انتفاضة الزعيم
... انتفض الحاضرون، لغط هنا... لغط هناك، صرخ الزعيم، وهو تيس حكيم... وإنه وإن كان شابا فتيا... وليس أكبر القوم سنا... فإنه أطولهم لحية... ولحية التيس مقامه ورفعته... كرامته وعزته، هي مقياس شخصيته... لحيته هويته... صرخ الزعيم ـ مرة أخرى ـ عم صمت أبيض ناصع، حملق الجمع الغفير في وجه الزعيم عامة وفي لحيته خاصة... صاح كبيرهم الذي علمهم مفاتيح السجع: أنصتوا واستمعوا... كانت استجابتهم تامة.
ضرب الزعيم الأرض بسيفه الخشبي مقلدا قس بن ساعدة: يا معشر التيوس الكرام... قبل أن أتلو على مسامعكم محاضرتي حول الوضعية العالمية الراهنة... حول أسعار البترول... حول علاقتنا بالقبائل المجاورة، القريبة والبعيدة... قبل ذلك كله أذكر بأنني ـ كما تعلمون ـ مبدع مبدع...
وإن الإبداع في وطننا لا يعلى عليه... فلتمت الصناعة والفلاحة والتجارة... والعملات الصعبة... إذا أصاب الإبداع مكروه... وبما أننا ـ مجتمع التيوس ـ نحب ربط القول بالفعل، فإنني أعتز بأنني أول من يطبق قوانين بلدنا... واستهل خطابه البليغ بمعلقة عمرو بن كلثوم ليستنهض بها الهمم... ثم قال: ملاحظة منهجية لابد منها:
ـ إني وإن كنت جالسا في الظل فحفاظا على صحتي التي هي صحتكم وسلامتي التي هي رأس سلامتكم... وأشعة الشمس التي تدغدغ جماجمكم إنما تفتح عقولكم لتنتبهوا وتفهموا ومن تم ترشدوا... أرشدكم الله تعالى... ثم تلا عليهم آخر قصصه القصيرة... والتصفيقات تكيل له المحبة الغامرة... اتبعها نصا شعريا قرمزيا... ومما روي يومئذ أن جمعا مباركا من التيوس أغمي عليهم عن آخرهم... وبعد أن استفاقوا من سباتهم الشتوي صوتوا جميعا: إن من البيان لسحرا وإن من شعركم لحكما ـ سيدنا الزعيم...
بعد هذا الموقف العظيم رضي التيس العظيم عن نفسه ورضي عن قومه وصاح:
قومي الذين أحبهم، بما أنني ديمقراطي حتى النخاع، متفتح منفتح... فإنني أفتح لكم باب الحوار والمناقشة... ولم لا المعارضة... تناقشون إبداعاتي... ومن باب محبتي الغامرة ـ لكم طبعا ـ أقترح أن استشير مستشاري الخاص وحده، فهو الذي اخترته من خيرة أصدقائي نائبا عنكم وممثلا لكم في مقامي العلي، ومن أجل توفير الجهد والوقت سأنصت لرأيه على أنه رأيكم ومشورته على أنها مشورتكم... هيا أسمعني أيها المستشار الحكيم اللبيب... استوى المستشار في جلسته وقال: سيدي الزعيم، إخواني أصحاب المعالي والمقامات... لقد تسلمت ظرفا بريديا يحتوي خطابا اشهاريا حول مرهم جديد، يفيد في إطالة الشعر... وأنا...
صرخ الزعيم بأعلى صوته: أيها الوغد اللئيم، ماذا أصنع بمرهم الشعر ؟ أتهزأ بي ؟ قال المستشار بلسانه البليغ: سيدي يمكنك أن تستعمل المرهم في إطالة شعر لحيتك... أنت يا... يا... يا سيدي العارف، تعلم أنه كلما ازدادت لحيتك طولا زاد قدرك علوا ومحبة قومك لك عمقا... ضرب الزعيم على كتف مستشاره ومستشار أمته صارخا بملء فيه: والله إنك سيد المستشارين... وكثيرا ما أخبرت زعماء القبائل الأخرى عن علمك وحكمتك...
وانسحب الزعيم عن الجمع الغفير... والهتافات... وفي نيته أن يستعمل... وبعد وقت غير بعيد قيل: إن لحية الزعيم قد سقطت عن آخرها ورأس المستشار قد... عن الوريد... وفقد الشعر فحلا من فحوله...