

النّفق الذي دوّخ المحتل
تملؤه آلاف من الصوّر والتعابير المبهمة، وحين رفع رأسه واستقام بعد طول انحناء، أحسّ أنّ العالم ينحلّ ويعيد ترتيب أوراقه بشكل مختلف، وما هي إلاّ لحظات حتّى ابتلع الصمت النّفق وانزلقت الشمس بتثاؤب خلف مدينة خان يونس. زحفت حلكة اللّيل بوحشيّة وضراوة على المكان تحت دوّامة القصف، شيوخ ونساء وأطفال يفترشون وسائد غمرتها دماء بريئة، يصيخون السّمع إلى أوجاعهم وهي تذوب من أفواههم. تنام المدينة متلفّعة بوشاح ليلها الأحمر الدّاكن، يتشظّى جسدها كعظام فوق جنادل المقابر، تغازل برؤوس أصابعها سنابل الشهداء. لم تدفع الشّمس بعد بحبال النّور لتختبر هشاشة العدوّ، لكنّها بهذا الغبش تعلن اقتراب الجحيم متلصّصة على عورة اللّيل، فاضحة الكيان الّذي سرق ليلها.
على عكس لسان درويش لا أريد لهذه القصّة أن تنتهي"، نكأت في ذاكرة "أبو عبيدة" معاصم انفجرت دماؤها وأصابع تنزّ نزّا، استلّ في لحظة صحو وجوده من العدم صوت جلل:" رسائل إلى الذئاب الحمر، ألف عين وعين، النّجوم تحلّق في السماء، الطّيور هبطت عين الذئاب الحمر، قد تمّ زراعة نصف الأرض بنجاح والنّصف الآخر سيكون قريبا (تمّ تنفيذ الجزء الأوّل من العمل بنجاح وباقي النّصف الثاني قريبا)، أرسل سميرة ومعها شهادات الميلاد، لا تنسَ الملابس الشتويّة (أرسل القنابل، ومعها كلاشنات)". يحتمي المجاهدون بأشجار الزيتون الّتي تستريح بين أوتاد الأرض الطاهرة، ومع اكتمال العدد، عمدوا إلى تمويه موكب دبابات جرّار، منذ ما ينيف عن ساعة والزّمرة تزحف رويدا رويدا وتبسط حبالها العنكبوتيّة على حمرة الجبال وعلى صفرة البنايات واخضرار الحقول.
بقيّادة أبي عبيدة، داعبت النسائم وجوههم الباسمة، والحجارة تصمّ الأذن وتشلّ حواس العدوّ، شعورهم تنسدل بكوفية حمراء على وجوههم، فلا يظهر منها سوى أنوفهم الباسلة في العلا تعتمر جلال الجبال وتواضع الأنهار وغبطة الحقول ووحدة الرّقعة...وأخريات يخفين السّلاح في مهود أولادهنّ، يذهبن به إلى الثوّار رغم شظايا الرّصاصات الثاويّة في سيقانهنّ، يصارعن نكهة الحياة تحت مشجب الموت...أضواء الفجر تسبح في النّور. وشعب قادم على صهوات الرّيح يبدّدون الغيوم، ويجندلون سماسرة الموت بنفخة واحدة تجعلها ذرات تطير في الهواء، الشّوارع تموج بحركة الشّجعان وأعلام فلسطين ترفرف في الهواء تصطبغ الآمال بدماء غرل بيض، تضطرم جذوة الحنين إلى تعابير مشفّرة غامضة تتنفّس تفاصيل عمليّات الفداء:"يا طالعين عين للل الجبل.. يا موللل الموقدين النار.. بين للل يامان يامان.. عين للل الهنا يا روح.. ما بدي منكي لللكم خلعة.. ولا لا لا لا بدي زنار.. بين للل يامان يامان.. عين للل الهنا يا روح.. ما بدي منكي لللكم خلعة.. ولا لا لا لا بدي ملبوس.. بين للل يامان يامان.. عين للل الهنا يا روح.. إلا غزال للللللذي جوين.. للللكم محبوس.. بين للل يامان يامان.. عين للل الهنا يا روح.. إلا غزال للللللذي جوين.. اللللللكم ما يدوم.. بين للل يامان يامان.. عين للل الهنا يا روح".
عمّقت القنابل المسيّلة للدّموع ورصاصات الكتيبة تجاويف العدوّ، ممّا جعله يتحسّس قلبه فلا يجده، ثم يغوص ومضة ماتت من البكاء حينما تكلّمت، بحثوا في لسانهم عن دموع، فلم يجدوا، سألوهم:
– يا محتلّ، هل تعرف أين تقع مدينتي؟
لم يسعفهم الحظ في الإجابة وتجاهلوا رصاصات الحيّ الّتي نخرت لوثتهم، فهل كانت المدينة ذريعة لا واعيّة؟ أو استعارة مكبوتة؟
أمامهم بالضبط يقف المحتلّ متوتّرًا، يجلس خلف نعل سميك، يشير بأصبعه بصمت إلى غير الجاني، فرسم السّلاح بريشته صورا دقيقة ومواقف تجعلك أحيانا تبتسم بعين مهملة، وأحيانا أخرى تذرف الدم باطن الجفون. تذكّروا حينها أن لا أحد قال لهم بوضوح ما معنى الأرض؟ صفعة "أبو عبيدة" على وجهه قالت له بوضوح قاتل وتراجيديا عنيفة كعفريت ينطلق من فانوسه. وحدهم العشّاق كما يقول درويش- يحسبون المياه مرايا وينتحرون- وحسرت عن وجهها الشوهاء، بلا أسنان، نحيلة، إلى درجة أنّها لا يمكن أن ترى نفسها في خريطة المرآة إلاّ بجواز سفر فليسطينيّ.
وهكذا عرك الثوّار في الأرض وانتصبوا على وهج "المولالاة" المعرّش في أعماقهم، وتاج مرصّع وهّاج على أعمدة دخّان حالكة فوق مداخن حمّامات موت أذلت به العدوّ واقتحمت مستنقعاته الآسنة، باسطة رأسها بنصر ظاهر.