اِستِعْراضٌ لِمضَامين الرسائل المتبادلة بَيْنَ
الملخص:
تحاول هذه العجالة إلقاء الضوء علی جانب من أدب المعري الواسع الأطراف حيث تتناول عدداً من الرسائل المتبادلة بين داعي الدعاة الفاطمي و أبي العلاء المعري حيث تناول داعي الدعاة في ثلاث رسائل قضايا متعددة حاول أبوالعلاء المعري في رسالتين كتبهما رداً عليها أن يجيب علی داعي الدعاة الفاطمي.
الكلمات الدليلية: أبو العلاء المعري ـ داعي الدعاة الفاطمي الرسائل ـ المَضامين
تقومُ هذه الدراسة باستعراضٍ عامٍ للرسائل المتبادلةِ بين اَبيالعلاءِ المعري وبينَ داعي الدُعاة الفاطمي، وهي خمسُ رسائل أوْرَدهَا ياقوت الحَموي في كِتابِهِ [1]...
وتمتاز هذه الرسائل باَهمِيتِهِ بالغة في تبيين مذهب المعري الفكري وعقيدته كَمَا اَنها ذاتُ قيمةٍ تاريخيةٍ واَدبيةٍ كبيرةٍ تبيّنَ الكثيرُ مِنَ الأمور التاريخية والأدبية.
وفي هذه الرسائل مخاصماتٌ فقهيةٌ وفلسفيةٌ اَثارَتْ الكثير مِنَ الجدلِ عندِ دارسي نثرِ اَبي العلاءِ اِذ يبيّن المعري فيها وفي غيرِها من الرسائل اَسباب عزوفه عَنْ اَكل اللحم ومَا تنتجه الحيوانات كَما اَنَّ هناك قضايا أُخري جديرةً باهتمامِ الدارسين وُرِدَتْ في هذه الرسائل.
الرسالَة الاولى مِنْ داعي الدُعاة الفاطمي اِلی اَبي العلاءِ المعري
في هذه الرسالةِ بَدَأ داعي الدُعاة [2]. كلامَه بمدح اَبي العلاءِ ووَصفِه بالاَدب الذي لاَ ينفع في الدُنيا والآخرةِ ـ اِلاّ للشهرةِ عندَمَا قال:
«الشيخ ـ اَحسن اللَّه توفيقه ـ الناطق بلسانِ الفضل والأدب الذي ترك من عداه صامتاً، مشهودٌ لَه بهذه الفضيلة من كل من هو فوق البسيطة» [3]
ثُمَّ اَشارَ اِلی موضوع تضييع العمر في اللُغَةِ العربية واعتبره بعيداً عن العقلِ قَائلاً: «غيرَ اَن الاَدبَ الذي هُو جالينوس طبه وعندهُ مفاتيح غيبه لَيْس مِمَّا يفيدهُ كبير فائدةٍ في مَعادِهِ اَوْ مَعَاشِهِ، سِوی الذكر السائر به الرُكبان مِمَّا هُو اِذ نَشَأَ مَعَ المذكورِ بِهِ عَلی اَنّه لَه بمكافه الجمال اَوْ الزينة مادامَ حيا، فاِذا رَمَتْ به يَد المنونُ مِن ظهر الاَرضِ اِلی بطنها... لا بحسنِ ذكره ينتفع ولا بقُبحِهِ يستضرُّ» [4]
ثُمَّ كَتَبَ حَولَ أسباب سلوكه المسلك الذي سلكه في الزهد ووصفه بالمبالغة في اَمرِ الزهد في الدُنْيا:
«وليست هذه الطريقة اِلاَّ طريقة من يعتقد اَنه اِذا اَلمها و نالَ نيلاً مِنها. استوا في جزاءِ فعله بما و لعمرُ اللَّه لقد امتّدَ بهذا البال اِلی اَقصی الشوط مِن ميدان الزُهد و انتهی فيه اِلی اَبعد البُعْدِ [5] و مَع شهرة المعري بالفضل و اِدعائه في قصيدتِهِ:
غَدَوْتَ مريضَ الدينِ والعقلِ فٱلقَني لتَعْلَمَ أنباءَ الأمورِصَحائحِ
وهِيَ تدعو اِلی الاِستنارَة باَنوارِهِ و الاِهتداءِ بمنارِه شددت اِليه راحلة العليل في دينه وعقله اِلی الصحيح الذي ينبئُي اَنباءَ الأمور الصَحائح [6]
ثُمَّ طرح داعي الدُعاة سؤاله الأول قائلاً:
«واَول سؤالي عن اَمر خفيف فإن استنشقتُ نسيم الصبا سقت السؤال اِلی المهم أسأله عن العلة في تحريمه علی نفسه اللحم واللبن وكل ما يصدر اِلی الوجود من منافع الحيوان»؟
ثُمَّ يجهد داعي الدُعاة بعد كلام طويل له لإثبات ضرورةِ اكل منتجات الحيوانات باَن يدفعه اِلی اتخاذ موقف فيما يتعلق هذا الأمر ويتهمه باَنَّه معترضٌ علی حكمةِ اللَّه عَزّ وَجَلَّ ويقول:
«وامَّا اَنَّه يجد سفك دماءِ الحيوان ونزعها عَن اَرواحِها خارجاً من اَوضاع الحكمة وذلك اعتراضٌ مِنه ـ اَيْ مِن اَبي العَلاءِ ـ علی الخالقِ ـ سبحانه ـ الذي هُو اَعرف بوجوه الحَكمة» [7]
ثُمَّ في نهايَة رسالتِهِ يُطالِبُ اَبا العلاءِ بالرَدِ عليه في هذا السؤال ومَا طرحَه من الأمور المتعلقة به.
«واِذا أَنعم الشيخ ـ اَدامَ اللَّه توفيقه ـ وتفضل و ساقَ اِلی حُجةَّ اِعتمدها في هذا الباب رجوتُ كشف المرضِ ـ الذي وقع اِعترافي به في مستأنف السؤال بمطلع صبحِ بيانه، فيكون قد غرس مني غرساً زكياً وهداني صراطاً سوياً ويزدادُ ـ بمكانه ذلك ـ في موالج الخير ولوجاً وفي معارج اِكتساب فضيلة الشكر و الاَجر عروجاً بمشيئة اللَّه وعَونِهِ» [8]
أهمّ ما وُرد في الرسالَة الاولی منِ داعي الدُعاة الفاطمي:
- مدح اَبي العلاءِ و ذكر فضائله الكثيرة...
- وُجوب التعلق بالعلم النافع...
- شهرة اَبي العلاءِ بالفضل...
- عِلَّة تحريم اَبي العلاءِ اللحوم و الالبان...
- طَلب الجواب مِنه في نهايَة الرسالَة...
رَدُّ اَبي العلاءِ المعري عَلی رسالَة داعي الدُعاةِ
قالَ العبدُ الضعيفُ العاجزُ، اَحمدُ بنُ عبدِ اللَّه بن سُلَيمانَ: اَولُّ ما أبدَأُ بِهِ، أَنَّي اَعُدُّ سَيِّدَنا الرَئيسَ الاَجَلَّ، المؤيّدَ في الدّينِ ـ اَطالَ اللَّه بَقاءَه ـ مِمَّنْ وَرِثَ حِكْمَةَ الاَنبياءِ و اَعُدُّ نَفْسِي الخاطئةَ مِنَ الاَغبياءِ و هُوَ بكتابِهِ اِلَیَّ مُتواضِعٌ. [9]
ثُمَّ يَسْعَی ـ المعري اَن يُبَالِغَ في التواضُعِ لداعي الدُعاةِ قائلاً:
«وَ من اَنَا حَتَّی يَكْتُبَ مِثْلُه اِلی مِثلي؟ مَثَلَه في ذلك، مَثَلُ الثُريا كَتَبَ اِلی الثَّری وَ قَدْ عَلِم اللَّه اَنَّ سَمعي ثقيلُ و بَصَري عَنِ اَلابصارِ نقيلٌ، قُضِيَ عَلَیَّ و اَنا ٱبْنُ اَرْبَعٍ، لا اَفْرِقُ بَيْنَ النَّازلِ و الطَّالعِ ثُمَّ تَوَالَتْ مِحَني، فَأشْبَهَ شَخصِي العود المُنْحَنِي، وَ مُنيتُ في آخِر عُمُرِي بالاِقْعادِ و عَداني عَن النَهْضَةِ عادٍ. [10]
ثُمَّ يَذكُرُ اَبوالعلاءِ اَدلتَه في سببِ اِجتنابه اَكلَ اللّحوم و اَولاً يذكُرُ سبباً مُهِماً و هُوَ اِحساسُ الحَيَوانِ بالاَلمِ كَما يَحُسُّ به الانسان حيث يقول:
غَدَوتَ مريض الدينِ و العقل فٱلقن لتسمعَ اَنباءَ الأمورِ الصَحائحِ
[11]
فَاِنَّما خاطَبَ بِهِ مَنْ هُوَ في غَمرةِ الجَهَل، لا مَنْ هُوَ للريّاسَة عَلَمٌ و أَصلٌ و قد عَلِم اَنَّ الحيوانَ كُلَّه حَسّاس يقع بِهِ الاَلم. [12]
فيُشيرُ اَبوالعلاءِ المعري اِلی كلامِ داعي الدُعاةِ حَولَ اختلاف القُدَماءِ في ذلك الموضوع:
«وَ قد سَمِعَ العبدُ الضعيفُ العاجزُ شيئاً مِنْ اِختلافِ القُدماءِ يكون فيما سمعه سيدنا الرئيس الاَجل المؤيد في الدين ـ لا فتيءِ اِلا المنار هادياً و عَلَی من احتزاه للمصلحةِ حادياً ـ حزءاً مِن احزاءِ تجاوزُ في العدد ألوفاً و يوجدُ يقينها مألوفاً».
[13]
و مَعَ اَشارَتِهِ اِلی قضية الخير و الشر يقول:
«إذا بَنَيْنَا القَضيةَ البَتِّيةَ المركّبَةَ مِنَ المُسْنَد و المُسند إلَيْهِ و لَهَا و اسطتانِ، اِحداهُمَا نافيةٌ، و الأُخریَ اِستثنائيَّةٌ، فَقُلْنَا: اللَّه لا يَفْعَلُ اِلاَّ الخيرَ، فهذه القَضية كاذبَةٌ أمْ صَادَقةٌ؟ فِاَن قيلَ صادقَةٌ، فقد رَأيْنَا الشرورَ غالبةً، فَعلِمْنا اَنَّ ذلك اَمْرٌ خَفيٌّ» [14]
و قَد ْذكر المعري بَعدَ ذلك كلاماً مُفصلاً عَنْ موضوعِ هجران اللُحوم عند بعض الناس بسببِ اِيلامه و قد اِسْتَشْهَدَ بالشعر العربي في موضوع حنينِ الحَيوانِ حيثُ يقُولَ:
«و لَمْ يَزَل مَنْ يُنْسَبُ اِلی الدّينِ يَرْغَبُ في هجران اللحوم، لاَنَّها لَمْ يُوْصَلْ اِليها اِلاَّ بايلامِ حَيَوانٍ، يَفِرَّ مِنْهُ في كُلِّ أوانٍ، و أَنَّ الضَّائنةَ تكونُ في مَحلِّ القومِ وَ هِي حاملٌ، فَاِذا وَضَعَتْ و بَلَغَ ولَدُها شهراً اَوْ نَحْوَه، اِعْتَبَطوهُ فَاَكلوه وَ رَغبوا في اللَّبنِ و باتَتْ اُمُّهُ ثاغيةً، لَوْ تقَدْرُ سَعَتْ لَهُ باغيَةً، و قَدْ ترددّ في كلامِ العرب ما يَلْحَقُ الوَحشيَّةَ مِن الوَجدِ و الناقَة إذا فَقَدتِ الفصيلَ، فقال قائلُهُمْ:
فَمَا وَجِدَتْ كَوَجدي أمُّ سَقْبٍ أَضَلَّتْهُ فَرَجَّعَتِ الحَنينَا»
[15]
ثُمَّ بَعْدَ طرحه هذه المواضيع يَعود المعري مرةً اُخری اِلی علم اللَّه بالخير و الشَرِ و بَعْدَه عَن الرَأفَةِ بالحيوانِ مُشيراً اِلی بَعْضِ القضايا المشهورة عَنْ اَحوالِ الفارس و الصَيْد و الحيوانِ:
«و للسائل اَنْ يَقولَ: اِن كان الخيرُ لا يُريدُ رَبُّنا سِوَاه فالشَرُّ لا يَخلو مِنْ اَحَدِ اَمْرين:
اِمَّا اَنْ يكونَ قَدْ عَلِمَ به أَوْلا. فَاِنْ كانَ عالماً به، فَلا يَخْلو مِنْ اَحدِ اَمرينِ اِمَّا اَنْ يكونَ مُريداً لَه اَوْ لا. فَاِنَ كان مُريداً، فَكَأنَّه الفاعِلُ، كَمَا اَنَّ القائِلَ يقولُ: قَطَعَ الأميرُ يَدَ السّارِقِ. و اِنْ لَمْ يُبَاشِرْ ذلك بِنَفْسِهِ.
و اِنْ كانَ غَيْرَ مُريدٍ، فَقَدْ جازَ عليه مَا لا يَجوزُ عَلَی اَميرٍ مِثْلِه في الاَرضِ اَنَّه اِذا فُعِلَ في ولايَتهِ شَيئٌ لا يَرْضاه اَنكَرَهُ و اَمَرَه بزوَالِهِ و هذه عُقْدَةٌ قَدْ اِجتَهَدَ المتكلّمونَ في حَلِّها فَأَعوزَهُمْ. و بَعْدُ قَدْ ذكرت الأنبياءُ: أَنَّ البارئَ ـ جَلَّتْ عَظمتُه ـ رَؤُوف رحيمٌ، و لَوْ رَأفَ ببني آدم، وَجَبَ اَنْ يَرْأفَ بغيرهم مِن اَصْنَافِ الحيوان، الّذيَ يَجِدُ الألَمَ باَدْنی شييءٍ وَ قَدْ عَلِمَ اَنَّ الوحوشَ الراّتعةَ يُبَكِّرُ إليها الفارسُ، فَيَطْعَنُ العيْرَ اَوْ الأتانَ و هُنَّ مَا اَسْدَيْنَ اِليَهِ ذَنْباً و لاَيِ حالٍ اِسْتَوْجَبَ مَنْ يَفْعَلُ بِهَا هَذا، «الرَّقَّةَ»؟
وَ هِيَ لَمْ تَشْرَبْ مِنَ الماءِ بذنوبٍ و لَمْ تُجْزَ مَا تَكْسِبُ مِنَ الذُنوبِ، وَ قَدْ رأيتُ الجَيْشَينِ المُنْتَسِبَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمَا اِلی الشَّرْعِ المُنْفرَد يلتقيانِ و كِلاهُمَا في مَدَدٍ و يُقْتَلُ بَيْنَهُمَا آلافٌ عَدَداً، فهذا مَحسوبٌ مِنْ اَيِّ الوجْهَيْنِ؟
فَلَيْسَ عِنْدَ النَظِر بَهَيِّنٍ. فَلَمَّا بَلَغَ العَبْد الضعيف العاجِز اِختلافُ الأقوالِ و بَلَغَ ثَلاثينَ عَاماً، سَأل رَبَّه اِنعاماً، فَرَزقَه صَوْمَ الدَّهرِ، فَلَمْ يَفْطِرُ في السِّنَةِ و لا الشَّهرِ، اِلاَّ في العيدينِ و صَبَرَ عَلی تَوالي الجديدَينِ و ظَنَّ اِقتناعَه بالنَّباتِ لَه جميلَ العاقَبةِ.»
[16].
ثُمَّ يتحدَثُ عَنْ حياتِهِ الخاصَة مشيراً اِلی اَنَّ صومَه الدَهرَ رِزقٌ من اللَّه تَعالَی طِوالَ حياتِهِ ثُمَّ يخاطِبُ داعي الدُعاة بِكَلامٍ فيه الكثيرُ مِنَ الاِحترام و الاَدب و يعرّج بَعْدَه مَرَةً ثانيةً علی موضوعِهِ بالاِشارَةِ اِلی فتكِ الحيوانات بالاِنسانِ، كَمَا تَحَدَثّ عَنْ تَقَاتِل الطيورِ بَعْد اَن كانْ قَدْ تَكَلَم عَنْ تَقَاتلِ البشر سابقاً ثُمَّ اَشارَ اِلی قضيةِ خَلقِ العصَاةِ قائلاً:
«وَ قَدْ عَلِمَ سَيِّدُنا الرَئيسُ الأَجلُّ، المُؤَيِّدُ في الدّين و لاَ رَيبَ، اَنَّه قَدْ نَظَرَ في الكُتُب المتقدَّمَة، و مَا حُكِيَ عَنْ جالينوس و غَيْرِهِ، مِن اِعتقادٍ يَدُلَّ عَلَی الحَيْرَةِ و اِذا قيلَ: اِن البارئَ رَؤوفٌ رحيمٌ، فَلِمَ سَلَّطَ الأسدُ عَلَی اِفتراسِ نَسَمَةٍ اِنْسِيَّةٍ، لَيْسَتْ بالمُفْسِدَةِ و لا القَسيَّةِ و كَمْ ماتَ بِلَدغِ الحَيَّات جَمَاعَةٌ مشهورَةٌ و سَلَّطَ عَلَی الطَيّرِ الرّاضيةِ بَلقْطِ الحَبَّةِ البازِيَ و الصِّقرَ؟ و اِنَّ القَطاةَ لتَدَعُ فِراخَهَا ظِمَاءً، و تَبْتَكِرُ لِتَرِدَ ماءً تَحْمِلهُ إلَيْها في حَوْصلتِها، فَيُصَادِفُهَا دُونَهُنَّ اَجْدَلُ فَيَأكُلُهَا، فَيَهْلِكُ فراخُهَا عَطَشاً. وَ ذَكَرَ اَشياءَ مِنْ هذا الباب ثُمَّ قال: اَعوذُ باللَّه و اَتَبَرَأُ مِنْ قَولِ الكافِرِ.» [17]
و في نِهايَةِ الرسالَة يلخص المعري كُلَّ كلامِهِ ليقولَ اِنَّ السَبَبَ الرئيس في ترك اَكل لحَمِْ الحيوانِ هُوَ فَقْرِه و حِرمانه مِنَ الاَموال و عيشَته الصعبة قائلاً:
«و مِمَّا حَثَّني عَلَی تركِ اَكلِ الحَيَوانِ، اَنَّ الذي لِي في السَّنَةِ نَيّفٌ و عشرونَ ديناراً، فاذا أَخَذَ خادمي بَعْضَ ما يَجبُ، بَقي لِي مَا لا يُعْجِبُ، فٱقتَصرْتُ عَلَی قولٍ و بُلْسُنٍ و مَا لا يَعْذُبُ الألْسُنِ، فَأَمَّا الآنَ، فإذا صَارَ اِلَی مَنْ يَخدُمُني كبيرٌ، فَعِندْي و عِنْدَه هَيِّنٌ، فَمَا حَظِّي اِلاَّ اليَسيرُ المُتَعَيِّنُ و لَسْتُ اُريدُ في رِزقي زيادَةً و لا اُوْثِرُ لِسَقَمي عيادَةً و السَّلامُ» [18]
خُلاصَةُ ما وُرِد في الرسالَة الثانية التي كَتَبَها اَبوالعلاءِ المعري رَداً عَلی رسالَة داعِي الدُعاة:
1. تواضُع اَبي العلاءِ المعري.....2. عُذر اَبي العلاءِ....3. اِحساسُ الحيوانِ بالألم4. اِختلاف القدماءِ في موضوع اِحساس الحيوان...5. قضيه فاعلِ الشَرِّ...6. عِلَّةُ هجران اَبي العلاءِ اللحومَ...7. الرَأفَة بالحيوان...8. تقَاتلُ الانسان9. حياة اَبي العلاءِ10. فَتْكُ الحيوان بالاِنسان11. تقاتل الطيرِ12. خلقُ العَصَاةِ13. حَديثُ حَولَ فَقْرِ اَبي العلاءِ المعري
ـ الرسالَة الثالثَة: الرسالَة الثانيةُ مِنْ داعي الدُعاةِ و هي تتضمن اَسئلةُ وجّهها إلی اَبي العلاءِ المعري:
ففي هذه الرسالَة التي كَتَبها داعي الدُعاة اِلی المعري نَجِدُ باَنَّ داعي الدُعاةِ يُصِرُّ عَلَی السُؤال السابق الذي طرحَهُ في الرسالَة الأولی حَولَ قضية خَلْقِ النَبات و الحيوان و هُنَا طَرَحَه كموضوعٍ جديدٍ قَبْلَ اَن يجيبَ عَلی اَسئلَةِ اَبي العلاءِ مَعَ ذِكر مقدمَةٍ قصيرةٍ قبلَهُ قال فيها «حُوشي الشيخ ـ اَدامَ اللَّه سلامتَه ـ مِنْ اَن يكونَ مِمَّنْ قَطَفَ في مرضِ دينهِ و عَقلِه بِعِلَّتِهِ و اَجابَ دَعْوَة الداعي منه بالبيت الشائع عَنْه، ليَنال شَفَاءَ عِلَّتِهِ جواباً يُزيدُه اِلی غُلَّتِهِ غلةً اِذاً يكون كَمَا قالَ المتنبي:
اَظْمَتْني الدُنيا فَلَمَّا جِئتُهَا
مُسْتَسْقياً مَطَرَتْ عَلَیّ مَصَائِبا»
[19]
و مِنْ هُنَا بدأ داعي الدُعاة اِصرارَه عَلَی سُوالِهِ السابق حولَ موضوعِ عَدَمِ أَكْلِ أبي العَلاء اللَحْمِ.
«كان سؤالي لَه ـ حَرسَه اللَّه ـ في شيئءٍ بنفسِهِ في هجره ما يَسدُّ الجِسْمَ من اللَحْمِ الذي يُنْبِتُ اللحَم، فأجابَ بِمَا اَقولُ في جوابِهِ: اَهذه اَبناءُ الخ و هَلْ زادَ السّقيمَ بدَوائه هذا اِلاَّ سَقماً و الأعَمَی و الاَصمَّ في دينهِ وَ عَقْلِهِ بِما قالَ اِلاَّ عَمّی و صمَماً؟» [20]
«وَ اِنَّ الموجود من ترتيب الخلقَةِ اِن النباتَ مخلوقَةٌ للحيوان و الحيوان العجماء لمخلوقه لمنافِعِ الاِنسانِ و اِنَّه اِن اَنْكَرَ المُنْكِر اَنَ اللَّه تعالي سَمِحَ في ذِبْحِهَا و التناول من لحمِهَا: قُلْنَا له: اِنَّ الدليلَ عَلَی بُطلانِ قولِهِ مَا نراه مِن بعض اَجناس خليقته سباعاً و طيراً و كونه مخلوقاً لفَسْخِ اللَحْمِ و أكله و الاِنتفاع به و نَحْنُ اَفضل من السباع و جوارح الطيرِ و اَن الذي يمتنع اَن يمسه بسوءٍ مَا ينبغي اَنْ يكونَ اَرحم اَوْ أرأفِ به من الصانعِ سبحانَهُ» [21]
وَ بَعْدَه حولَ قضيةِ الخَيْر و الشرِ الّتي استدلَّ بِهَا اَبوالعلاءِ يُحاول داعي الدُعاة الرَدَ عَلَی اَبي العلاءِ مرةً أَخری وَ قَبْلَه اَتی باَجوبَة اَبي العلاءِ في رسالتِهِ السابقةِ.
[22]
ثُمَّ بَعدَ طرح موضوع الشرع و موقف كلِ من أبي العلاءِ و داعي الدعاة ينتقل داعي الدُعاة اِلَی رَد آخر مِن ردود اَبي العلاءِ في الرسالةِ السابقة حول موضوعِ اِيلام الحيوانِ الذي هو وسيلة الوصول اِلی اللحوم و كانَ هذا الموضوع «ايلام الحيوان» مِن اَهم دَواعي المعري عِند تركه اَكل اللحم قائلاً:
«اَمَّا القول: اِنَ اللحوم لاَ يُوصل اِليها اِلاَّ بايلام الحيوان و إتيانِهِ فَقَد سبق الجواب: لاَ يكونَنَّ الشيخُ أرْأفَ بِمَا مِنْ خالقِها، فَلَيْسَ يَخلو مِن كوِنِه عادلاً اَوْ جائراً. فَاِنْ كانَ عادلاً، فَانَّه سبحانَه يقبضُ اَرْواحَ الآكِل و المَأكولِ، جميعاً، و ذلك مُسَلَّمٌ لَه، و اِن كانَ جائراً، لَمْ ينبَغِ اَن نَرْجَع عَلی خالقِنَا بِعَدْلِنا وَ جوَرِه» [23]
ثُمَّ بَعْدَه يُكَرِّرُ داعي الدُعاة الحديثَ عَنْ موضوع الخير و الشرِ حيث يستدلُّ اَنَّ اللَّه كانَ يعلم هذه الأمورَ اَحسنُ مِنْ كُلِّ موجودٍ قائلاً «فكيف يجوز للاِنسانِ اَن يَدَّعَي اَمراً اَجازه اللَّه تَعالی» و قائلاً «فاَقولُ في الجواب: قيل: اِن اِنساناً ضاع لَه مصحفٌ فقيل لَه:
اِقرأَ: «والشمس و ضُحاحا» فانك تجده فقال: «و هذه السورَة اَيضاً مِنه...» و كذلك اَقول اِن هذا اَيضاً مِن ذاك و جميعه ظلمات، فاَينَ النورُ؟ و اِنَمَا قَصَدْناه للنورِ لنعرفَ اَنبَاءَ الأمور الصَحائح كَمَا قالَه» [24]
و كُلّما يسعی داعي الدُعاة اِليه في هذا القسم هُو الحديثُ عَن موضوعِ علم اللَّه بالخيرِ و الشرِ اَحسنُ مِنْ كُلِّ مخلوقاتِهِ.
و بَعْدَه ينتقل داعي الدُعاة اِلی مواضع اُخری مَعَ اِصراره عَلَی اَنْ يتحدثُ و يَسألُ اَباالعلاءِ حَول دليلِ صومِهِ الدهَر و اِمساكِهِ عَنِ المَآكِلِ اِلاَّ في العيدينِ و لزومه الاِمساكَ و اِقتناعِهِ بالنباتِ، قائلاً:
«اَمَّا قولُه: لَمَّا رأي اِختلاف الاَقوال و اَيْقَنَ بنفادِ وَ زوالٍ سَاَلَ رَبَّه اَن يَرْزُقَه صَومَ الدَهرِ و اقتنع بالنباتِ، فَمَا صَحَّ لِي اَنَّ الربَ الذي سَألَه، هُو الذي يُريدُ الشرَ وَحْدَهُ اَوْ الذي يُريدهما جميعاً و الصّوم فَرْعُ عَلی اَصلٍ، مِنْ شرعٍ يَأتي به رسولٌ و الرسولُ يتعلّق بمُرْسَلٍ و قِصَتُنا في الرُسلِ مُشْتَبِهَةٌ، يَبعْثَ رَسولاً يُريدُ اَن يُطاعَ اَمْ لا يُطاع؟ فاِنْ كانَ يُريدُ اَن يُطاعَ، فَهُو مغلوبٌ عَلیَ اِرادَتِهِ، لاَنَ مَنْ لاَ يطيعهُ اَكثرُ، و اِنْ كانَ يُريدُ ألاَّ يُطاعَ، فاِرسالُه اياهُ مُحالٌ و طَلبَه حُجَّة عَلَی الضُعَفاءِ لِيُعَذِّبَهُم، فاِن كانَ موضوعُ صَومِهِ عَلیَ هذا فَلَمْ يَفْعَل شيئاً و اِن كانَ عَلَی غيره مِمَّا هُو اَجْلی و اَوْضَح فَهُو الذي أطلُبه» [25]
ثُمَّ ينتقل داعي الدُعاة اِلی المواضيع الأخری مِنْ قبيل صوم اَبي العلاءِ ـ القول بالرجعة و كذلك موضوع سبّ الدهر و هي مواضيع كانَ قَدْ اَشارَ إليها اَبوالعلاءِ في ردِه عَلیَ رسالَةِ داعي الدُعاةِ.
و هُنا كَما يُلاحِظُ القارئ فإِنّ داعي الدُعاة لَمْ يتطرق اِلاَّ اِلی موضوعاتٍ ترتبط بالجانب الديني و الفِقهي اِلی حَدٍّ كبيرٍ ـ حيث إلی اَكل اللحم من عدمه يشكل هاجسه الأهم فيحاول بَشَتی الطُرُق إثباتَ شيئءٍ كانَ اَبوالعلاءِ اَدری الناس به، فاَبوالعلاءِ لَمْ يتخذُّ القرارَ بتحريم اَكلِ اللَحم بشَكْلٍ مُفاجي دون وَعيٍ مُسبقٍ بَلْ كان قرارُه نابعاً عَنْ تفكيرٍ طويلٍ اَدّی اِلی هذه النتيجة فاِصرارُ داعي الدُعاة عَلی العُدول عَنْ هذا القرار لَنْ يُجديَه نَفْعاً، لِاَن اَبا العلاءِ عقد العزم عليه و أثبت اَنَّه لَنْ يتنازل عَنْ قرارِه غيرَ اَنَّ اَباالعلاءِ لاَ يَردُّ عليه بالرفضِ بشكلٍ مباشرٍ و اِنَّمَا يَتَّخذِ اِلی الرفضِ و سائلَ مثل التواضع اَمامَ داعي الدُعاة و مداهنته و مراعاة و محاولة استمالتِه عَسَی اَن لا يتعرض لخطرٍ من ناحيته فداعي الدُعاة يمثل السُّلطة السياسية و الدينية في آنٍ واحدٍ و لَمْ يَكُنْ صَعْباً عليه اَن يتّهِمَه بالخروج عَنْ الملّه و اعتبار عمله مُنكراً من المُنكرات مِمَّا كانَ يُسهِّلُ عَلَی الجميع الهجوم عليه غيرَ اَنَّ تجارِبَ الدَهرِ عَلَّمتْ اَبا العلاءِ كَيْفَ يتعامل مَعَ اَمثَالِ داعي الدُعاة، فردوده عَلَی رسائل داعي الدُعاة لاَ تمثل علمه و أدبه فحسب، بَلْ تظهر للجميع مدی حنكته في مواجَهَةِ رَجلٍ يتّخذ من السياسَة و الدين سلاحاً لاِنكارِ صفات اَبي العلاءِ غير اَنَّ الغريبَ في الاَمرِ. أِن اَبا العلاءِ استطاعَ الخروج مِنْ هذه المشكلة التي سببّها داعي الدُعاة و بالأخری الاِحراج الذي سببّه له داعي الدعاة فيتعَجَّبُ الكثيرونَ مِنْ قُدْرَة اَبي العلاءِ عَلَی المواجَهَة و عَلی الصمُود عَلی التعبير عنْ قضايا في ديوان لزوم ما لا يَلزم كانَ اَبسطها كافياً لاِهدار دَمِهِ لاَمرٍ ماسَكَتَ الفُقَهاء و رجالُ الدين و أصحابُ السُلطةِ عَن اَبي العلاءِ و السؤال هُو اَلَيْسَ ذلك لحنكَة اَبي العلاءِ و تجاربه و ذكائِه في معرفَةِ الظروف و مُحاوَلة الخلاصِ مِن المَآزق الطارئة و المُسْتَدامَة؟
ـ خُلاصَة ما وُرِد في الرسالَة الثالثه أي الرسالَة الثانية من داعي الدعاة تشتمل علی اَسئلةٍ موجَهَة إلی أبي العَلاءِ حَول المضامين و القضايا التالية:
1. خَلَق اللنبات للحيوان و الحيوان للاِنسان2. قضية الخير و الشر3. اِيلام الحيوان4. علم اللَّه بالخير و الشَرِّ5. صوم اَبي العلاءِ و اِقتناعه بالنبات6. خلق اللَّه العَصاة7. سَبّ الدَهرِ8. فقر اَبي العَلاءِ
الرسالَة الرابِعة: الرسالَة الثانية مِنْ اَبي العَلاءِ رَدّاً عَلَی الرسالَة الثانية مِنْ داعي الدُعاة
في هذه الرسالَة التي كتبها المعري رَداً عَلَی الرسالَة الثانية مِن داعي الدُعاة مَعَ تبجيل داعي الدُعاة و اَيضاً اِعترافه بالعجز و طلبه الرُشدَ قائلاً:
«سيّدنا الرئيس الاَجل، المؤيد في الدين، عِصْمَة المؤمنين، هدیَ اللَّه الأممَ بهدايته و سلك بهم طريقَ الخير عَلیَ يَدِه، قَدْ بَدَأ معترف بجهله ـ المُقِرّ بحيرته و الداعي اِلی اللَّه سبحانه اَنْ يَرْزقَه مَا قَلَّ مِنْ رحمته في اَول ما خاطبه به ـ اَني ذَكَرَ اِعتقادَه في سَيّدنا الرَئيس الاجَل المؤيّد في الدين، ضَوَّأ اللَّه الظلمَ ببصيرته و اَذْهَبَ شكوكَ الاَفئدة برأيهِ وَ حلمته و مَا نفسه عليه من الذلّة و الحَقَرية عِنده و اَنَّه يحسبُها ساكتةً في بعضِ السوام، و عجبَ اَنّ مثلَه يطلبُ الرُشدَ مِمَّنْ لاَ رُشدَ عنِده، فيكونُ كالقمر الذي هُوَ دائبٌ في خدمِتهِ رَبّه ليلاً و نهاراً، و يطلب الحقيقة مِمَّنْ اَقْمَرَ بفلاةٍ يَرِد الماء عَلی الصائد وَ يصيبُ قلبَه بسَهْمٍ و قد ذكر ـ اَيَّدَ اللَّه الحقَ بحياته ـ بيتاً من اَبياتٍ عَلَی الحاءِ ذكر وليّهُ ليُعْلِمَ غيرَه ما هُوَ عليه مِنَ الاِجتهادِ في التديّن و ما حيلتُه و الاَبياتُ اَولُها حَولَ اَسرار اللَّه:
غَدَوْتَ مريضَ العقلِ و الدّيـن و فٱلقني لتِعلمَ اَنباءَ الأمـور الصَحَـائح
فـلا تَـأكلـن مَا اَخـرج الماءُ ظالماً و لا تَبْغِ قوتاً مِنْ غريض الذبائح
«و لاَ يقدرُ اَحَدٌ يَدفع اَن الحيوان البحري، لا يخرُجُ من الماءِ اِلاَّ و هُو كارهٌ و اِذ سُِئلَ المعقول عن ذلك لَمْ يقبَّح تركَ اَكلهُ اِن كان حلالاً، لاَن المتُدّينين لَمْ يَزالوا يتركونَ ما هُوَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلقٌ» [26]
ثُمَّ حَول موضوع رحمَة الحيوان قال هذا البيتَ و شرَحَهُ:
و اَبيضُ اَماتٍ اَرادَتْ صَريحَهُ لِأطفالها دُونَ الغواني الصَّرائح
«والمُراد بالاَبيض: اللبن و مشهورٌ اَنَّ الأمَّ اِذا ذُبِحَ ولَدُها وَجَدَتْ عليهِ وَجداً عظيماً و سهرت لذلك الليالي، وَ قَد اَخَذَ لحمه و تَوَفَّرَ عَلَی اَصحاب اُمه مَا كان يَرضَع مِنْ لبنها و اَيُّ ذنبٍ لِمَنْ تحرّجَ عَن ذبح السليل و لَمْ يَرْغَبْ في استعمالِ اللبن و لاَ يَزعم اَنَّه محرّمٌ و اِنَّمَا تركَه اِجتهاداً في التعبد و رحمةً للمذبوح و رَغبة اَن يُجازيَ عَنْ ذلك بغفران خالق السمَوات و الاَرضِ» [27]
ثُمَّ حَول قضية ظلم الطير مشيراً اِلی بعض كلام النبي (ص):
فَلا تفجعَنَّ الطيرَ و هِيَ غوافل بِمَا وضَعَتْ فالظلمُ شَرُّ القبائحُ
و قد نهي النبي صلّی اللَّه عليه و آله و سلّم عَن صيد الليل و ذلك اَحد القولين في قوله عليه الصلاة و السّلام «اَقِرّوا الطيَر في وُ كُناتِها، فاِذا سَمَع مَنْ لَهُ اَدنی حِسٍّ هذا القولَ، فلا لومَ اِليه اِذا طلب التقرَّب اِلی رَبِّ السمَوات و الاَرضينِ، باَن يجَعل صيدَ الحِلِّ كصيد الحرم و اِن كانَ ذلك لَيسْ بمحظورٍ.
ثُمَّ اَشارَ اَبوالعلاءِ اِلی تقشفِ علي (ع) و تقشف المجتهدين قائلاً:
و رُوي عَنْ علي عليه السلام حكايَةٌ معناها: اَنَّه كان لَه دقيقُ شعيرٍ في وِعاءِ يختِمُ عَليه، فاِذا كانَ صائماً لَمْ يختم عَلَی شييءٍ منِ ذلك الدقيق و قد كان عليه السلامُ يَصِلُ اِلی غِلَّةٍ كثيرةٍ ولكنَّه كانَ يتصدَّقُ بِهَا، و يقتنعُ اَشَدَّ اِقتناعٍ و رُويَ عَنْ بعضِ اَهلِ العلمِ اَنَّهُ قال في بعضِ خُطبَه:
اِنَّ غلتَه تبلغُ في السَنَهِ خمسينَ اَلفَ دينارٍ و هذا يَدُلُ علی اَنَّ الاَنبياءِ و المجتهدين مِنَ الأئمة يقصرون نفوسهم و يُؤثرونَ بِمَا يفضُلُ مِنهم اَهْلَ الجاحَةِ.» ثُمَّ ينقِلُ اَبوالعلاءِ اِلی مرضِهِ و ضعفه اللذينِ اُصيبَ بِهما:
«و العبد الضعيف العاجز قَدْ اِفتقر اِلی مثلِ ذلك و لَوْ مَثَلَ بحضرتِهِ السّامية لعَلِمَ اَنَّه لَمْ يَبْقَ فيه بقيةٌ لاَنْ يُسْألْ و لاَ اَنْ يجيبَ، لاَن اَعضاءَه مُتخاذلَةٌ و قَدْ عجز عَنِ القيامِ في الصَّلَاةِ، فاِنِّما يُصَلي قاعداً و اللَّه المسُتعان و كيفَ لَه اَن يكونَ يَصِلُ اِلاَّ اَنْ يَدِبَّ عَلیَ عُكَّاذٍ» [28]
ثُمَّ يُبدي المعري تواضُعَه مرةً اُخری حيث يتعجب مِن اِسترشادِ داعي الدُعاةِ به قائلاً:
«فَمن اِسترشد بمثل العبد الضعيف العاجز، مثلُه مَثَلُ مَنْ طَلَبَ في القَتَادَةِ ثَمَرَ النخلة و اِنما حَمَل سائلهُ عَلَی ذلك حُسْنُ الظّنِّ الذي هُو دليلٌ عَلی كرمِ الطبعِ و شرفِ النفسِ و طهارَة المَوْلدِ و خالصِ الخِيم» [29]
وَ بَعْدَه يُعالج المعري في رسالتِهِ موضوع توسيع الرزق الذي اَشارَ اِليه داعي الدُعاة:
«و اَمَّا مَا ذكره من المُكاتبَةِ في توسيع الرزقِ عَلَیَّ، فيدُلَّ عَلَی اِفضالٍ وَرِثَه عَنْ اَبٍ فاَبٍ، وَ جَّدٍ في اِثرَ جَدٍّ، حَتی يَصِلُ النسب اِلی التُرابِ فالعبد الضعيف العاجز مَا لَه رَغْبَةٌ في التوسّع و مُعَاوَدَةِ الأطعمَة و تركُها صارَ لَهُ طبعاً ثانياً و اِنَّه ما أكَلَ شيئاً مَن حيوانٍ خمساً و اَربعين سَنَةً:
و الشيخ لاَ يتركُ اَخلاقَه حَتی يُوارَي في ثَرَی رَمْسِهِ».
و بَعْدَه يتحدثُّ المعري مخاطباً امير حلب في عهدِهِ داعياً لَه قائلاً:
«وَ قَد عُلِمَ اَنَّ السيد الاَجل، تاجَ الأمراءِ، فخرُ المُلك عُمْدَةَ الاِمامَة و عُدّة الدولَة و مَجْدَهَا، ذا الفخرينِ، نصيف اَولادِ سامٍ وَحَامٍ وَ يافِثَ ووُدُّ العبد الضعيف العاجز، لَوْ اَنَ قلعَة الحلب و جميع جبال الشامِ جعلها اللَّه ذهباً ليُنْفِقَه تاجُ الأمراءِ، نصير الدولَة النبويَةِ، عَلَی اِمامها السلامُ و كَذلك عَلَی الاَئمة الطاهرين مِنْ آبائه مِن غير اَن يصيرَ اِلی العبد الضعيف مِنْ ذلك القيراط» [30]
ثُمَّ يتحدَثُ المعري عَنْ زُهده و استخدامه السجعَ محتجاً في ذلك بفواصل القرآن ثُمَّ اِلی السَجعِ عندِ الحمائم و ثُمَّ يعالج اِلی موضوع كراهيةِ الرسول للسجع و يمضی في رسالته بالتواضع اَمامَ داعي الدُعاة مادحاً اِياه؛
«وَ هُوَ يستحي مِن حضرةِ تاج الأمراءِ، اَن ينظُرَ اِليه بعين مَنْ رَغِبَ في العاجلَة بعدَ ما ذَهَبَ و هُوَ رَضيُّ اَنْ يلقيَ اللَّه جَلَّتْ قُدرته و هُو لا يُطالِبُ اِلاَّ بِمَا فَعَلَ مِنْ اِجتناب اللحومِ فاِن وَصَلَ اِلی هذه الرُتبه فقد سَعِدَ ثُمَّ اِعتذر عَنِ السجع بَاخبارٍ اَوْردها، اِحتجاجاتٍ ذكرها ـ و سَيدنا الرئيس الاَجل المُؤيِّدُ في الدين لاَ زالَتْ حُجتُه باهِرَةً و دولته عاليةً كَمَا قالَ ثعلبَةُ بنْ صُعير:
و لَرُبَّ قومٍ ظالمينَ ذوِي شَذيًتَغِلي صدورُهم بِهْتِرِ هاتِـرِلاقيـتهُم مِنيِّ بِمَا قَـدْ سَاءَهُمْوَ خَسَأتُ باطلَهُمْ بحَقٍ ظاهرٍ
[31]
و حَوْلَ فواصل القرآن، شرح باَن الفواصل التي جاءَت في القرآنِ عَلَی ضروبٍ:
«منها هُو مُتباعدٌ لاَيجري مجری السجع و فيه ما يجري مجری المسجوعات و إذا جاءَت الكلماتُ مختلفاتُ الإعراب ـ بعضها موضوعٌ و بعضها منصوبٌ و بعضها مخفوضٌ ـ فمن الناس مَنْ يری ذلك سجعاً و منهم من لاَ يَدخُلهُ باب المسجوع فاِذا اِختلف اَوائلَ الكلماتِ في الضمُ الفتح و الكسرِ فيه اِختلافٌ كَمَا اِختلافهم في اِعراب» و حَول قضية سجع الحمائم قال المعري: «لَو علمت الحمائم الساجعةُ اَنَّ اللَّه سبحانه اَوْ نبيه صلي اللَّه عليه و آله يكره سجعها عَلی الغصون لخرست عنه و تبرأتْ مِنه و كذلك النوق الموصوفه باَنَّها ساجعاتٌ» [32]
ثُمَّ ينتقل اِلی موضوع كراهية الرسول السجعَ قائلاً:
«و اِنما كرهه ـ عليه السلام ـ لاَنه قد كثر في كلام الكُهان فنهي عنه غيرمحرم لَه و قَدْ رُويَ عنه كلام مسجوعٌ في حديث جريد بن عبداللَّه البجلي منه قوله ـ لَمَّا سَألَه عَنِ المَرعی و الماءِ ـ «خير الماءِ الشبم و خير المرعی السلم، اِذا سقط صارَ درينا و اِذ خبط جُعِلَ لجينا.» [33]
و في ختامِ رسالتِهِ يظهر المعري متواضعاً اَمامَ داعي الدُعاة مادحاً اِياهُ:
«و سيدنا الرئيس الاَجل المؤيد في الدين ـ لا زالت حجته باهرة و دولتُه عالية ـ و لو ناظر ارسطاطيس لَجاز اَنْ يُفْحِمَه، اَوْ اَفلاطونَ لنبذ حُججُهَ خلَفْهَ، واللَّه يُجمَّلُ بحياتِهِ الشريعةَ، و ينصرُ بحُججِهِ المِلَّهِ و حسبي اللَّه و نِعْمَ الوكيل.» [34]
خُلاصَة ما ورد في هذه الرسالَة التي كتبها المعري رَداً عَلَی رسالَةِ داعي الدُعاة
1. طلب اَبي العلاءِ الرُشدَ...2. شَرَحُ اَبياتِ القصيدة الحائية لداعي الدُعاة...3. إشارتهُ اِلی اَسرار اللَّه....4. كراهَةُ السمك للخروج مِن الماءِ...5. رَحْمَةُ الحيوان...6. ظلمُ الطيرِ...7. تقشف علي (ع)8. تقشف المجتهدين9. مَرض اَبي العلاءِ و ضعفه10. اِسترشاد داعي الدُعاة باَبي العلاءِ11. توسيع رزقِ اَبي العلاءِ12. زُهد اَبي العلاءِ13. سجع اَبي العلاءِ14. فواصل القرآن15. سجع الحَمائم16. كراهية الرسول (ص) للسجعِ
الرسالَة الخامِسَةُ: الرسالة الثالثةُ مِن داعي الدُعاة اِلی اَبي العلاءِ و فيما الاِعترافُ بفضلِ اَبي العلاءِ الّتي لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهَا اَبوالعلاءِ المعري
فيِ هذه الرسالةِ يعترف داعي الدُعاةِ بفضل اَبي العلاء و حكمته حيث يقول في بدايَةِ:
مَا فاتَحتُ الشيخَ ـ اَحْسَنَ اللَّه توفيقَه ـ بالقولِ، اِلاَّ مُفَاتَحَة مَتَنَاكِرٍ عَلَيْهِ فيه مُوثِر لان يُخفي مِنْ اَيْنَ جاءَ السؤال، فيكونَ الجوابُ عنه باستدلالٍ و رَفضٍ حِشمَةٍ، وَ حَذفِ تكلّفٍ للخَطابِ بسيِّدنا و الرئيسُ، وَ مَا يجري هذا المجری اِذْ كانَ حُكْمُ ما يتجاري فيه، مُوجباً ألاّ يتخلَّلهُ شيئيٌ مِنْ زَخارفِ الدُنيا و لاَني أَعتقد اَنَّ سيديّ بالحقيقه مَنْ تُسْتَقَلُّ دونَ يَده يَدايَ صَدّاً مَنْهُ للدُنيا، اَوْ تَمتارُ نفسي مِن نفسِهُ اِستفادةً مِنْ مَعَالِم الأخری، فَمَا اَدْري كَيْفَ اِنكشفت الحالُ حتّی صَارَ الشيخ ـ اَدام اللَّه تَأييدَه ـ يُخاطِبُني بسيِّدنا و الرِّئيسِ، وَ لَسْتُ مُفضلاًّ عليه في دُنيا و لاَ دينٍ بَلْ شادَ راحلتي اليه الاستفادَةُ، اِنْ وَرَدَت مَوردَهَا، اَوْ صادَفَتْ نهراً اَوْ عَلالتها، قابَلْتُهَا بالشُكرِ لنعمَتهِ و الاِسجالِ علی نفسي بأستاذيَّته. [35]
ثُمَّ يشيرُ داعي الدُعاةُ اِلی معرفتِهِ التّامَة بالناسِ مُقَسماً اِيّاهُم اِلی قسمينِ قائلاً:
«و بَعْدُ ـ فَإني اُعلِمُه ـ اَدام اللَّه سَلامتَه ـ اَني شققت جيب الأرضِ منِ اَقصیَ دياري اِلیَّ مصر وَ شاهَدْتُ الناسَ بَيْنَ رَجلينِ اِمَّا مُنتحلَ لشريعةٍ صَبَاً اِليها و لَهِج بها اِلی الحد الّذي، اِن قيل لَه مِنْ اَخبارِ: شرعِهِ: اِنّ فيلاً طارَ، اَوْ جملاً باضَ، لَمَا قابَلَهُ اِلاَّ بالقبول و التصديق و لكانَ يُكفِّرُ مَنْ يَرَيَ غَيْرَ رَأيِهِ فيه و يُسفّهُه وَ يلْعَنُه و العقلُ عند مَنْ هذه سبيلهُ في مهواةٍ و في مضيعَةٍ فَلَيَس يَكادُ ينبعثُ اَنَ الشريعةَ التّي هُوَ مُنْتَحِلُهَا. لَمْ يُطَوَّقْ طوقَهَا و لَمْ يُسَوَّر سِوارَهَا، اِلاَّ بَعْدَ بلوغ نور العقلِ مِنهُ، فلكيف يُصحُّ تَوَلِّيهِ اَوَّلاً و عَزلُهُ آخِراً؟ [36]
ثُمَّ يتحدث داعي الدعاة عن كيفيةِ معرفتِهِ باَبي العلاءِ و يُشيرُ اِلی اَقوالِ الناسِ حوله أي في أبي العلاءِ:
«فَلَمَّا رَمَتْ بِي المرائي اِلی الشامِ و سمعتُ اَنَّ الشيخَ ـ وفَّقَه اللَّه ـ يَفْضُلُ في الاَدبِ و العلمِ و قَدْ اِتَّفقَتْ عَلَيه الأقاويلُ و وَضَعَ به البرهانُ و الدليلُ و رأيتُ الناسَ فيما يتعلَّقَ بدينهِ مختلفين و في آمِرِه مُبتَلينَ فَكُلُّ يَذْهَبُ فيه مذهباً. [37]
وَ حَولَ اَقوالِ الناس فيه: «و حضرتُ مجلساً جليلاً أجري فيه ذكرُه، فقالَ الحاضرون فيه غَثّاً و سميناً فَحفِظْتُه في الغيبِ، و قُلْتُ: اِنَّ المعلومَ مِنْ صَلابتِهِ في زُهدِهِ يَحميه من الظَّنَةِ و الريب و قامَ في نفس اَنَّ عَنْدَهُ مِنْ حَقائِق اللَّه سِرّاً و قَدْ اَسبَلَ عَليه مِن البقيةِ سِتْراً و اَمراً يُميَّزُ به عنْ قومٍ يُكَفِّر، بَعْضُهُم بَعْضاً. [38]
و بَعْدَ ذلك يشيرُ داعي الدُعاةِ اِلی القضايا التي طُرِحت في الرسائل المتبادلَهِ بينَهُما واحداً واحداً مِنْ مثل:
أَ: اِمتناع اَبي العلاءِ مِنْ قبولِ المعونَةِ قائلاً:
«فقطَعْتُ الحُجَةَ في هذا الباب اَيضاً وَ عَيَّنْتُ لَه علی جمةٍ كريمةٍ مِن الذينَ لاَيُتبعونَ مَا اَنفقوا مَنّاً و لاَ اَذيًّ. مَا يقومُ بقدَرِ كفايتهِ مِنْ اَطيبِ مَا يَأكلونَ، وَ اَزْكی مَا في البيوتِ يُدَخّرونَ فَتَحَافَتْ نَفسُه ـ وَقاها اللَّه السوءَ ـ عَنْ هذا الباب أيضاً و كَتَبَ في الجواب الثاني بأَنَّه لا يُؤثِرُ ذلِكَ و لا يَرْعَبُ فيه، و لاَ يخرقُ عادتهُ المُسَتمرَةَ في التركِ.» [39]
ثُمَّ يُشيرُ اِلی قضيةِ امتناعِهِ طلب الرُشدِ قائلاً:
«و أبتدأَ يقولُ: اِني طَلَبْتُ الرُشْدَ مِنْ لا رُشدَ عندهُ و اِنَّ البيتُ الذي قالَه مِمَّا تَعَلَّقْتُ بِهِ و جَعَلتُهُ بِحجَّةً اِلی اِستقراءِ طريقته و مَذْهبِه، اِنَّما اَرادَ الاِعلامَ باجتهادِه في التديّن وَ مَا حيلتُه في الآيةِ المُنْزَلَّةِ (مَنْ يَهْدِ اللَّه فَهُو المُهتدِ و مَنْ يُضْللِ فَلَنْ تَجدَ لَه ولياً مُرشِداً). فجمع بَيْنَ المُتضادينِ في كلمةٍ واحدةٍ لانَّه اِنْ كانَتْ الآيَةُ حَقّاً، كانَ الاِجتهادُ باطلاً. وَ قالَ اِنَّ للهِ سبحانَه اَسراراً لا يقفُ عليها اِلاَّ الأولياءُ، فَنحنُ علی ذلك السِر ندورُ وَ علی باب مَنْ هُوَ عِنْدَهُ نطوف، فاِن قُلْنا: اِنَّه ـ حَرسَهَ اللَّه) ـ مِنْ اَصحابه، بَدعوی صحّة في دينِه و عقلِهِ و مَرَضِ الناسِ علی موجب قَوْلِهِ قالَ: لا رُشدَ عِندي فنَظَمُه في هذا المعني يُناقِضُ نَثَرَهُ و نَثْرَهُ يُخالفِ نَظْمَه، فَكَيْفَ الحيلَة؟ [40]
ثُمَّ حَولَ قضية صِحَةِ الدينِ و العقل قال: اِن البيتَ المقولَ:
غَدَوْتُ مريضَ العقلِ و الدين فالقني
لتعَلمَ أنباءَ العقولِ الصَحائحِ
يُوَدّي معناه البيت الثاني:
فَلا تَأكُلَنْ مَا اَخْرَجَ الماءُ ظالماً وَ لا تَبغْ قوتاً مِنْ غريضِ الندبائحِ فكَانَّ مَرضَ الدين و العقلِ منِ جِهَةِ اَكْلِ اللُحوِم و شُربِ اللَبانِ وَ تَناوُلِ العسلِ، فَمَنْ تركَ هذه المَطَاعم كانَ صحيحاً دينهُ و عَقلُهُ وَ هَوَ يَعْلَم اَنَّ صِحَةَ الاَديانِ و العقول لاتقومُ بذلك و لا يجوزُ اَن يكون هذا البيت الثاني ناسخاً لِحُكم الاَول، فيكونُ محصولُ دَعواه في فقر الناسِ. اِلی اَنْ يصَحَّ دينُهم و عقلُهم و هُوَ اَنْ يقولُ لَهُم: «لا تأكلوا اللَحْمَ و اللَبَنَ!!!» [41].
كَمَا يُعالجُ قضية كراهية السمك الخروج مِنَ الماءِ في رسائله السابقة قائلاً: اَمَّا قولُه اِن الحيوانَ البحري كارهٌ اَنْ يَخْرجِ اِلی البر و اِنَّه لَيْسَ يَقبح في العقولِ ترك اكلِه و اِنْ كانَ حَلالاً لانَّ المتدينين لَمْ يَزالوا يتركونَ مَا لَهُمْ طلقاً فَما مِن حيوانٍ بحريٍ و لاَ بريٍّ، هُو اَجَلُّ مِنْ هذا الاِنسان الحَسِّي العاقلِ وَ هُوَ كارهٌ للمَوتِ فَيموتُ و كارهٌ لانْ يَأكله شيءٌ و الدّودُ يأكلُه في قَبرهِ فاِن كانَ ذلك صادراً عَنْ موضعِ حكمَةٍ كانَ ما ذكره من الحيوانِ البرِّي و البحري جارياً في مضمارِ هذا مَثلاً بِمثلِ و اِن كانَ معدولاً به عَنْ وَجْهِ الحكمةِ كانَ مُحالاً اَنْ يكون صانعي سَفيهاً، وَ اَكون و اَكونَ ـ اَنا مصنوعُه ـ حكيماً. ثُمَّ يُشير اِلی ما عالج به اَبوالعلاءِ في رسالتِهِ السابقة رَداً علی داعي الدُعاةِ وَ هِيَ قضايا هامَةٌ مِنْ مثل زُهدِ النبيُ (ص) و تعبدُه و تركه الحلال و اَيضاً تقشفِ علي (ع) قائلاً:
ـ «اَمَّا قَولُه: اِنَّ النبيَ صَليَّ اللَّه عليه و آله و سلّم، صَلَّي اِلی اَنْ تقرَّحتْ قَدَماهُ فقيل لَه فيه، فقالَ: اَفلا اُحِبُّ اَن اَكونَ عبداً شكوراً؟ فَمَا هذا مِمَّا نَحْنُ عليه في شيئيٍ و الاِنسانُ لَه اَن يُصلَيِّ مِن الصَّلواتِ، في الاوقات الّتي تجوزُ فيها الصلاة عَلیَّ اَلاَّ يَزيدَ في الفرائضِ و لا يَنقْصَ مِنها و هذا الكلامُ شرعيٌ و كانْتْ القضيةُ للتَكلُّمِ علی العقليات. [42]
و اَمَّا قولُه: «اِن النبي عليه الصلاةُ السَّلَامُ، حَرَّم صَيْدَ الحَرَم و اِنَّ لغيرِهِ اَن يُحرّم صَيْدَ الحِلِّ تَقَرُّباً اِلی اللَّه سُبحانَه، فَلَيْسَ لاحَدٍ اَنْ يُحِّللَ اَوْ يحرِّمَ غَيْرُه». كَمَا نري اَن قوله حول تقشف عَلي (ع): «اِن علياً عليه السلامُ، لَمَّا قُدِّمَ اِلَيْهِ الخبيصُ سَأَل: هَلْ أكُلُ النَبيُّ صَلَّي اللَّه عليه و سَلَّمَ مِنْهُ؟
فَلَمَّا قالوا: لا، رَفَعَه و لَمْ يَأكُلْه، فهذِهِ الحُجَّهُ عَليه لاَ لَهُ، فَاِنَّ الناسَ مجمعونَ علی اَن النبي صَلّي اللَّه عليه و سَلَّم، لَمْ يُفارقِ اَكْلَ اللَّحمِ وَ هُو يَحْجُرُه دَهْرَه وَ ذلك بالضِّدِ سَواءٌ، و لَوْ اَنَّهُ ـ حَرَسه اللَّهُ ـ لَمْ يَسْتَظْهِرْ عَلیَّ بالشريعةِ وَ لَمْ يَتجاوَزْ نُصْبَةَ العقلِ، لَصُنْتُه عَنْ هذا الجواب الّذي عَسی اَن يستغِلً يسرَّهُ و يَعَزُّ عَلیَّ ذلك. [43]
ثُمَّ يشير داعي الدعاة إلی شكوی اَبي العلاءِ مِن الضعفِ قائلاً:
«و أمّا ما شَكا مِنْ ضَعْفِهِ، وَ قصورِ حَركته و اَنَّه لَمْ يَبْقَ فيه بقيَّهٌ لان يُسْأَلَ و لاَ اَنْ يجيبَ، فَمَا هَوَ ـ حَرسَهُ اللَّه ـ علی عِلاتِهِ مِنَ الضعفِ و القوةِ، اِلاَّ مِنْ محاسنِ الزمانِ و مِمَّنْ سارَتْ بذكرِ فضلهُ الرُكبانُ، اِلاَّ اَنَّهُ علی عُدْوانِ الدَهرِ عَليه، عَدا علی نفسِهِ، بحرمانِها مَلاَذَّ رُيناها فاِن وَثِقَتْ نَفْسُه بَملاًذَّ تَعْتَاضُ عَنْها، مِمَّا هُوَ خيْرٌ و اَلقی مِنها، فَمَا خَسِرَتْ صَفقْتَهُ وَ قامَ مصداق قولِهِ بالبيتِ المُقدمَّ ذكرهُ و اِن كانَ يُؤسَمُ بِميْسَمِ الشُحِّ بِمَنْعِ المُنْتَجعين وَ رَدَّ السائلينَ.
و اِنْ كانَ شَقَّ علی نفسهِ مِنْ غَيْرِ بصيرةٍ كَمَا يَدَّعيه الآنَ خَوْضاً مَعَ الخائضينَ، و تحيُّراً مَعَ اَمثالِنا مِنَ المتحيّرينَ فَقَدْ اَضاعَهَا وَ جَنی عَلَيْهَا اِدَّعَي في البيتِ المُقدَّمِ ذكرُه مَا لا بُرهانُ لَه و الغرضُ في السؤالُ و الجواب الفائدةُ، و اِذا عُدِمَتْ فقد خَفَّفَ اللَّهُ عَنْه اَن يتكَلَّفَ جواباً. [44]
و اخيراً بَعْدَ طرحِهِ هذه القضايا تاماً هُوَ ينتهي رسالَتَهُ مع اِعتذارِه اَبا العلاءِ عَمَّا قالَه في كُلِّ رسائلِهِ قائلاً:
«وَ قَبْلُ و بَعْدُ، فَاَنا اَعتذرُ عَن سِرٍّ لَه ـ اَدامَ اللَّه حراستَه ـ اَذَعتُه، وَ زمانٍ مسِنْه بالقراءةِ و الاِجابَةِ شَغَلْتُه، لاننَّي مِنْ حَيثُ مَا نَفعَته ضَرَرْتُه و اللَّه التعالی يَعْلَمُ، اَنَّي مَا قَصَدتُ به غَيْرَ الاِستفادَةِ مِنْ عِلمِه و الاغترافِ مِنْ بَحره و السلام...» [45]
وَ بَعْدَ اَنْ فَتَّشنا في كُلِّ المراجعِ و المصادر حولَ رسائِل اَبي العلاءِ ما وَجَدْنا شيئاً يُشيرُ اِلی رَدِّ اَبي العلاءِ علی هذه الرسالَة و يبدو اَنَّ اَبا العلاءِ لَمْ يَرُدَّ عَلیَ هذه الرسالَةِ و بذلك تنتهي المراسلات بينَه و بَيْنَ داعي الدُعاة، فاِذا اَرَدنا اِختصارَ مَا وَرِد في هذه الرسالَة اَمكنَنا اَنْ نُسجِّلَ العناوين التاليةَ لهذه الرسالَة:
1. مَعرفَة داعي الدُعاة لِلناس...2. سماع داعي الدُعاة باَبي العلاءِ...3. اَقوال الناس في اَبي العلاءِ...4. الكلام عن البيت: غَدَوْتُ مريض الدين...5. جَوابُ اَبي العلاءِ...6. ذكر اَبي العلاءِ لعجزه و ضَعْفِه...7. المُناقَشَة في اَكْلِ اللحمِ....8. طلب الرُشدِ...9. كراهية السمك الخروج مِنَ الماءِ...10. تركُ الحلال....11. شكوی اَبي العلاءِ مِنَ الضَعْفِ...12. اعتذار داعيُ الدُعاةِ مِنْ اَبي العلاءِ المعريواِعترافه بِفَضْلِ اَبي العلاءِ...
كانت هذه العجالة محاولة لمعرفة جانب من أفكار أبي العلاء المعري في بعض القضايا من خلال الرسائل التي تمّ تبادلها بينه و بين داعي الدعاة الفاطمي و من خلال ما مرّ تتضح الأمور التالية:
- بيّن رسائل داعي الدعاة الاتجاه الديني السياسي السائد في ذلك العصر حيث كان رجال الدين يخدمون الحكومات الأمر الذي كان يعطيهم صلاحيات واسعة ممّا يتطلب بحثاً مستقلاً.
- تبين رسائل أبي العلاء جانباً من نثره في خطوطه العريضة و ذلك مجال أدبي يستطيع الباحث الأدبي تناوله في بحوث خاصة.
- كانت محاولات داعي الدعاة لإقناع المعري بترك تحريم أكل اللحم و ما تنتجه الحيوانات تهدف إلی إرشاد أبي العلاءِ من قبل داعي الدعاة ظناً منه أنه في مواجهة إنسان غير واعٍ لما يقوم به.
- كانت إجابات أبي العلاءِ تدل علی حنكة واسعة و عمق و تدبير عنده مكّنته من تجنب أي مشاكل تترتب علی عدم الانصياع لطلب داعي الدعاة الفاطمي.
- كانت مَحاوِر رسائل أبي العلاء تتركز علی أمور منها:
– تواضع اَبي العلاءِ
– اِحساسُ الحيوانِ بالألم
– عِلةُ هجران اَبي العلاءِ اللحومَ
– الرأفَة بالحيوان
– حياة اَبي العلاءِ
– طلب اَبي العلاءِ الرُشدَ
– شرحُ اَبيات القصيدة الحائية
– رحمَة الحيوان
– ظلمُ الطيرِ
– توسيع رزقِ اَبي العلاءِ
– سجع اَبي العلاءِ
– سجع الحَمائمِ - كانت محاور رسائل داعي الدعاة في الغالب تتركز علی محاور أهمها:
– مدح اَبي العلاءِ و ذكر فضائله الكثيرة
– وجوب التعلق بالعلم النافع
– عِلّة تحريم اَبي العلاءِ اللحومَ و اللاكبانَ
– خلق النبات للحيوان و الحيوان للاِنسان
– قضية الخير و الشرِ
– خلق اللَّه العصاة
– معرفة داعي الدُعاة لِلناسِ
– سماع داعي الدُعاة باَبي العلاءِ
– المُنَاقَشَةُ في اَكلِ اللحم
– اِعتذارُ داعي الدُعاة مِن اَبي العلاءِ المعري و اِعترافه بفضلِ اَبي العلاءِ
مراجع لِلاِستزادَة:
- اتحافُ الفُضَلاءِ برسائل اَبي العلاءِ المعري، دراسةٌ و اِعدادٌ: محمد عبدالحكيم القاضي، محمد عبدالرزاق عرفات ـ دارُ الحديث ـ القاهرة ـ الطبعة الاولي 1410 هـ ـ 1989م.
- معجمُ الأدباءِ اَوْ اِرشادُ الأريب اِلی معرفَةِ الاَديبِ ـ تصنيف: اَبي عبداللَّه ياقوت بن عبداللَّه الرومي الحموي ـ المجلد الاول ـ دارُ الكتب العلمية بيروت ـ لبنان ـ الطبعة الاولی 1411 هـ ـ 1991م.
- ديوانُ البُحتري ـ دار صادر ـ دار بيروت للطباعَة و النشر 1916 م.
- تتمة يتيمة الدهر في محاسن اَهل المصر، ابومنصور عبدالملك النيسابوري شرح و تحقيق د. مفيد محمد قميحه، دار الكتب العلمية ـ بيروت ط الاولی 1983 م.
- الجامع في اَخبار اَبي العلاءِ المعري و آثاره ـ محمد سليم الجندي ـ تعليق و اِشراف عبدالهادي هاشم، دار صادر ـ بيروت ـ الطبعة الثانية 1413 هـ 1992 م.
- تعريفُ القدماءِ باَبي العلاءِ ـ طه حسين و لجنة من الأدباءِ ـ مكتبة دار الكتب المصريه. 1944 م.
- تجديدُ ذكری اَبي العلاءِ المعري ـ طه حسين مطبعة دارالمعارف بمصر ـ ط التاسعة. بدون تاريخ.
- رسائل ابي العلاء المعري، تحقيق و شرح و ضبط: حسان الطيّبي، دارالمعرفة ـ بيروت ـ لبنان الطبعة الاولی 1426 هـ . 2005 م.
الكاتبة: خريجة جامعة آزاد الإسلامية في کرج
مشاركة منتدى
16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023, 05:16, بقلم parviz payekar
مرحبا بك كان لدي سؤال، أشكركم على الإجابة. هل كان لأبو العلاء رسالة وحديث حول تحريم الحيوانات مع غير الداعي؟
پرویز پایکار من ایران