النزعة الزنجيّة في الشّعر المعاصر
محمد الفيتوري نموذجا: للناقد بنعيسى بوحمالة
تقدمة:
في مقدمة الكتاب يقول الناقد بنعيسى بوحمالة عن هذا العمل الصادر بجزئين أنّه:"بمثابة تمجيد لحيّز حميم وجميل من ذاكرته وتربيته الذوقية والرصيد المفعم من الألوان الموسيقية الزنجية كناوة،الجاز، البلوز، الراجمتايم الغوسبل والذي تغذّت عليه حساسيتي الروحيّة على مدى الأعوام البهيّة لستينات القرن العشرين".
السؤال الذي يطرح نفسه لماذا اختار بوحمالة (محمد الفيتوري) نموذجا للنزعة الزنجية في الشّعر المعاصر وفاضله عن بقيّة الشّعراء السودانيين ك(تاج السر حسن، ومحي الدين فارس ومحمد المهدي المجذوب وغيرهم..؟)
من هنا أبدأ بقول بنعيسى أنّ"الزّنوجة بالنسبة للفيتوري ليست إلاّ انتماء اثنيا لا أيديولوجيّا"،والفرق أنّ محمد الفيتوري يعتبر أفرو سوداني وعربي في نفس الوقت كما السودان هذا البلد"الأفرو عربي"الفيتوري الشاعر الذي عاش بين جنسيات وأوطان مختلفة مشردا مغتربا من أصل أفرو سوداني من بلدة الجنينة عام 1930، زنجيّ الجد من أعالي بحر الغزال، مصريّ الأم، سودانيّ الوالد والذي تنقّل في جغرافيا واسعة مكتسبا خبرات وتجارب إنسانية صقلت شخصيته التي تجاوزت المحليّة نحو أفق أوسع، بلغ ذروته في ديوانيه"نار من رماد الأشياء"و"عريانا يرقص في الشّمس"2005.
الأهم ما نحن بصدده عن اختيار بنعيسى بوحمالة لهذا الشاعر العملاق ومدى تأثير تجربته الشّعرية في تحديث بنيّة القصيدة العربية"فهو عاصر أجيالا شعرية عديدة وكتب قصيدة التفعيلة والشعر الحر وقصيدة النثر وتأثّر بمدرسة الديوان وأبولو وطبعت على جبين إبداعاته أولى قصائده:الآن وجهي أسود /ولأن وجهك أبيض /سميتني عبدا.
قضية الزنوجة رافقته في كتاباته من"أغاني أفريقيا"1956،"عاشق من أفريقيا"1964،"أذكريني يا أفريقيا"1965،"أحزان أفريقيا، مسرحية سولارا"1970، كلّها تتحدّث عن هموم القارة السوداء ومأساة الأسود في مقاومة الإستعمارالغربي واحتلاله الأرض والثقافة والفكر.
تفرّد"محمد الفيتوري"بين الشّعراء لم يأت من فراغ إنّما قدرته على استيعابه للعلاقة الزمكانية والصراع والأحداث وتحويل الصّور الشّعرية الى"مونتاج"وتأثره بوالده بإثراء قاموسه اللغوي وشعره الصوفي، ولتأكيد أهمية موضوع الزّنجية واختيار ناقدنا لهذا العمل بالإضافة للروافد التي اعتمد عليها تناوله شعر الفيتوري نموذجا وسأتطرق اليها لاحقا يقول بوحمالة في (العلاقات الأدبية العربية الأفريقية،الجوار المجهض، المستقبل الممكن):"ليس هناك ما هو أفضل من الاستئناس بما يقوله الشاعر محمد الفيتوري في سياق حوار معه أجراه طلحة جبريل حول موضوع الزنجية الذي أمّم الأعمال الأربعة الأولى في مساره الشّعري من"أغاني أفريقيا حتى أحزان أفريقيا"إذ يقول الفيتوري:"القضية كما تناولتها لم يتناولها الاّ الشعراء الأفارقة، أنا الشاعر العربي الوحيد الذي تعرّض لهذه القضية وهو يعلم ما يريد"/مجلة"المجلة ع 238،1985. مضيفا في حوار مع عبد الحكيم بديع ولكأننا به يستدرك إيضاحا ما فاته من الإفصاح عنه:"كثيرون من النّقاد يتوهمون أنني تأثرت سياسيا بشعراء أفارقة في أشعاري هذه والحق أنّ شيئا من ذلك لم يحدث، لم يكن عندي وعي سياسي عندما كتبت قصائدي كنت كنبع يتدفّق من صخر"/جريدة الميثاق المغربية ع2729، 1985.يضيف بوحمالة:"تمثيل محمد الفيتوري للشاغل الزنجي في الشعرية العربية المعاصرة بحيث هناك شعراء سودانيون بالأقل سابقون عليه، أو جايلوه أو لحقوا عليه، انضووا بهذا القدر الى ذات الشاغل كل ما هنالك أنّه لاعتبارات دامغة ما في ذلك شك منها الحساسيّة المائزة التي سيصطبغ بها تعاطيه الشعري مع هذا الموضوع وابتكاراته الأدبية في هذا النطاق، زد على ذلك استئثاره بالضوء النقدي والإعلامي مقارنة مع الآخرين سيغطي على باقي الأصوات كناطق شعري سوداني أوحد باسم القارة السمراء"النزعة الزنجية في الشعر المعاصر، محمد الفيتوري نموذجا، الجزء الأول، منشورات اتحاد كتّاب المغرب، الرباط 2004.
الزّنوجة بالنسبة للفيتوري ليست الاّ انتماء اثنيا لا أيديولوجيا:
"الزّنوجة في شعر الفيتوري": لا بد وباختصار نبذه عن الشاعركمؤثّر، ولد الفيتوري سنة 1930 في بلدة الجنينة على حدود السودان الغربية أبوه كان صوفيا من رجالات (الشاذليّة)، كان في شبابه واعيا بوضعه كأفريقي وأنّ سواد بشرته خلّف لديه نقصا معينا بالمهانة وبرد فعل حيث أحسّ بالكبرياء وفرض الذات، فزاول الرسم والموسيقى والعزف ونظم الشعر الكلاسيكي حيث حفلت مكتبة والده بالعديد من الكتب ومن دواوين الشعر القديم، كانت للفيتوري رؤية بأنّ الكائن المبدع ليس شقيا بدمامته بل بحساسيته اذ يقول:(يا خالق الإنسان من طينة /وخالق الفنان من طينة/ عذّبتني بالفن بهذه النار السماوية/لسوف ألقاك غدا صباحا بكل ما في اللوعة / لم تشفني دمامتي في الورى/لم تشفني إلاّ حساسيتي هذه النار من قسمتي / رضيت أن أفنى على وهجها/لكي يعيش الفن في مهجتي)المجموعة الكاملة المجلد الأول من أغاني أفريقيا،ص561، دار العودة،بيروت.
صيحة متمرّدة سنة 1974 وتوجّه جديد بالخروج بالقصيدة العربية من الطريق المسدود بعد إطلاق دعوة السيّاب والتي شكّلت العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون وبالتخلّي عن الإطار الشكلي للشعر القديم، أكّد الفيتوري في شعره على البعدين الخاص والعام والأفق القومي بقوله:(حبيبتي التي أهدي إليها كتاباتي هي الأرض والناس والأشياء، وحين أعانقها لا أجد بين أحضاني غير الحزن، إنّ الفنان الحق هو الذي لا يعتزل قضايا الوطن)،محمد الفيتوري الملحق الثقافي لجريدة العلم،1977.
مسيرته الشعرية عرفت ثلاث مراحل: الزنجيّة، الصوفية، ثم النضالية(العروبية)
المرحلة الأولى:دواوينه الأربعة"أغاني أفريقيا، عاشق من أفريقيا، أذكريني يا أفريقيا، أحزان أفريقيا سولارا.
المرحلة الثانية: مجموعة سقوط دبشليم، ومعزوفة لدرويش متجول
المرحلة الثالثة: تضم مجموعات"البطل والثورة والمشنقة، وثورة عمر المختار مسرحية شعرية، وأقول شاهد إثبات.
عالج في دواوينه الأولى موضوع الإفريقية وكشف الحقيقة السوداء والتحامه بثقافته الخاصة في جميع المستويات الاجتماعي والعنصري والعرقي:"قلها لا تجبن /قلها في وجه البشر / أنا زنجي / وأبي زنجي الجد / وأمي زنجيّة/ أنا أسود / أسود لكنّي حرّ أمتلك الحرية/ أرضي إفريقية"الأعمال الكاملة المجلد الأول ص44 من قصيدة أنا زنجي.
وحيث أنّ قضيته الهامة كانت الإفريقية والدفاع عن الجنس الأسود ضد الأبيض المحتل، ورد الفعل في العنف وبما أنّ التحرّر يحتاج الى ثورة صرخ الفيتوري:"كانت جموع السجن / كان الرحى يرخي جناحيه على القرية / وكانت الأوجه ذات الأسى ذات العيون الاستوائية / قد انزوت خلف سراديبها تحلم بالنار / وبالثورة / تحلم بالنار لتاريخها / من العدو الأبيض الجثة"/ الأعمال الكاملة، المجلد الأول ص31 من قصيدة (ثورة قارة). هنا المقاومة ودعوة للثورة تتّسم بالحسم:"الفجر يدك جدار الظلمة / فاسمع ألحان النصر / ها هي ذي الظلمة تداعى / تسّاقط. تهوي في ذعر / ها هو شعبي ينهض من إغماءاته / عاري الصّدر"الأعمال الكاملة، المجلد الأول ص 46 من قصيدة (أنا زنجي).
هي الثورة الشعبية الجماعية دون خوف بعد الصحوة وبكل تضحية عراة الصدور دفاعا عن الأرض والوطن.
رحلة الفيتوري الغنائية تبدأ في أفريقيا وتنتهي بها، تتميّز كرحلة حياة ومسيرة ب:
الذات أي (الأنا) والشكل الحكائي
حضور (الغناء) كخاصية مكتسبة وعنصر تعبيري هام
الصور مستمدة من الاتجاه الرومانسي العربي، كما جماعة أبولو الممثّلة بأبي القاسم الشابي وجماعة المهجر
رؤية بمسحة إسلامية وبإجلال للروح والصوفيّة:(الأعمال الكاملة المجلد الأول،ص13 – ص 146 قصيدة عودة أبي في ذكرى الشابي.
يمكن القول أنّ الأسود موضع استغلال لوحشية الأبيض
الأسود الساذج
القيمة العرقية والفلكلور ومقاومة الأسود للمستعمر
استغلال الأبيض للثروة الطبيعية الإفريقية وجعل من جانبه الروحي الموروث الثقافي والديني غداءه الدنيوي الخاص وباختلاس الفن الذي تمتلئ متاحف أوروبا.
ارتباط الأفريقي بمسقط رأسه هو خير دليل لحبه للوطن وإخلاصه
إنّ الحضارة السوداء لها طعم خاص وامتداد لتاريخ عريق
في ديوانه (عاشق من أفريقيا) صوت الفيتوري يبرز بشدة الخطورة كمطالب بمرارة ومغادرة موقع الحياد والانتقال لمرحلة الفعل بتنقية الدم للوصول الى روحانية،هو اذن يطالب بثورة،أما التاريخ كشاهد على الجراح والصدمات واغتصاب أفريقيا لا بل هو حقا تاريخ مخيف، زنجيته تجلّت بالثقافة الزنجية واسترداد اللون المحلي، الثقافة التي كانت موضوع اغتصاب الأبيض ونزعته في قصائده من أجل تحرير السودان من العبودية والتحرر من الاسترقاق.
اعتمد الناقد بنعيسى بوحمالة بتناوله النزعة الزنجية لدى الفيتوري على ثلاث روافد
(تاريخية، فلسفية، وثقافية)، واعتمادا على شعر الفيتوري ومكانته وخصوصيته واعتبار القصائد الزنجية أساس وبنية تحتية للدفاع عن قضية الزنوجة واستعادة الحق المسلوب والقضاء على الغبن والعبودية والتشرّد وصحوة الشعب السوداني من سباته العميق بالبحث عن استقلاله وانتمائه وهويته، وفي مفهوم الهوية يركّز بوحمالة باستعادة الهوية على الهم الذاتي والثقافي والجغرافي و"بتحطيم القديم من أجل التحوّل والتغيير والتجديد على مستوى الوعي"وباستحضار هذه الأبيات الشعرية التي تصور استعباد البلاد،، الشعب الحافي:
بلاد العبيد أفريقيا
يا بلاد الزنوج الحفاة العراة
وكيف يعيشون خلف المياه
وأجسامهم ذلك الأبنوس العجيب
المفصّل مثل البشر./ من ديوان الفيتوري ص54
أما عن الذاكرة فهي بتعبير بوحمالة:"ليست ذاكرة مفقودة والفيتوري،يؤسس خلفية الحس النوستالجي في سائر فروع الثقافة الزنجية والمبدعين الزنوج لاتخاذ المسلك العودوي الى الرحم الإفريقية اتجاه كل مضاعفات الدمار والتغريب"/ النزعة الزنجية ص28.
تناول بوحمالة مستويات متعددة في شعر الفيتوري منها ما يخص (الشكل) من إيقاع ومكوّن درامي وسيميائية العنوان والسّرد، وأخرى تختص (بالدلالة) والتي تحتوي خلال تقسيمها وتفصيلها على (تدمير الهوية، واستعادة الهوية) وفي تدمير الهوية يقارن الناقد بين الاسترقاق والاستعمار والتمييز العنصري.
أما (استعادة الهوية) فمن خلال الدلالات التي تمتّ للثورة وحرية الإنسان والانتماء وخلق مونتاج درامي يحرّك الساكن ويدعو للصحوة والعودة للأرض والتمسّك بالجذور والهوية.(النزعة الزنجية ص 17)
ويربط بوحمالة بين الشكل والتاريخ والدلالة محاولا الوصول الى قراءة"شخصية عاشقة ومنصتة"بقوله:/ أنّه يقرأ الشّعر إذ يعتبره ظاهرة ثقافية واستعادة لهويّة قد دمّرت، هوية ضائعة يجب استعادتها وذلك بانشغال السود"بتأسيس مشروع استعادة الهوية المدمّرة"، والتي خصّها الناقد بدلالة الثورة كما أسلفت سابقا مرفقا الهم الذاتي وانعكاس الوعي الفكري للزنجي المتعطّش للتمرّد على الكائن من أجل الذي سيكون من خلال الشعر يمكنه استعادة هوية مفقودة وثقافة طمسها الأبيض وصادرها، وهنا يشتغل بوحمالة على إرادة الزنجي بخلق اّليات جديدة من تغيير مفاهيم ثابتة في ذهن المجتمع السوداني المتوارث، ويشدّد بنعيسى بوحمالة على أنّ الفيتوري اهتم بقضية السود عدا عن أنه أفريقي في الدم والشعر ودافع عن قضايا الزنوج كشعب ينتمي إليه فيقول بوحمالة إنّ الفيتوري:"يلقي نفسه ضمن الموقف النوستالجي منقادا إلى تلبية ذات المشترط الرؤيوي الذي يؤسس خلفية الحسّ النوستالجي في سائر فروع الثقافة الزنجية ويحفّز المفكرين والمبدعين الزنوج على اتّخاذ المسلك العودوي الى الرحم الأفريقية، كموقف ضمني حيال الحضارة البيضاء بما هي حضارة مادة واستهلاك وعنف وتفسّخ"(النزعة الزنجية ص28).
إنّ انتماء الفيتوري لأفريقيا هو انتماء روحي من إحساس وتفان وبحث عن الهوية الضائعة واستعادة ما فقد منها هو الإحساس بالشعر،، هذا هو الفيتوري المنحاز لأفريقيا حتى النخاع كما ورد في قصيدته (أنا زنجي) وأقتبس منها للمرة الثانية:
"الفجر يدك جدار الظلمة / فاسمع ألحان النّصر / ها هي ذي الظلمة تدّاعى / تسّاقط/ تهوي في ذعر / هاهو شعبي ينهض من إغماءاته / عاري الصدر / ها هو ذا الطوفان الأسود / يعدو عبر السّد الصخري / ها هي ذي أفريقيا الكبرى تتألّق في ضوء الفجر". هذا الطوفان الأسود يشمل كل بقعة في الأرض ينتمي إليها الزنوج فالفيتوري كتب في مسرحيته (سولارا) وهو اسم سد بجنوب السودان،عن سولارا الفتاة السوداء المغتصبة التي شبهها بالأرض والفيتوري كشاعر شمولي لم ينس ذكر (نلسون مانديلا) و(السود في نيويورك) وغيرهم في كتاباته، وهذا ما حمل بنعيسى على الإفتتان والانجذاب نحو الشعر الإفريقي فقد قادته الموسيقى الى فضاء الشعر وتياراته يقول في (العربي الجديد):"ولعي الباكر بموسيقى الأفارقة الأمريكيين، كالجاز والبلوز والغوسبل والسول، في ارتباطها بالذاكرة والمعيش وما تعكسه قرائن شعرية قوية فعلا، في لباسهم الزاهي وحركية أجسادهم وطقوسية بهجتهم أو حزنهم، في لكنتهم الإنجليزية المستعذبة وموسيقاهم الشّجية".
هذه الجاذبية هي التي قادت بوحمالة حين زار نيويورك منذ أربع سنوات أن يقضي معظم وقته في حيّ (هارليم) الخرافي معقل السود الأمريكيين، يقول أبو حمالة في نفس الموضوع:"ألم ينعت فديريكو غارسيا لوركا في ديوانه (شاعر في نيويورك) الذي كان ثمرة زيارته الأمريكية التاريخية السّود بملح أميركا؟ عبر هذه البوابة الموسيقية بدأ بنعيسى بالاطلاع على أدب السّود الأمريكيين من شعراء وروائيين ومسرحيين، وحين اكتشافه وهو طالب في الجامعة التجربة الشعرية الأفريقية العربية ممثلة بالشاعر السوداني (محمد الفيتوري) الحفيد الرمزي لعنترة بن شداد وأجيال من الشعراء السّود في التراث العربي،ويضيف بوحمالة في ذات الصدد:"وكأنّما كان الأمر بمثابة إيقاظ لتلك الترسبات والأرصدة التي استقرت في وجداني عن الموسيقى السوداء والنتيجة هي تقييمي وقتها على تعميق معرفتي ليس فقط بتجربة الفيتوري وتجارب لأقرانه السودانيين، بل وكذلك بالمدار الأوسع الذي صنعته أسماء أفريقيّة من أيديولوجيا ونظرية وتعبيرات شعرية وثقافية، مقارنا بين التعبير الشعري العربي لدى الفيتوري وشعراء أفارقة وأمريكيين وأنتيليين باللغات الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية أو البرتغالية.. على أنّ المكسب الأكبر لي كان معرفة أفريقيا أكثر، تاريخها ومجتمعاتها وثقافاتها وجروحها وماّزقها وتطلعاتها".
(خلاصة):
هذا ما قدمه الناقد بنعيسى بوحمالة للقارئ وللمكتبة العربية، في هذا العمل الرائع لصوت شعري بمقارنة بين التعبير الشعري العربي لدى الفيتوري وشعراء أفارقة،، إذ بتناوله لشاعر كالفيتو ري الذي رحل مؤخرا تاركا وراءه التزامه للكلمة الحقة الصادقة والتي اعتبرها قضيته وصوته الذي علا فوق الأسوار والسدود وعبر الحواجز، لا بدّ وأن أحييه لاختياره لشاعر مناضل تخلّى عن كل ما هو ذاتي من أجل قضيته، كان يؤمن بتحقيق حلمه في هذه القضية حيث وقف أمام نفسه ليكتشف عيوبه الجسدية التي نمت في أعماقه وأدت الى شعوره بالجنون أحيانا والنقص فهو القصير النحيل، صاحب البشرة السوداء وربما النقص أدّى به إلى كل هذا الجنون في شعره، فقد لاحقه لونه وأحسّ بالوجع بأن يسمى الأسود (عبدا) فاتّجه بدوره نحو (الاشتراكية الواقعية) ليفهم قضية الفقر فتمرّد وتوجّه إلى أفريقيا البلد العريق بتاريخه وجغرافيته وتراثه (رمز الخلاص الذاتي)والتزم الفرح بدل الحزن واليأس وحتى ينسى عقدة لونه بحث عن (بود لير) ومعشوقته التي نسي بودلير عقدة اللون من أجلها.
ما أردت أن أقول وبكل مصداقية وكلمة حق للصديق الشاعر الناقد والمترجم: هذا المنجز المتقن أضاف وسيضيف للقارئ الكثير من التساؤلات ليبحث عن لغة الفيتوري وتجربته الجريئة، كتاب جدير بالتّقصي والقراءة والتأمّل بأسلوبه النقدي ورؤيته الشمولية النقدية التي أزاحت الستار عن مناقب شعرية ثقافية وتاريخية للزنوجة ممثلة برائدها الفيتوري، ومدى تأثير تجربته الشعرية وأهميتها في تحديث بنية القصيدة العربية.. وترسيخ اسم الفيتوري في ذهن المثقف العربي كشاعر قضايا قومية ومساهم بثورات عربية ببحثه عن العدالة الاجتماعية والإنسانية والحرية.رحلة الفيتوري الأدبية (والصعبة والمؤلمة) عصيّة عن النقد،،، سيبقى بأصله الليبي من بين شعراء القارة السوداء المهمين في القرن العشرين،، حيّا يعيش في ذاكرتنا وقلوبنا كأنّه (العائد) ليدّق الخزان من جديد:
مثلي أنا ليس يسكن قبرا / لا تحفروا لي قبرا/
سأرقد في كلّ شبر من الأرض.!