الثلاثاء ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم لؤي أحمد كمال عبد الغفار عثمان

باسل وحلم الحرية

القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥

وَمَنْ يتهيب صُعُودَ الجِبَـالِ
يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر

كان باسل شابًا في الثالثة والعشرين من عمره، يعيش في قرية صغيرة تحيط بها تلال خضراء مورقة، كأنها درع طبيعي يحرس ذكريات الأجداد وتاريخهم العريق. كانت التلال تمتد بكل فخر، تحمل في طياتها أسرار الماضي، وتقاوم بصمت عوامل الزمن والطبيعة. أما القرية نفسها، فكانت تحكي قصة شعب متجذر في أرضه، متمسك بترابه، رغم كل الصعوبات التي واجهته. كل صباح، كانت الشمس تشرق بأشعتها الذهبية على المنازل الطينية المتواضعة، تلك البيوت التي بناها الأجداد بأيديهم، لكن تلك الأشعة الدافئة لم تكن كافية لتبديد ظلال الاحتلال القاتمة التي خيمت على المكان منذ سنوات طويلة. الحواجز العسكرية، تلك الحدود الحديدية الباردة، قطعت أوصال القرية كما تقطع السكين الجسد، ففصلت بين العائلات، وجعلت التنقل بين الأحياء أمرًا شبه مستحيل. المداهمات الليلية، التي كانت تأتي كاللصوص في الظلام، حولت صفير الرصاص إلى صوت مألوف يتردد في الأذهان، وأصبحت حياة السكان مزيجًا من الخوف الدائم والقلق المستمر الذي لا يفارقهم.

في أقصى القرية، حيث تلتقي التلال بالسماء في مشهد يوحي بالأمل البعيد، كان يقف منزل باسل، متحديًا الزمن بجدرانه المتآكلة وأساساته العنيدة. كان المنزل بسيطًا، لكنه كان ملاذًا لعائلة صغيرة تعيش فيه. عاش باسل مع أمه فاطمة، امرأة في منتصف العمر أنهكها الانتظار الطويل والقلق على أبنائها، وأخته الصغيرة مريم، التي لم تعرف من الطفولة سوى مشاهد الخوف والحرمان. كان باسل طويل القامة، نحيف الجسد بسبب العمل الشاق وسوء التغذية أحيانًا، لكن عينيه كانتا تشعان بإرادة لا تنكسر، وكأن فيهما شعلة حياة ترفض الخمود. كل صباح، كان يخرج إلى الحقل تحت شمس حارقة لا ترحم، يحمل معوله وأدواته البسيطة، ويعمل بجد ليحصد ما تجود به الأرض. وفي كل لحظة عمل، كان يستذكر كلمات والده الراحل التي ظلت محفورة في قلبه: "الأرض لا تُهزم، حتى لو غاب عنها أصحابها". تلك الكلمات كانت بمثابة وصية، دافعًا له ليستمر في التمسك بأرضه، مهما كلفه ذلك من جهد أو تضحية.

وذات صباح مشمس، بينما كان باسل يحصد القمح في الحقل، متأملاً السنابل التي تنحني تحت وطأة الريح، سمع صراخًا يأتي من بعيد في قلب القرية. لم يتردد لحظة، ألقى أدواته وأسرع نحو مصدر الصوت، قلبه ينبض بقوة، يخشى ما قد يراه. عندما وصل، وجد مشهدًا مؤلمًا يعتصر القلب: جنود الاحتلال يجرّون طفلًا صغيرًا بعيدًا عن أمه التي كانت تصرخ وتتوسل إليهم أن يتركوه، لكن توسلاتها ذهبت أدراج الرياح. رأى الدماء تسيل على الأرض الترابية، بقع حمراء تخترق اللون البني للتربة، فتذكر فجأة والده الذي استشهد قبل عشر سنوات في مواجهة مماثلة. في تلك اللحظة، شعر بنار المقاومة تشتعل في قلبه كما لم تشتعل من قبل، نار لم تكن مجرد غضب عابر، بل إصرار عميق على تغيير الواقع المرير. منذ تلك اللحظة، بدأ باسل يفكر بجدية في الانضمام إلى المقاومة، وبدأ يلتقي سرًا مع شباب القرية في بيت مهجور على أطراف القرية، بعيدًا عن أعين الجواسيس والمراقبين. كان أبو خالد، الرجل الحكيم ذو الشعر الأبيض والخبرة الطويلة، يقود تلك اللقاءات، موجهًا الشباب بنصائحه العميقة. كان يقول دائمًا: "المقاومة ليست بالسلاح فقط، بل بالعلم والصمود والتخطيط الجيد". وبدأ الشباب، تحت إشرافه، يخططون لتحركاتهم بعناية فائقة، مدركين أن كل خطوة قد تكون الأخيرة، وأن كل قرار قد يكلفهم حياتهم أو حريتهم.

في ليلة ماطرة، حيث كانت السماء تبكي وكأنها تشارك القرية حزنها، قرر باسل ورفاقه تنفيذ عملية جريئة لتعطيل دورية عسكرية كانت تجوب المنطقة وتضايق الأهالي. كان الهدف بسيطًا لكنه خطير، نجحوا في العملية بفضل تخطيطهم الدقيق وشجاعتهم، لكن الثمن كان باهظًا جدًا. ردت قوات الاحتلال بحملة اعتقالات واسعة، حاصرت القرية، وتحولت الشوارع الضيقة إلى سجن كبير يحيط بالجميع. اضطر باسل إلى الاختباء خلف التلال، مختبئًا بين الصخور والأشجار، لكن وشاية من أحد الجيران، ربما بدافع الخوف أو الطمع، كشفت مكانه للجنود. تم القبض عليه واقتيد إلى السجن، حيث بدأت رحلة جديدة من المعاناة. في الزنزانة الباردة الضيقة، تعرض لتعذيب قاسٍ، ضربوه وحرموه من النوم والطعام، لكنه رفض الاستسلام. كانوا يطالبونه بأسماء رفاقه، يحاولون كسر إرادته، لكنه كان يرد بصوت متعب لكنه ثابت: "لن تحصلوا على شيء مني". كل يوم كان اختبارًا جديدًا لصبره، لكن عزيمته لم تلن، بل ازدادت قوة مع كل محاولة فاشلة لكسره.
بعد ثلاث سنوات طويلة قضاها في الأسر، تحول باسل إلى أسطورة بين السجناء. كان يكتب على جدران زنزانته عبارات عن الحرية والأمل بقطعة فحم صغيرة، ويغني أغاني المقاومة بصوت خافت يتردد في الممرات. حتى بعض الحراس، الذين كانوا يراقبونه عن كثب، بدأوا يظهرون له احترامًا خفيًا، ربما لأنهم أدركوا أن روحه لن تنكسر. وفي ليلة غير متوقعة، استفاق باسل على أصوات انفجارات تقترب من السجن، وفجأة، فُتح باب زنزانته بعنف. كانت مريم، أخته الصغيرة، تقف أمامه، ترتدي زي المقاتلين وتحمل بندقية على كتفها. "لقد حررنا القرية، يا باسل"، قالت وهي تعانقه بحرارة. لم يصدق عينيه وهو يرى شقيقته التي كبرت وتحولت من طفلة خائفة إلى مقاتلة شجاعة تقود المعركة.

عندما عاد إلى قريته بعد سنوات الغياب، وجدها مختلفة تمامًا. الحواجز العسكرية التي كانت تخنق القرية قد زالت، لكن آثار الرصاص بقيت محفورة في الجدران كشاهد على المعاناة التي مرت بها. كان الناس يعيدون بناء منازلهم بحماس، والأطفال يلعبون في الأزقة التي كانت محرمة عليهم سابقًا. توجه باسل إلى شجرة الزيتون التي زرعها مع والده قبل سنوات، ووقف أمامها طويلاً. مسح بيده على لحائها المتشقق، واستنشق رائحة التراب بعمق، وشعر بأنه عاد إلى الحياة من جديد بعد سنوات من الموت البطيء في الأسر.

مع إشراقة اليوم التالي، بدأ باسل وأهل القرية مشروعًا جديدًا: إعادة بناء مدرستهم المدمرة. حمل الأطفال الحجارة الصغيرة بأيديهم الصغيرة، بينما كان الكبار يوزعون الماء والطعام على العمال في جو من التضامن والأمل. أدرك باسل أن المعركة لم تنتهِ بتحرير القرية، بل بدأت مرحلة أخرى من النضال: مرحلة البناء والتعمير، مرحلة استعادة الحياة التي حاولوا سلبها منهم. وبعد أسابيع من العمل المتواصل، استلم باسل من شيخ القرية سجل الأراضي القديم الذي أخفوه عن أعين الاحتلال طوال سنوات. بدأ مع الأهالي توثيق ملكياتهم، ليضمنوا أن أرضهم ستبقى لهم ولأبنائهم من بعدهم. قضى ليالٍ طويلة مع رجال القرية في هذا العمل الدقيق، يوثقون التاريخ الذي حاول المحتلون طمسه، لكنه لم يعتبر ذلك كافيًا. اقترح إنشاء مركز طبي صغير لخدمة الأهالي، ومعهد لتعليم الأطفال تاريخهم الحقيقي بعيدًا عن الروايات المزيفة، وحلم بمكتبة تحفظ تراثهم من الضياع.

وذات مساء، بينما كان يتفقد الحقول التي بدأت تعود إلى الحياة، لاحظ آثار جرافات عند حدود القرية. "يحاولون مرة أخرى"، قال أحد رفاقه بنبرة قلقة. لكن باسل رد بثقة راسخة: "هذه المرة لن نسمح لهم". نظموا مسيرة سلمية ضخمة، رفعوا فيها لافتات كتب عليها "هذه أرضنا" بخطوط واضحة، وأوصلوا صوتهم إلى العالم عبر وسائل التواصل والصحافة التي بدأت تهتم بقضيتهم. وفي المنزل، كانت أمه فاطمة تخبز على الصاج كما اعتادت دائمًا، بينما تساعدها مريم بابتسامة هادئة. "أخيرًا أستطيع التنفس"، قالت الأم وهي تمسح دموعها بكم ثوبها القديم. نظرت مريم إلى السماء وقالت بتأمل: "لكن كثيرين ما زالوا تحت الاحتلال". وضع باسل يده على كتفها وقال بحزم: "كل حرية تبدأ بخطوة، وسنكون عونًا لإخواننا كما كانوا عونًا لنا".

مرت الشهور، وتحولت القرية تدريجيًا إلى نموذج للمقاومة المدنية. استقبلوا وفودًا صحفية من أماكن مختلفة، وأقاموا معرضًا صغيرًا للأطفال عرضوا فيه رسوماتهم وأحلامهم بالحرية. حتى بعض العملاء لجيش الاحتلال زاروا القرية، معتذرين عن ماضيهم، طالبين السماح بزيارة المكان الذي شهد تحولهم. في إحدى تلك الزيارات، جلس باسل مع العميل الذي أرشد عنه، يشربان الشاي تحت شجرة الزيتون التي أصبحت رمزًا للصمود. تبادلا الذكريات التي تحولت إلى دروس في الإنسانية، وكأن الزمن قد شفى بعض الجراح.

وفي الذكرى السنوية للتحرير، اجتمع أهل القرية في مهرجان كبير احتفالي. غنوا أغانيهم التقليدية، ورقصوا الدبكة بحماس، واستعادوا أصواتهم التي كتمها الاحتلال طويلاً. وقف باسل أمام الجميع، وخاطبهم قائلاً: "الحرية ليست غياب القيود فقط، بل هي بناء المستقبل الذي نريد بأيدينا". في الصفوف الأمامية، جلست مريم تسرد للأطفال حكاية القرية بصوت واثق، وعيناها تشعان بفخر وأمل لا ينضب.

وفي يوم من الأيام، جاء وفد من القرى المجاورة ليتعلموا من تجربة قرية باسل. وقف بينهم وقال بصوت واضح: "المعركة لم تكن فقط لاستعادة الأرض، بل لاستعادة كرامتنا وأحلامنا. علينا أن نحمل هذه الرسالة لأبعد مدى". وحين غابت الشمس خلف التلال، كان الجميع يعملون معًا، يبنون، ويغرسون، ويغنون للحرية التي دفعوا ثمنها غاليًا بدمائهم وصبرهم.

وفي أحد الأيام، قرر باسل أن يسجل كل ما حدث في كتاب يحمل اسم "رحلة التحرير"، ليكون شاهدًا للأجيال القادمة على ما عاشوه. بينما كان يكتب، تذكّر كل لحظة مر بها، كل صوت سمعته، وكل تضحية قدمها هو ورفاقه. لم يكن التحرير نهاية القصة، بل كان بداية لحياة جديدة، مليئة بالعمل الجاد، والأمل الدائم، وحلم لا يموت. استمر باسل وأهل القرية في البناء، وأسسوا مجلسًا محليًا يضمن استمرار العمل الجماعي وتنظيم شؤون القرية. تحول منزل جده القديم إلى متحف صغير يوثق نضال القرية، وزينت جدرانه بصور الشهداء والمخطوطات القديمة التي تحكي قصص الأجداد.

وبعد عام كامل، دُعيت مريم للمشاركة في مؤتمر دولي حول مقاومة الشعوب وقضاياها العادلة. سافرت إلى الخارج لأول مرة في حياتها، والتقت بشخصيات عالمية تدعم قضيتهم وتؤمن بها. وفي خطبتها التي ألقتها أمام الحضور، قالت بثقة: "لقد تعلمنا أن الحرية ليست فقط في رفع الأعلام، بل في بناء مجتمعات قوية قادرة على الاستمرار والنمو". عندما عادت إلى القرية، وجدت أخاها باسل ينتظرها عند البوابة، وحوله الأطفال يغنون نشيد الأرض بأصواتهم البريئة.

وهكذا استمرت القصة، قصة شعب لا يعرف الاستسلام، وحلم لا ينتهي مهما طال الزمن. كانت قرية باسل قد تحولت إلى رمز للصمود والأمل، وأصبحت منارة تضيء الطريق للآخرين الذين يسعون إلى الحرية. ومع كل يوم جديد، كان باسل وأهله يزرعون بذرة جديدة، سواء في الأرض أو في قلوب الأطفال، مؤمنين أن النضال الحقيقي هو في البناء، وأن الحياة الحرة تستحق كل التضحيات التي قدموها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى