الأحد ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٨
بقلم رشيد سكري

المَعْرفة الأدبيَّة والخطابُ الأدبيُّ

بحسب المقام التداولي، الذي يتراوح بين الشفهي و الكتابي، تتلوَّن المعرفة الأدبيَّة. غير أنها لا بد أن تمر عبر قنوات معرفية توصل للقارئ المعارف و التجارب والصور أيضا. وفي هذا الاتجاه يظل الخطابُ وصيدا معرفيا نحو التواصل الجيد والشامل ؛ لبناء مجتمع إنسانيٍّ أساسه القيم الأخلاقيَّة والانفتاح على السُّلوك الحضاري المميز.

بالموازاة مع ذلك، فالمعرفة الأدبيَّة لها ارتباط جامد بالنص الأدبي، من حيث هو سلسلة من الكلمات و العبارات، كتابية أو شفهية، يؤلف بينها ظلال المَعانى. بما هي ـ أي المعانى ـ تشكيل و تصوير و تلحين بديعي مميز، الهدف منه تثبيت المعنى في سياق معين من جهة؛ وإقناع المخاطب من جهة ثانية. فمن بين أهم القنوات والجسور، التي يُشيد عليها الانسانُ صرحه التواصلي، نجد: المعرفة البلاغيّة، في هذا الباب، قسيمة المعرفة الأدبيَّة. إن إبداعَ النصوصَ تجعل من الخبر و الإنشاء ركنا أساسيا في إنتاج المعارف وتداولاتها. لا سيما أن النصَّ الأدبيَّ لا يكاد يخلو من تقديم أخبار ومعارفَ جاهزةٍ مكتشفة ومستنبطة من ثناياه، فضلا عن احتمالها الصّدق أو الكذب، بحسب المطابقة الواقعيَّة للخبر. أما الإنشاءُ فهو استفزازٌ و خلخلة ُمعارفٍ و معانيَ المتلقي، بل توريطه في إنتاج المعرفة الأدبيَّة نفسِها ؛ ويسعى، في مقام آخر، نحو التشكيك في القدرات المعرفية لدى القارئ الحصيف. لذلك أصبحت المعرفة الأدبيَّة لعبة مُخاتلة، يتناوب في حياكتها الخبرُ والإنشاءُ.

غير أن السؤال الإبستمولوجي الذي أرَّق الباحثين هو: هل الكتابة سابقةٌ على المعرفة المطلقة ؛ أدبية أو غير أدبية؟ في هذا المستوى تظل المعرفة القبْلية وصيدا نحو استكشاف ما ينتجه الخبرُ والإنشاءُ نفسُه من معارفَ و دلالاتٍ عن طريق البناء المعرفي. ولكي يتم حفظ وتأصيل المعارف الأدبيَّة وصَونها، بهدف استمرارها، ووقوفها أمام صروف وعواذي الزمن؛ فمن الواجب، بل من الضروري أن تكتسي المعرفة الأدبيَّة شراشيفَ بلاغية. إن استمرارية الخطاب المعرفي في وسعه الزمني رهينٌ بتوفره على مكونات ذات الصّلة بعلم البلاغة؛ وتبعا لذلك يأتي علم البيان و الاستبانة و الوضوح والجلاء في مقدمة هذه العناصر البانية للمعرفة. فضلا عن تثبيت المعارف، في الأذهان، بواسطة توظيف صور خيالية، يسوقها الخطابُ في منظوماته و مسبوكاته.

ومن جانب آخر، فللمحسناتِ البديعيّة، في علم البلاغة، يدٌ طولى في صَوْن المعرفة الأدبيَّة أيضا. وذلك عن طريق خلق توازن، صوتي و دلالي وتصويري، منبعهُ الجناس والسَّجع و الطـِّباق و المقابلة و غيرها من المحسِّنات. والحالة هذه، أضحى الخطابُ الأدبي يوظف، بغزارة، في النصوص الحجاجيّة و الإقناعية بُغية استمالة المتلقي وإقناعه. إن مضمونَ الخبر، في هذا السياق المركب، يستوجبُ المعرفة بخبايا علم الخطاب من جهة، والإطلاع على أحوال المخاطـَب من جهة ثانية. فالطـّريقة البنائية للخبر المعرفي تراعي الحالة الذهنية للمخاطـَب، كما هو معروف عند علماء البلاغة، فهو قد يكون خالي الذهن أو مترددا وشاكا أو ناكرا و جاحدا، وهو أعلى درجات الجحود والإنكار في تلقي الخبر. ونتيجة لذلك، ما كان للخطاب إلا أن يراعي أحوال المخاطب وحالته الذهنية؛ وهذا هو وصيد تداولي و تواصلي في الخبر المعرفي.

وتبعا لذلك، فالخطاب هو جزء لا يتجزأ من المعرفة الأدبيَّة. جاء في لسان العرب مادة خطب: مخاطبة و مشاورة، فضلا عن انتقال المفهوم من الصفة الشفهيّة إلى الكتابيّة مع اللسانيات الحديثة، و السيميائيات الوظيفية، اللذين يعود إليهما الفضلُ في توسيع مجالات توظيفه. سيما وأن الخطاب ارتبط معهما بالأثر، الذي يحدثه في التلقي المعرفي. وفي السياق ذاته، يعتبر تحديد موضوع الخطاب، حسب الدارسين، وجها آخر لتطوير المعرفة الأدبيَّة. من حيث إنها تتقاسم و الخطابَ مجموعة من الحوافز و المؤشرات، في مقدمتها توالي فواصل الجمل في الخطاب و في المعرفة الأدبيَّة. و بناءا على ذلك يعود الفضل لهذا التوسيع الوظيفي إلى اللسانيّين هاريس و بنفنست، اللذين خرجا عن نطاق الجملة، التي تحاصر الخطابَ في شرانقَ ضيقة، إلى مجالات أرحبَ و أوسعَ متعلقة باللغة و الثقافة والمجتمع. وبالرغم من هذه المغامرة، التي أقدم عليها اللسانيان، و التي أسفرت عن اندغام الخطاب بالمعرفة الأدبيَّة، تظل هذه الأخيرة مشدودة بعُرى بلاغية وثيقة، تجعل من الأدب يكتسب أدبيته انطلاقا من بنائه الداخلي. وعلى غرار هذا، تفرض اللسانيات الفرنسية ذاتها من خلال تحليلات سوسير للخطاب الذي اعتمد، في مقاربته للمعرفة الأدبيَّة، على المعجم و الدلالة دون اللـُّجوء إلى ما هو خارج نصي.

أمّا الخطاب عند الأنجلوـ ساكسونيين، وخصوصا مدرسة " بيرمنكام "، يُتوَّج بالحوار الداخلي. بمعنى أن الخطابَ هو الحوارُ أو المونولوج. وفي ثنايا هذا الأخير، يسعى الخطابُ نحو الكشف عن الدلالات ووظائف الرّموز و الايقونات، التي تبني المعرفة الأدبيَّة. إن التـَّركيزَ على الحوارِ، باعتباره أهم مكون من مكونات بناء النص المسرحي، مؤشرٌ قويٌّ عند الأنجلوـ ساكسونيين، على الدور الأسْنَى الذي تنهض به رسالة المسرح في بناء الثقافة الإنسانيّة عامة ؛ سيما وأنه أضحى من أهم متطلبات الحياة العصريَّة. علاوة على توظيفه واعتماده، بشكل كبير، على الفنون الأدبيّة من: شعر و أحدوثة و قصة ورقص و غناء وموسيقى. وبمقتضى ذلك، تأصّرت الثقافة الأدبيَّة الحديثة بالموروث الثقافي المسرحي القديم على عهد اليونان. حيث إن فن التراجيديا شق طريقه بثبات و عزم و إصرار مع مسرحية "أوديب ملكا" للشاعر اليوناني الكبير سوفوكليس، حيث يعود إليه الفضل في ظهور الممثل الوحيد في احتفالات "الديثرُمب". غير أن الاهتمام بالحوار كمقابل للخطاب في الثقافة الأنجلوـ ساكسونية يعتبر، في حد ذاته، اعترافا ضمنيا بالروابط التاريخانيّة للثقافة الأدبيّة من جهة، وامتدادا شرعيّا لفن المسرح على عهد ويليام شكسبير في القرن السَّابع عشر الميلادي من جهة أخرى. والحالة هذه، تظل أهم مسرحياته "روميو وجولييت" و "هامليت" وغيرها صياغة فنيّة للتـّجربة الإنسانيّة في الثقافة و الأدب على امتداد عقود من الزمن.

وبناءا عليه، تغدو الثقافة الأدبيَّة على ارتباط كبير بالإبداع الثقافي عامة، بل وجها آخر لمختلف تمفصلات و تمظهرات الخطاب. إن العلاقة َ، التي تؤلف بينهما، ومهما التبست في جوهرها، تصبح وشيجة تؤصِّر الكلمة في الحمولة الفكرية للخطاب، بما هي ـ أي الحمولة الفكرية ـ تتلون بحسب الوظيفة التداوليَّة التي تقوم بها، لذا أصبحنا أمام تعدد استعمالات الخطاب؛ من الخطاب الشعري إلى الخطاب التداولي مرورا بالخطاب الديني والسياسي والفلسفي و الروائي والمسرحي و الإشهاري و صولا إلى الخطاب المقدماتي لكل الفنون الأدبيَّة. وتبعا لذلك، فالحمولة الفكرية لا يزيغُ عنها التصوير قيد أنملة، بل أصبح، هذا الأخير، الخيط الناظم الذي ينسج حلقاتها في وفاق تام. إن توسيع الوظيفة البلاغية، التي تربط بين مختلف تمظهرات الخطاب، تعيده إلى أصله الأدبي، ومن ثم يخلق جسورا للحوار؛ ويكون منبعا ثرا للتواصل الإنساني الدائم.

وعلى نحو آخر، فالتصوير فصيلٌ بلاغيٌّ بامتياز. يخلقُ لـُحمة بين معنيين للكلمة الواحدة، بمعنى يربط ـ أي التـَّصوير ـ وشائجَ و أواصرَ بين المعنى الحقيقي و المجازي للكلمة الواحدة بغرض المشابهة والتـَّماثل، وهذا في البلاغة الإصطلاحيَّة ؛ الخالية من شوائب العلوم الأخرى. وفي هذا المنحى، نجد التشبيه و الاستعارة و المجاز اللغوي والكناية تستعمل كأدوات للتصوير في الفنون اللغوية. و مع ثورة الحداثة ارتأى رومان جاكبسون، إلا أن يزرع الفتنة في سِدْرة المنتهى، حيث وسع من مفهوم التصوير البلاغي و خصوصا الاستعارة، باعتبارها توليف للمعنيين بغرض التماثل لا التجاور. لهذا السبب، وضع رومان جاكبسون الثقافة الأدبيَّة بين خيارين ؛ إما أن تهيمن عليها الاستعارة، فهي مؤشر دال على المدرسة الرومانسية و الرمزية، التي تعتمد على مبدأي التماثل و التشابه. وإما أن يطغى عليها المجاز المرسل، الذي يجعل من المجاورة بين المعنى الحقيقي والمجازي للكلمة أهم الأسس، التي يتم بها بناءُ صرح الثقافة الأدبيَّة. وعلى هذا النحو تأتي المدارس الواقعية، تقتفي أثر المجاورة بعيدة كل البعد عن الاستطرادات المجازية، فضلا عن نقلها الواقع كما هو في الحقيقة. وهكذا، سحب جاكبسون البساط من تحت أقدام الفنون اللغوية، ليقذف بها في أتون الأنظمة التواصلية غير اللسانيَّة ؛ كي تنضج على نار هادئة. فما كان للرسم و السينما و الحلم و اللاشعور، كدوالٍ فرضتها تطورات الثقافة الأدبيّة، إلا أن تنتزع حرارة التواصل غير اللسني، موسعة زوايا النظر وأبعاده إلى الإنسان والتاريخ والكون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى