الدلالية (التحفّظ، التريّث، التروّي، التعقّل..) وأخطرها جميعا "التعقلن" فالنص الإبداعي نصّ شهوي والشهوة منتفضة دائما، مجنونة / مسعورة / ملسوعة / صارخة / متمرّدة، مندفعة وعقلنتها يعني كبتها والكبت إسكات والإسكات قتل واغتيال.
لقد طرحت الرواية سؤال الرقيب أو واقع المقص باعتباره أحد الأسئلة الجنائزية التي تلحّ على النصّ المشروع، فالرقابة هي المقصلة الفاتكة "الفتاكة التي لا يأمن النص ضربتها منذ تكوّنه نطفة / فكرة إلى ما بعد الولادة والبلوغ، فبعضها قبلي وبعضها بعدي وبعضها داخلي / ذاتي يسري في شرايين القلم وبعضها خارجي ينتظر بفأسه أمام واجهات المكتبات، ويحضرني وأنا أقرأ مقطع الرقابة في رواية خشخاش الشاعر معين بسيسو صائتا في قصيدته "القصيدة" :
يا من يعلّمني القراءة والكتابة
يا من يسمّنني بأشرعتي وأجنحتي
لسكين الرقابه
تحيا الكتابه
تحيا الرقابه
يحيا على فمي الحجر " [12]
أمــلا فــي خاتمــــة :
إنّ هذا النوع من الكتابة السرديّة المنشغلة برسم ذاتها تعود نواتاته الأولى إلى قرون خلت، بل يمكن القول إنّها خصوصية رافقت الرواية الحديثة منذ نشأتها فقد لمسناها في رواية "دون كيشوت" لسرفانتس تلك الرواية التي تروي قصة انكتابها ويدخل راويها في نزاع مع مزوّر إحدى أجزائها ليعزم في النهاية على أن يختتم المغامرة بوفاته حتى لا تظهر أجزاء أخرى تدّعي أنّها تكملة لمغامرات "الفارس ذي الوجه الحزين". وقد توقف ميخائيل باختين عند هذه الخصوصية السردية في الجزء الثاني من كتابه "نظرية الرواية وجماليّتها"والذي وضعه تحت عنوان "الخطاب الروائي"، أثناء حديثه عن "نقد الخطاب الأدبي" وقد حدّدها بدقة من خلال عبارته "روايـة عن الروايـة" Le Roman sur le roman ليستشهد بأمثلة غير دون كيشوت مثل روايـة "تريسترام شانـدي" Tristram Shandy لتوبياس سموليت Tobias Smolett ورواية "وطن اللقالـق" Le Patrie des cigognes لميخائيل بريتفين M. Prichvine (1833-1854) [13]
وقد أعاد رواد "الرواية الجديدة" إنتاج هذه النوعية من النصوص وعمدوا إلى مزيد تعميق تلك الظاهرة السردية التي وجدوا أنّها تتناغم مع مشروعهم الإبداعي ومع نظرتهم للرواية وطرق كتابتها والأسئلة التي عليها أن تطرحها. وانطلاقا مما سبق نرى أنّ اتّكاء بعض الروائيين العرب على هذه الظاهرة السردية في تأثيث نصوصهم الروائية لن تُلحقهم بـ"جماعات الحداثة" فما اعتبروه فتحا مبينا ليس سوى أطروحات قديمة عرفتها الرواية الغربية منذ قرون، ولكن ما يشدّنا في رواية سميحة خريس ليس الظاهرة السردية في حدّ ذاتها وإنما ثقل الظاهرة هو الذي يلفت الانتباه، فلم تعمد إليها الروائية بنيّة التلوين الأسلوبي بل جعلت منها العماد الأوّل لنصّها فخارج هذه الظاهرة لن نعثر على شيء اسمه "رواية".
ومن ثمّ تصدق عليها عبارة "رواية الرواية" بامتياز، فالمغامرة الحق تتمثّل في إقناع القارئ بنصّ يروي نفسه أو يأكل من نفسه في أكثر من مائة صفحة دون أي تطعيم بأحاديث جانبية أو استطرادات أو أغراءات حكائية من نحو قصص الحبّ أو مشاهد الجنس…
كما تتمثّل المغامرة في شدّ القارئ بأحاديث حول الرواية باعتبارها جنسا أدبيا في الوقت الذي كان ينتظر أن يقرأ رواية. ولئن تحدّث جان ريكاردو منذ سنوات عن التحوّل الذي شهدته الرواية "من كتابة مغامرة إلى مغامرة كتابة" فإنّ شعورا يستبدّ بالمتلقّي حين يواجه نصّا مثل "خشخاش" هو أنّه أصبح معنيّا أكثر من ذي قبل وأنّه مستهدف في ذائقته وفي منجز انتظاراته، لقد تحوّلت القراءة نفسها من قراءة مغامرة إلى مغامرة قراءة يُقدم عليها المتلقّي مدجّجا في أسلحة لا يعلم إن كانت ستنفعه في نزال التلقّي أم ستنكسر في يديه منذ الهجمة الأولى كما حصل لرمح دون كيشوت أمام طواحين الريح.
لقد تجسّست هذه الرواية على نفسها فعمدت إلى نزع ثيابها وفتح ستائرها وقمصانها أمام القارئ دون أن تتعرّى له، فمع انتهاء فعل التلقّي/ القراءة يكتشف نفس ذلك القارئ أنّ الرواية بعدُ محافظة على ألغازها، محكمة مغالقِها وأنّ ما كشفته له ليس سوى أبواب وهميّة لغرف مزيّفة أما غرفها الحقيقية فتظلّ مجهولة ومفاتيحها عند الكاتب الفعلي الذي يظهر على غلاف الرواية ساخرا مشيرا بيده إلى القارئ بإعادة الكرّة.
مشاركة منتدى
25 حزيران (يونيو) 2004, 10:39, بقلم محمد الدوهو-ناقد من المغرب
يمكن القول ان دراستك طرحت اشكال الكتابة التي تكتب ضد الكتابة ،انها كتابة الانشطار La mise en abyme -كما يرى الناقد لوسيان دلانباخ-الكتابة التي تتأمل نفسها في مرآة الكتابة متأملة بذلك كليتها الخاصة كما هو الشان عند الكاتب الفرنسي اندريه جيد في روايته "مزيفو النقود".انها رواية داخل الرواية ورواية سميحة خريس "خشخاش" رواية داخل الرواية ،رواية تتأمل وظيفتها في قول خصوصيتها المبنية على الاطاحة بيقين كرونولوجية السرد الكلاسيكي والايمان بدور المؤلف-هذا الDeus-conditus الذي يعلم كل شيء عن العالم الذي يحكيه كما يرى رولان بارت في كتابه الشيق S/Z.لكن السؤال المطروح في هذا المقام هل يمكن الحديث في اطار توسل الكاتب العربي بتقنية الانشطار عن ازمة الكتابة العربية في قول يقينها الخاص؟ وهل هذا يعني ان دور مفهوم الذات الكاتبة قد تقلص دورها في قول وظيفتها,خاصة اذا ما نحن علمنا بان للكتاب وكما يرى ادوارد سعيد اثر على الجسد الاجتماعي؟
محمد الدوهو-ناقد من المغرب.