انكسارات حزن...
مقهور...مكسور...ومشبع بالحزن، بت أمتصه كما يمتص الإسفنج الماء، أو كأرض متعطشة للمطر. أمشي في شوارع هذه المدينة باحثاً عن صدر أمي لأرتمي عليه..وعن يدها الدافئة لتمسح بها على شعري وتقول لي بأنني كنزها وهبة الله لها الأبدية ولكن هذه المدينة أصبحت قاسية تعرف بإتقان كيف ومتى تسرق منا الأحبة...بالصواريخ المفاجئة التي تنهمر فوق رؤوسنا، وبالانفجارات المدوية التي تفتتنا...وبالسيارات المفخخة التي تهددنا كل لحظة.
أمي!
هل تسمعين صوت دقات قلبي وأنت في قبرك القريب قرب الشريان مني والبعيد بُعد أشلائك المتناثرة فوق شوارع المدينة وأرصفتها، وبيوتها وشرفاتها وبحرها؟
حين جاع أخي قبل يومين كذبت عليه وقلت بأنك ستعودين فقرر ألا يأكل حتى ترجعي فهلا أتيت يا أمي؟
في كل يوم أخرج إلى عملي حاملاً كيساً على ظهري وأجوب به شوارع المدينة مفتشاً في حاويات قمامتها عن عبوات بلاستيكية...وعلب قصدير فارغة...وصناديق كرتونية رماها أصحاب المحال لنقتات بها نحن...وأيضا أبحث عن كسرات خبز يابسة.
تمنيت البارحة أن أجد في حاوية شارع الأثرياء بقايا موز لأخي الذي يحبه ولم يأكله منذ زمن، ولكن بعد نصف نهار من البحث وجدت واحدة كساها العفن وأنفت نفسي من حملها بيدي القذرتين المسودتين من قمامات البشر.
أمي!
كم أشتاق لرائحتك! أفتش عنها في طيات ثوبك المتسخ كأصابعي ولكنه أطهر ما في الأرض والذي أبى إلا أن يرافقك إلى كل مكان زينه جزء منك.
أمي!
لم يبك أخي هذا الصباح، إنه نائم منذ دهر وبارد كالثلج، لم تدفئه البطانية الوحيدة التي نملكها، كيف كانت تتحول إلى شمس ربيع دافئة تمنحنا حرارتها فور توسدنا لذراعيك ونغفو على صوت أنفاسك.
لم أحاول أن أيقظ أخي لأجبره على تناول اللقيمات فمهما فعلت لن يستيقظ..قد ورث معاندة الحياة عنك ولن يفعل إلا ما يحلو له.
أوه! شوارع هذه المدينة ضيقة وحاوياتها باتت فقيرة...في الماضي حيث كنا نخرج معك أنا وأخي وكنا نعود وقد ملأنا الأكياس ثم نبيعها بثمن جيد، ونشتري طعامنا ليومين متتاليين متفرغين للاغتسال ولتنظيف أجسادنا من قذارة تلك الحياة...الآن..أتمنى لو أتحول إلى حاوية يملؤها العفن مقابل أن تعودي يا أمي فربما بعودتك يرجع أخي للحياة ونجلس مرة أخرى لنتناول عشاءنا المكون من زعتر وماء.
أمي!
إني جائع أيضاً وثمة حاوية ليست بعيدة عني ولكن قدماي لم تعودا قادرتين على حمل ثقل جسدي النحيل، سأتمدد هنا على الرصيف وأنام قليلاً علك تأتين في الحلم مع أخي الصغير!
بلاط الرصيف ليس كصدرك...أرى أرجل المارة تروح وتجيء أمامي، الأطفال يسيرون مع أمهاتهم بفرح... والصبايا يتمايلن أمامي..وبائع يانصيب ينادي...أصوات السيارات تداخلت مع أصوات رنات الهواتف المحمولة...لم ينتبه أحد لوجودي...إن الحياة تضج بعبقها في هذه المدينة، ولكنني منهك! تعالي يا أمي أوسديني صدرك أريد أن أنام.