

الهدية
ذاكرة لم يخفها الزمن، ولم يمحها برغم تحديها لأهوال الطبيعة القاسية، إنه معلم قرية بنت اجبيل اللبنانية، ذلك الجسر الحديدي التاريخي الموغل في القدم، والذي تسنده على جانبيه دعامات خشبية هائلة، فهي من الضخامة ما أضفى عليها هيبة وبهاء، وقد ثُبتت تلك الدعامات الخشبية بصواميل وبراغي أتى الزمن على اليسير منها، فهي من القوة والمتانة ما جعلها قادرة على الصمود في مواجهة أعتى موجات الجليد والرياح العاتية.
يتوسط هذا الرمز الهندسي القرية الجميلة، والتي ما زالت تشهد له بالمهابة والعظمة لما يقدمه لأهاليها وزوارها من خدمات؛ وعلاوة على أنه معبر هام، فهو رمزها التاريخي، وعلى ظهره كان يلتقي يوميا الصبيّان الصديقان أحمد وتوني، وهما في الخامسة عشرة من العمر فدائما ما يشدهما منظر طاحونة الهواء المعطلة، وأطفال القرية الذين يتعلقون بها، ولا يقطع حديث الصديقين المستمر إلا خرير الماء المنهمر خلال القناة المائية
أسفل الجسر.
بدأت صداقة أحمد وتوني منذ طفولتهما فقد ولدا في يوم واحد وتربيا وترعرعا في هذه القرية التي يفخران بالانتماء إليها، وقد جرت العادة أن يلتقيا كل مساء، ويقضيا معا أمسيات سعيدة
وسط مزارع القرية الوارفة الظلال، يطلقان العنان لبصرهما على امتداد الأفق، حيث السكون يملأ المكان والروائح المنبعثة من الجداول التي امتلات بأشجار اللوز وكروم التين؛ فهي تبعث على الاسترخاء والرضا النفسي، فكل الرياض خضراء، وكل الجنان فيحاء وهما دائما عاكفان على هذا الحال، لا يفرق بينهما سوى ليل يرخي سدوله على قريتهما الهانئة التي يعيشان فيها عيش السعداء المترفين، والتي هي أيضا تستسلم لسيمفونية تعزفها عصافير وبلابل تهجع إلى أوكارها وأعشاشها التي وجدت لها حيزا فوق أشجار الأرز العالية.
في اليوم التالي كان لقاء الصديقين على غير العادة؛ لأنه كان مفعما بالحيوية المفرطة، وموشحا بالفرحة الصاخبة، والتي لم يسعها المكان، فهي فرحة العمر عندهما، فقد نجحا في الامتحانات النهائية، وبدءا في استعراض المواقف الدراسية، وما واجها من مصاعب ومشكلات، وبعدها تطرقا إلى حزمة من الأماني والأحلام التي لا تتوقف، ورغباتهما التي لا تنتهي، وقد بلغت فرحتهما وفرحة عائلتيهما ذروتها بعد أن التقيا في منزل أحمد المجاور لمنزل عائلة توني، وكانت سهرة عائلية دافئة قُدمت خلالها الهدايا للصبيين بمناسبة نجاحهما، تخللت السهرة الأحاديث الشيقة، وتناول الجميع الشاي والمرطبات، وشاركت العائلتان في توزيع كعكة المناسبة، والتي كتب عليها (أحمد وتوني مبروك النجاح) واستمرت السهرة حتى ساعات الفجر الأولى، ثم ودعت أسرة توني جارتها، بعد أن اتفقا على أن تقوم العائلتان بالسفر مساء اليوم التالي إلى مدينة بيروت للنزهة والتسوق، وقضاء يومين كاملين هناك، حيث الشوارع المكتظة بالناس، والمجمعات التجارية، والحدائق الجميلة، ومنتزهات الألعاب الترفيهية.
رغم الاختلاف الديني بين العائلتين، فإن الرابط المتين هو حسن الجوار الذي عمّق لديهم مفاهيم الصداقة، وقوى عندهما وشائج العلاقات الإنسانية، وبقيت همزة الوصل بين أفراد العائلتين لبنان الوطن الأم الذي تربوا بين أكنافه، فقد جمعتهم الحلوة والمرة، ورقت القلوب إلى بعضها وسالت الدموع لمصاب أحدهما، وارتسمت الابتسامات، وتعالت الضحكات لفرحهما، وجمعتهم موائد الطعام، وتجانست المشاعر والعواطف وانصهرت في قالب واحد.
وما إن أرسل الفجر خيوطه الذهبية اللامعة على قرية بنت اجبيل ليقشع قطرات الندى المتزاحمة فوق أشجار التفاح وزهورها، حتى سمعت طلقات نارية، ودوي انفجارات هائلة لم تعهدها القرية منذ أمد طويل هرعت الأسرتين إلى خارج المنزل، وأخذ الفزع منهم كل مأخذ، حيث بدت المفاجأة مروعة، حطام في كل مكان، ودمار غطى كل شيء، وأصوات يملؤها بكاء الأطفال في بؤس وحزن، مبعثه العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي لا يعرف عنوانا، ولا يفرق بين الجماد والإنسان، يدمر كل شيء حتى لعب الأطفال وهداياهم.
تصدّع المنزلان، وتدمرا، وبات الأمان هَمُ العائلتين، وأي أمان والجميع تحت مرمى الطائرات الإسرائيلية وحممها الملقاة في كل مكان بعبثية وعنفوان، لكنهم رغم ذلك قرروا عدم الرحيل، والبقاء في قريتهم المنكوبة فلجأوا إلى إحدى المباني المدرسية، وبعد تفقد الأسرتين لأفرادهما تبين أن توني قد أصيب في ساقه إصابة بسيطة جراء شظية من شظايا قنبلة عنقودية ولم يأل أحمد جهدا، ولم يدخره في مواساة صديقه الحميم، وقام بمرافقته إلى أقرب مستشفى لتلقي العلاج، وتم له ذلك فعلا، إلا أن الصديق لم يبرح مكانه وقرر مرافقة صديقه قائلا له: لن أتركك يا توني وسأبقى معك".
كان توني يتابع باهتمام بالغ ومعه صديقه ورفيقه أحمد أخبار المقاومة اللبنانية وإنجازاتها غير المسبوقة، وحجم الانتصارات التي حققتها في اليوم الأول للحرب، وهو ما أتلج صدريهما، وعلى الفور قرر أحمد المشاركة في الملحمة الجهادية رغم صغر سنه، فقال لتوني: "حان الوقت يا صديقي كي نثار لهدايانا، وبيتنا، وقريتنا، ووطننا لبنان الغالي، ولأمتنا العربية، وإنني قررت الآن وليس غدا أن أساهم مع أبطال المقاومة في كتابة التاريخ وتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وسوف أمضي قدما إلى حيث تدور رحى الحرب، وأسهم ولو بالنذر القليل، وسألعب دورا في الدفاع عن قريتنا بكل ما أوتيت من قوة"، تركت هذه الكلمات الحماسية صداها في قلب توني الصغير ، فأحس بحماس لا يقل عن حماس صديقه أحمد، وراودته الفكرة ذاتها في العمل البطولي، فقرر هو الآخر المساهمة ما أمكن له ذلك رغم الإصابة التي تعرض لها.
معا، ويدا واحدة تسلل الصبيان إلى ضواحي قريتهما، حيث بدأت معهما قصة الإثارة، دافعهما الأول حرصهما الأخاذ على نيل شرف المساهمة في رسم لوحة الجهاد مع أبطال المقاومة أينما كانوا وحيثما وجدوا، ثأرا لكرامتهما وصونا لحقوقهما.
احتدمت المعارك في أيامها الثلاثة الأولى، وأبلى مجاهدو المقاومة بلاء حسنا، وفي كل مرة يرى الصبيان علم لبنان يرفع في كل مكان من الجنوب اللبناني تغمر هما الفرحة، وفي الوقت نفسه يقول أحمد لتوني: "إن قسوة العدو قد زادت ضراوة بتدمير عشوائي للمباني الآهلة بالمدنيين العزل وتضاعفت أعداد الضحايا، ودمرت الجسور ، واستعسر نقل الجرحى والمصابين، ونقل الجثث من تحت الأنقاض.
لم تخبُ ولم تكبُ عزيمة أحمد وتوني، بل زادت صلابة، وقاما بالاندماج في فريق العمل التطوعي الميداني، وشارك الصبيان بفاعلية منقطعة النظير، وبينما هما على هذا الحال أخذ أحمد يتمتم ويقول: "اللهم إنا نعلم أن الموت نهاية كل حي، وأن مقاديرك التي تجريها بين عبادك ليست سهما طائشا، ولا نستطيع أن نمنع عيوننا من البكاء ولا قلوبنا من الجزع إذا ما فارقنا عزيزا علينا، لأن مساحة الصبر التي وهبتنا أضيق من أن تسع نازلة البلاء التي ابتلينا بها، فاغفر اللهم لنا جزعنا وبكاءنا على الموتى المفقودين".
سمع توني كلام صديقه أحمد وقال له: "أحسنت ولا فظ فوك" ساقت الضرورة والواجب الصديقين والتي لا يقدر حجمها ولا مقدارها إلا من حمل بين جنبيه قلبا كبيرا وعقلا راجحا كعقليهما وقلبيهما، ساقتهما إلى حلم كبير يتعدى حدود سنوات عمرهما بكثير، لكن الفضيلة لا تعرف حدودا للأيام والسنين، بل تسكن في نفوس النبلاء ممن يعشقون الوطن، وسرت في عروق الصبيين كراهية المعتدي الأثيم، لاسيما أن قريتهما قد نعرضت للدمار وكذلك منزليهما، وباتت آمال الصبيين أبعد غورا وعمقا إلى حد الانخراط في صفوف المقاومة، إلا أنهما لم يلقيا الموافقة لصغر سنهما، ووجهت لهما النصيحة بالاستمرار في العمل الميداني، ومساعدة الجرحى، وتقديم المعونات للأسر المنكوبة.
عاد الصديقان إلى مقرهما ليستأنفا العمل الإنساني، وبينما هما على هذا الحال تذكرا تلك الليلة السعيدة التي قضياها رفقة أسرتيهما احتفاء بنجاحهما، والوعود التي ضربت لهما بالسفر إلى بيروت، المدينة الجميلة واستطردا يرويان الأحداث الجميلة التي عاشاها مع عائلتيهما في هناء وسعادة، فقال أحمد: كم من لؤلؤة لم تعثر يد الغواص عليها فظلت دفينة بين صدفتيها، وكم من وردة أريجة لم تكد تنفتح حتى هبت عليها ريح فأذبلتها قدر اللّٰه لنا ذلك، وعلينا أن نتجشم الأهوال والصعاب، لأن حاجة وطننا في هذه الحقبة أكبر من حاجتنا لأنفسنا".
أعجب توني بمقالة صديقه، وتعاهدا على أن لا يتركا أرض المعركة واستمرا في تقديم المساعدات للأهالي المنكوبين في قريتهم، وأصبحا محط أنظار أهل القرية وإعجابهم، ومثلا يُحتذى به في الوطنية وحب الوطن، وقد كان باعثهم إلى ذلك حمية الدين، وحب الوطن، ودارت في رأسيهما العزة الوطنية، فأبيا إلا أن يزحفا إلى التضحية وسط الحمم التي تبعثها القنابل العنقودية، ولأنهما يعلمان أن الحياة الذليلة أحقر من أن يضن بها صاحبها مخافة أن تستبد بأعراض بيته وقريته وحرماته الأيادي الإسرائيلية الظالمة التي لا ترحم صغيرا ولا تعطف على كبير.
حولت الغارات الإسرائيلية قرية بنت اجبيل إلى حزن دائم وخراب هائل، فسفكت الدماء، وقطعت الأوصال، وثكلت النساء، ويتمت الأطفال، وأغرقت القرية في بحر الأحزان، فحزن الصديقان لذلك حزنا شديدا ولكن عزاءهما الوحيد ما كان قد قدماه من جليل الأعمال وأحسنها، وقد كتبا معا رسالة إلى أبطال المقاومة بمداد من الدم جاء فيها: "إن اللّٰه وعدكم النصر ووعدتموه الصبر، فأنجزوا وعدكم، ينجز لكم وعده، إنكم أيها الأبطال لا تحاربون رجالا أشداء، بل أشباحا من قش، وتلال من ثلج تتراءى في ظلال الأساطيل، وخيالات تلوذ بأكناف الجدران والأسوار، فاحملوا عليهم حملة صادقة تطير بما بقي من ألبابهم، فلا يجدون لبنادقهم كفا، إنهم يطلبون الحياة، وأنتم تطلبون الموت لتفوزوا بالجنة التي عرضها السموات والأرض، أجلبوا عليهم بخيلكم ورجلكم واقتلوهم حيث تقفتموهم.
إن كتّاب التاريخ قد علقوا أقلامهم بين أناملهم، ووضعوا صحائفهم بين أيديهم، وانتظروا ما تملون عليهم من حسنات أو سيئات، إن هذا اليوم له ما بعده، فلا تسلموا أعناقكم إلى الإسرائيليين أبدا".
عاد الصبيان إلى قريتهما، وقد بلغ الأسرتين خبر رغبة الصديقين في الانضمام إلى صفوف المقاومة، فأخذتهم الدهشة، ولم تستغرب والدة أحمد هذا الصنيع من ولدها؛ فهي تعرف منذ نعومة أظافره ميله الشديد للتحدي ومقت الخضوع والانهزام، فما بالك وقد اشتد عوده، وبلغ من العمر خمسة عشرة سنة.
بكت أم توني بكاء شديدا، إلا أنها لم تخف افتخارها بابنها الصبي البطل، فحضنته وضمته إلى صدرها ضما، وقالت له: يا ولدي لا تذهب فالحرب تدور رحاها، وأنت لا تزال صغيرا على هذه الشدائد والملمات وأعلم جيدا أنك يا توني تملك الرغبة في الدفاع عن وطننا لبنان، أناشدك العدول عن هذا الرأي، وإقناع صديقك أحمد أيضا بذات الأمر؛ لأنكما ما زلتما في مقتبل العمر، ولا يزال المستقبل ينتظر منكما الكثير، وهي لا تزال تجثو على ركبتيها محاولة يائسة إقناع إبنها بعدم الذهاب، لكنهما تمسكا برغبتهما فاستشهدا.