الخميس ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم حسن عبادي

الوقائع العجيبة في زيارة شمشوم الأولى لمانهاتن!

التقيت يوم السبت 28 أيلول بصديقي الأديب جعفر العقيلي في جناح "الآن ناشرون وموزعون" في معرض الكتاب بعمان، سألته عن آخر إصداراتهم التي يوصي بها فأجابني دون تردّد: "الوقائع العجيبة في زيارة شمشوم الأولى لمانهاتن!"، تناولتها وإذ بها رواية لبلديّاتي الحيفاويّ هشام سامي عبدُه (277 صفحة، تصميم الغلاف للفنّان كمال تابري).

الرواية بوليسيّة حداثيّة بامتياز، أخذتني بدايةً إلى قصة "التفّاحات الثلاث"، وهي إحدى القصص التي روتها شهرزاد للملك شهريار، في الليلتين التاسعة عشرة والعشرين من ألف ليلة وليلة؛ يعثر صيّاد على صندوقٍ مقفل وثقيل في نهر دجلة، يبيعه للخليفة العبّاسي هارون الرشيد الذي يأمر بكسره لفتحه، فيجد فيه جثّة امرأة مقتولة ومقطّعة الأعضاء، يأمر الخليفة وزيره جعفر البرمكيّ أن يكشف له سرّ الجريمة والعثور على القاتل في غضون ثلاثة أيام وإلّا أمر بقتله، ومنها إلى موريس لوبلان وبطله أرسين لوبين، كونان دويل وبطله شرلوك هولمز، أجاثا كريستي وبطلها هيريكيول بوارو... وهشام عبدُه وبطله إيال بيكهام.

نجح عبدُه بتركيب كوكتيٍلٍ عصريٍّ يمزج الواقع السياسيّ بالعلميّ الخياليّ؛ إيال محاضر شهير عالميًا في علم الحاسوب، تخصّصه في السايبر والشيفرة والأمن السايبري، ناشطٌ سياسيّ مخضرم ومعارض لسنّ قانون الهويّة البيومتريّة في بلاده، ومعارض لتوجّهات زعماء بلاده الشوفينيّة، نجح باختراق الحواسيب الأمنيّة ليصل إلى تخطيطات وبرامج خطّة هجوميّة ضدّ إيران، قد تُسبّب في كارثة وحرب عالميّة ثالثة أراد إفشالها بكلّ ثمن ممّا أدّى إلى قتله واغتياله بواسطة قوّات الأمن الإسرائيليّة وتصوير الأمر وتسويقه كأنّه حالة انتحار "في بِركة أوليمبيّة جامعيّة صاخبة، في ساعات الصباح المتأخّرة، في أعالي مدينة ساحليّة ساحرة بل آسِرة، في شمال دولة "التنوئيل" الشرق أوسطيّة، تقعُ حادثة عجيبة غريبة لبروفيسور مشهور في الجامعة، مُصاب بجنون الإرتياب والعظمة، خلال العطلة الصيفيّة الأكاديميّة الطويلة!"

ينجح إيال بتسريب وتهريب الخطّة العسكريّة، قبل اغتياله، بمساعدة هدير ياسين التي سلّمتها للوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة "ومن ثم إلى مطار دولي كبير. يليها سكون مياه بحيرة سوداء شبه متجمّدة، وسط مدينة أجنبية ضخمة في فصل الخريف حيث تقطعُ أوصال السكون أصوات عنيفة، لم تشهد مثيلها البحيرة الهادئة الوادعة من قبل"! في فينا، لتجهض الخطّة العسكريّة وتنقذ البشريّة من كارثة نوويّة وحرب عالميّة ثالثة مؤكّدة. تدور أحداث الرواية الخياليّة في أماكن وأزمنة مختلفة بفضل خيال عبدُه العلميّ الخارق.

كان الهدف في الرواية البوليسيّة الكلاسيكيّة هو معرفة الحقيقة، عَبر مسار شديد التعقيد، يجمع الحدس القويّ والتحليل المنطقيّ والمراقبة الذكيّة والقوّة الخارقة على الاستنتاج، ولذلك كان المحقّق بطلها الذي ينجح في حل لغزها الجنائيّ، جاءت معقّدة لتُظهر عبقريّة المحقّق الذي يكشف القاتل في آخر الرواية، لكن عبدُه قلب موازينها بحرفيّة، لمّح لهويّة القاتل (جهاز الاستخبارات) ودوافعه، إرهاب دولة، ولم يقتل عنصر التشويق المبني على التخيّل العلميّ، فجاءت أدوات تقصّي الجريمة حداثيّة بامتياز، بعيدة كلّ البعد عن الوسائل القديمة مستعملًا تقنيّات علميّة مُحَوسبة، قائمة ومتُخيَّلة، ليفك طلاسم الجريمة.

نجحت خطّة هدير بتهريب قرص حاوية الذاكرة (من نوع الu.s.b) الذي يُخفي أسرار الجريمة "موجود داخل كيسٍ بلاستيكيّ صغير مُحكَم، في أحشائها بعد أن ابتلعَتها"(ص.115) رغم التفتيش الأمنيّ في المطار، فجاءني ما كتبه الروائي الأسير كميل أبو حنيش في روايته "الكبسولة" (نتيجة إنعدام الورق في السجن جعل الأسرى يبتكرون أسلوبًا خاصّا في الكتابة؛ الكتابة على الأوراق الداخليّة الشفّافة لعلب السجائر بخطٍ صغير للغاية، ثم يلفّ الورقة الشفّافة بعناية فائقة حتى تصبح صغيرة جدًا، ليجري بعدها لفّ خيط رفيع حولها، ثم تغلّف بغطاء بلاستيكي، بأكثر من طبقة، يقوم بكيّ البلاستيك على أطراف الرسالة لتصبح مثل حبّة الدواء، تصير كبسولة تُحمل أسفل الشفة العليا، وهناك من يبتلعها والقسم الآخر يحملها داخل الشرج).

بطلات الرواية: هدير، إستير، تمار وويكيبيديا (الويكيبيديا موسوعة رقميّة مبنيّة على الويب، متعدّدة اللغات وحرّة المحتوى، تشغّلها مؤسسة ويكيميديا، منظّمة غير رِبحيّة)... ودير ياسين التي ولدت من رحم التشريد والمعاناة لكن أهلها لا ينهزمون تمامًا، بل يشحنوا طاقاتهم من أجساد وأرواح من رحلوا ليُعبّدوا طريق الأمل والحريّة... فهناك حياة بعد موتهم، وهنا تكمن القدرة على التجدّد والاستمراريّة والقيامة من الموت للشعب الفلسطينيّ؛ مثل طائر الفينيق.

استعمل عبدُه التكرار والتوكيد في الكثير من الحالات ليوصل فكرته، وكأنّي به يحاول أن يلقّنه إيّاها بالقطّارة، كمعلّم جامعيّ يرغب في الاطمئنان أنّ المتلقّي فهمها، رغم تعقيدها، وهو بغنى عن ذلك، وربما الأمر نابع من أنّها تجربته الروائيّة الأولى؟

عبدُه مثقّف لأبعد الحدود، ملمّ بالأسطورة ليجنّدها، بالأديان السماويّة وتعاليمها (سَفر الجامعة التوراتي ص.16، إشعيا ص.193؛ سورة البقرة القرآنيّة ص.254)، بالفلسفة على مدارسها، بالتاريخ والجغرافيا، الخارطة السياسيّة المحليّة والعالميّة، ناهيك عن علم الحاسوب بحذافيره، يصول ويجول ويغوص فيها دون كلفة، ويستعملها بانسيابيّة دون إقحام فجاءت بنيويّة، كما هو الحال حين يوظّف مأساة البطل اليوناني أوديبوس (ص.94)، أعداد فيبوناتشي(ص. 149) أو نبوءة النبيّ العلميّ ستيفن هوكينج:"في المائة القادمة، ستُطلق إحدى الدول النوويّة السلاح النووي ضد دولة أخرى مُعادية لها! وعلينا جميعًا أن نعمل بجديّة على حصر انتشار الأسلحة الفتّاكة، والعمل على تقليصها وإزالتها، حتّى لا يحصل هذا الأمر المروِّع وتندلع ربما حرب عالميّة ثالثة!" (ص. 175)، وحوّلها ليبني حولها حبكته الروائيّة بحنكة. كذلك الأمر حين استعمل المصطلحات العلميّة من عالم الحاسوب فجاءت بعفويّة مدروسة بتلقائيّة عالم حاسوب متمرّس، كما هو الحال حين ذكر "أمن المعلومات في السايبر"، "نظام تحديد المواقع العالميّ"، "تطبيق تشخيص الوجوه"، "تطبيق تشخيص الأشياء"، "السِنّ الزرقاء" وغيرها.

تبنّى اليهود مصطلح "الكارثة والبطولة"، ولا يسمحوا لأًّيًّا كان استعمال مصطلح الهولوكوست "The Holocaust" إذ لم يكن مقرونًا بما حلّ بهم، مثل الجرائم ضد الهنود الحمر أو في رواندا وغيرها، وآن الأوان لتذويت نكبتنا وما حلّ بشعبنا ولا نسمح باستعمال المصطلح مقرونًا بالكوارث الطبيعيّة الماحقة مثل انفجار بركان بومباي جنوب ايطاليا، أو جريمة هيروشيما اليابانيّة، أو ما حدث في المُفاعل النَّوويّ "تشيرنوبِل" في الاتحاد السوفييتي وغيرها، فالنكبة كانت حاضرة عبر صفحات الرواية من دير ياسين إلى حيفا وما بينهما، مباشرة وتلميحًا: "المصعد قد توقّف في مسارِ هربها، في طابقين فقط: الطابق 19 والطابق 29، وكِلا العددين هُما عددان أوّليّان: العدد الثاني يشكّل سَنَة هامّة في أحْداث البلاد الصاخبة في بداية القرن العشرين، والعددان مَعًا يُشكّلان مَرْحَلةً مفصليّة في تاريخ المنطقة كلّها وتقسيم المنطقة: قيامُ دولة، ومأساة أمّة".(ص.82)

ملاحظات لا بدّ منها: أزعجني تفكير هشام، أحيانًا، بالعبريّة مع ترجمات شبه حرفيّة للعربيّة رغم لغته العربيّة الرائعة والراقية والجذّابة وتساءلت: لماذا ؟

لفتَ انتباهي استعمالُ عبدُه للهوامشِ (استعان ب-46 هامش) وبعضها أثارني واستفزّني بعض الشيء، أحيانًا، لأنّه جاء مستخفًا بالقارئ وثقافته وعرقل سيرورة القراءة وكسر عنصر التشويق، حبّذا لو جاءت هوامشه كملحق في آخر الرواية.

وأخيرًا، لن أكشف سرّ الحبكة الروائيّة الكبير الذي قد يُفاجئ القارئ في البون الشاسع بين عنوانها الطويل والسرّ الذي تحمله، كي أُبقي للقارئ متعة الاكتشاف!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى