بالإبداع السردي نستطيع أن نقدم ما لا يمكن أن نقدمه بالشعر
أكد الروائي والشاعر عادل سالم أن انتقاله من الشعر إلى السرد جاء بهدف إيصال ما لم يستطع أن ينقله للقارئ العربي بواسطة الشعر. وعن تلك العلاقة الصوفية التي تربطه بالقدس قال في حوار مع «اشرعة»:
(لقد شكلت الغربة عن الوطن شعورا بالتقصير تجاه المدينة التي أحببت فحاولت أن أعوض هذا التقصير وأقدم للقدس بعض واجبي تجاهها). وعن سبب إصراره على الكتابة عن السجون والمعتقلات قال: (ليس إصرارا بقدر ما هو الغوص في نمط جديد من الروايات غير الموجودة في المكتبة العربية لنقل ما هو جديد للقارئ العربي، وعدم تكرار تجارب الآخرين). ويذكر أن الأديب عادل سالم مواليد 1957، في البلدة القديمة في القدس –حي (القرمي) الكائن ما بين المسجد الأقصى وكنيسة القيامة. ورئيس تحرير (ديوان العرب). مقيم حالياً في الولايات المتحدة. اعتقل عدة مرات من قبل السلطات الإسرائيلية، وساهم مع كتاب آخرين في تطوير الحركة الثقافية في السجن، حيث شارك في تحرير بعض المجلات الاعتقالية المنسوخة باليد. صدر للكاتب: عاشق الأرض (شعر) نداء من وراء القضبان (شعر) لعيون الكرت الأخضر (قصص) عاشق على أسوار القدس (رواية) عناق الأصابع (رواية) قبلة الوداع الأخير (رواية) (الحنين إلى المستقبل) ( رواية ). فضلا عن دراسة توثيقية بعنوان ( أسرانا خلف القضبان).
- كيف كانت البدايات.. ومن هم الكتاب الذين تأثرت بهم؟
– انجذبت، ومنذ الصغر، باتجاه الشعر، وما زال في ذاكرتي ذلك اليوم الذي قدم لي والدي، رحمه الله، ديوان شعر للشاعر عمر الخيام كان قد استعاره من صديقه الأستاذ سعيد السلايمة في القدس المحتلة وطلب مني أن أنسخه له كاملا لأنه لم يعثر على نسخة من الديوان في مكتبات القدس ليشتريها فقمت مرغما بنسخه من الغلاف إلى الغلاف. وكان عمري ثلاث عشرة سنة أو أقل ، ومن هنا بدأت رحلتي مع الكتابة. كنت أكتب الشعر، والمقالات الصحفية حتى عام ٢٠٠٤ عندما نصحني الدكتور الأديب السوري أحمد زياد محبك من جامعة حلب أن أتجه للسرد لأنني سأبدع فيه أكثر، فاستجبت لنصيحته وخضت منذ ذلك الوقت معترك الإبداع القصصي والروائي.
وكل من قرأت لهم واستمتعت بكتاباتهم تركوا بعض بصماتهم علي، والقائمة تطول، لعل أبرزهم في عالم الشعر المتنبي، وأبو فراس الحمداني، وعنترة، وابن زيدون، وغيرهم، ويقف الطاهر وطار في طليعة من تأثرت برواياتهم خصوصا (اللاز).
* ما الذي كنت تبحث عنه في انتقالك من الشعر إلى السرد.. ؟
** الانتقال من الشعر إلى السرد انتقال إلى شكل جديد من الإبداع الأدبي كي أوصل للقارئ العربي ما لم أستطع أن أنقله له بواسطة الشعر، فعالم السرد عالم أرحب، وأكثر تأثيرا لأنه يقدم للقارئ مجتمعا كاملا بشخصياته، ومشاكله، وأحزانه، وأفراحه. بالإبداع السردي أو الروائي نستطيع أن نقدم ما لا يمكن أن نقدمه بالشعر، فكل نوع من أنواع الإبداع الأدبي، أو الفني له وظيفته، وتأثيره، وطريقة مخاطبته لعقل الإنسان، ومشاعره.
* استوقفني في روايتك (عاشق على أسوار القدس) ذلك “العشق الصوفي” الذي يربطك بالمدينة المقدسة، حتى بدا وكأنك تحاول التأريخ للمدينة وأزقّتها وحاراتها.. وعلاقات أهلها الاجتماعية..؟
** القدس مهد الطفولة والشباب، فيها ولدت وترعرعت وكونت ثقافتي، وشخصيتي، في حاراتها عرفت قيمة الوطن، في مدارسها كونت أول وأجمل صداقاتي، وفي شوارعها شيعت بعض شهدائها مثل محمود الكرد، وعبد الله الحواس، وآخرين. وفيها اعتقلت، وواجهت مع أبناء جيلي عنف الاحتلال، واضطهاد جنوده، فكان لا بد والحال هذه أن تكون المكان الأكثر قدسية لي. وقد شكلت الغربة عن الوطن شعورا بالتقصير تجاه المدينة التي أحببت فحاولت أن أعوض هذا التقصير وأقدم للقدس بعض واجبي تجاهها.
* جاء طرحك لموضوع العودة إشكاليا في هذه الرواية من خلال عودة المحامي سرحان خ. من أميركا إلى القدس بعد 25 عاما.. طلبا لتوازن نفسي داخلي، لكنك تركته يقتل، بعد معاناة مع الواقع الجديد، على أسوار القدس.؟
** بطل الرواية سرحان الخطيب قتله المحتلون لأنهم يريدون تفريغ القدس من سكانها الشرعيين بكافة الوسائل، وهو يمثل حالة وليس فردا، فالعشاق الحقيقيون للوطن قدموا أرواحهم في سبيل أوطانهم، ولا غرابة في ذلك، فقد قتلوا قبله محمود الكرد، وعبد الله الحواس، وعمر القاسم وغيرهم الكثير.
* ولكن كيف تنظر إلى انعكاس هذه النهاية لسرحان ومقتله على يد الاحتلال.. على الأشخاص الذين يفكرون بالعودة إلى القدس من أميركا أو غيرها.. ؟
** كل الأشخاص المقدسيين المغتربين عن الوطن أصبحوا يدركون أن العودة ليست نزهة وليست سهلة وهي تحتاج لصبر، ومثابرة وتضحية، وعزيمة لا تقهر، وهناك كثيرون رجعوا وعانوا وصبروا وما زالوا دون وثائق رسمية تسمح لهم بالتنقل، في حين نجح آخرون في انتزاع حقوقهم، وفشل آخرون وعادوا إلى الغربة من جديد. موت سرحان الخطيب حسب وجهة نظري ليس هزيمة بقدر ما هو انتصار من نوع جديد، انتصار حالة الوطن على حالة الغربة، وتأكيد للاحتلال أن الفلسطيني يفضل الشهادة على الطرد عن وطنه.
* لماذا الإصرار على الحديث عن السجون حيث كتبت اكثر من رواية وبحث عن الحياة في المعتقل؟
** ليس إصرارا بقدر ما هو الغوص في نمط جديد من الروايات غير الموجودة في المكتبة العربية لنقل ما هو جديد للقارئ العربي، وعدم تكرار تجارب الآخرين.
فرواية (عناق الأصابع) حتى صدورها كانت الرواية الوحيدة التي نقلت واقع الأسرى الفلسطينيين خلف القضبان من زاوية إنسانية ونضالية بعيدا عن المبالغات، بحيث نقلت واقعهم كما هو، وصورت لهم الأسير الفلسطيني كمناضل إنسان له همومه، وأحلامه، إنسان من لحم ودم، يعشق، ويكره … إلخ،
أما رواية (الحنين إلى المستقبل) فهي تصور حياة العرب المغتربين في السجون الأميركية، وحسب علمي هي الرواية الوحيدة التي تنقل حياة هذه الفئة من الناس الذين جذبتهم الغربة لأحلامها فوقعوا في براثنها، حياة مغتربين يحمل كل منهم قصة اغترابه. ولأنني كاتب عاش حياة الأسر في السجون الصهيونية وعاصر الكثير من الأسرى القدامى الذي كان لهم شرف البداية، وتنقل من عدة سجون في فلسطين المحتلة فقد كان واجبا علي أن أنقل واقع أسرانا في أسلوب أدبي للمواطنين العرب في كل مكان في وقت تهمل قضيتهم، وتصبح في غياهب النسيان العربي أمام موجة التطبيع العربي الرسمي مع الكيان الصهيوني. ولأنني عشت الغربة وسجنت في السجون الأميركية فقد رأيت أن أتفرد برواية جديدة عن الذين أسرتهم الغربة ببريقها، وأسوارها.
* إلى أي مدى كانت السيرة الذاتية حاضرة في أعمالك الروائية؟
** الروايات التي كتبتها كنت شاهدا على أحداثها، التقيت بمعظم أبطالها، عشت معهم، غصت عميقا في أفكارهم، ليست رواياتي سيرة ذاتية خاصة بي لكن يمكن القول أنني كنت أحد أبطالها غير المذكورين. لذلك تشكل رواياتي كلها جزءا من ذاكرتي الحية.
(عناق الأصابع) مثلا كانت تجربة الحركة الأسيرة الفلسطينية ولم تكن سيرة ذاتية، وشخصيات تلك الرواية معظمهم شخصيات واقعية مازال بعضهم حيا يرزق، أردت فيها أن أنمي عنصر العمل الجماعي، والكفاح الوطني لا تمجيد الفرد أو الذات لذلك من يقرأ تلك الرواية سيجد أنها لا تركز على بطل محدد، وشخصية الرواية الرئيسية علي النجار ليس إلا رمزا لكل أسير عانى من قيد السجان.
بقية قصصي أو رواياتي هم أشخاص من لحم ودم، وأنا أنقل قصصا عشتها، سمعتها، عرفت أبطالها، وليس فقط سيرة شخصية أحاول أن أحييها. شخصية سرحان الخطيب في رواية (عاشق على أسوار القدس) تمثل كل مقدسي مغترب جردته سلطات الاحتلال من حقه في العودة، والعيش في المدينة التي ولد فيها، ولست إلا واحدا منهم، شخصية علي النجار لا تمثلني شخصيا وإن كنت أحلم أن أكون بصلابته.
*وماذا عن رواية (الحنين إلى المستقبل) ..؟
** هي قصة مواطن عربي فلسطيني سجن فترة بسيطة في سجون العدو، يسافر للعمل والدراسة في الولايات المتحدة فيقع بعد فترة سجينا بتهمة التهرب من الضريبة، وهناك في السجن يلتقي بعدد من السجناء العرب من دول عربية عديدة، مصر، لبنان، العراق، اليمن، سوريا، لكل منهم حكاية يرويها ثم ينتقل لسجن ثان، وثالث بسبب ما يتعرض له بالسجن، وفي رحلته التي تشبه رحلة ابن بطوطة يتعرف القارئ على وضع السجون الأميركية. وبعد السجن يقرر العودة للوطن فلسطين فيفاجأ أن السلطات الصهيونية ترفض السماح له بالدخول لأنه أصبح مواطنا أميركيا وتعيده من حيث أتى.
* بالتالي ما هو المطلوب من الرواية أساساً.. تشخيص الواقع وطرح الأسئلة.. أم إيجاد الحلول..؟
** عندما تقدم الرواية حلولا واضحة المعالم فهي تريح القارئ من التفكير وتعلمه دوما أن يجد كل شيء جاهزا، فشعوبنا العربية تعودت على أن يأتي الفدائي ليخلصها من مشاكلها، ولذا ترى الملايين في الصفحات الاجتماعية تنتظر صلاح الدين ليحرر لها القدس، على القارئ أن يعي أن زمن الاعتماد على الأفراد انتهى، وأن عليه واجب المشاركة مع ملايين غيره ليبني وطنه الجديد، عليه أن يفكر، أن يستنبط بديلا لما هو فيه، الرواية باستشهاد بطلها تطرح على المواطن المقدسي سؤالا: لماذا استشهد سرحان؟ لماذا حصل هذا؟ ما المطلوب؟ كيف نواجه الاحتلال؟ ما دورنا؟ أين الخلل؟ من المسؤول؟ والجواب يجب أن يكون لدى القارئ نفسه.
* كان هناك بعض الطغيان للموقف السياسي أحيانا على لغة الحوار.. مما جعل الرواية أقرب إلى الحكايات والتقارير الصحفية..؟
** هذا رأي لبعض الكتاب، وليس رأيهم كلهم وكل الاحترام لآرائهم. أنا أهتم برأي الناس العاديين أكثر لأنني أريد أن أصل لعقولهم، وقلوبهم.
الحوار مهم في رواية مثل تلك الرواية، وهو تعبير عما يجيش في صدور شخصيات الرواية بأفواههم، وهي مقدمة لسيناريو يمكن أن يستخدم لتحويل الرواية لمسلسل تلفزيوني. لا يوجد هناك شكل واحد للعمل الروائي، هناك أشكال عديدة، وما زلت في بداية الطريق، وكل الآراء محط اهتمامي.
* كنت موفقا في اختيار عنوان روايتك (عناق الأصابع) حيث حمل بعدا إنسانيا رائعا واختصر ببساطة مضمون الرواية..؟
** (عناق الأصابع) أبدعه أسرانا خلف القضبان عندما كانوا خلال مرحلة السبعينيات والثمانيات من القرن العشرين يعانقون زوارهم، وأحبتهم بأصابعهم فقط من خلال الشبك الحديدي والقضبان التي تفصل بينهم ولا تسمح لغير أصابعهم بالعناق، فكانوا بهذا العناق الفريد يتبادلون مشاعر الحب، ودفء العاطفة وهو عناق لم يعرف مذاقه إلا من اكتووا بالأسر في تلك المرحلة. كان للأصابع لغة عشاق لكنهم عشاق من نوع آخر. وقد كنت واحدا منهم ولست أولهم ولا آخرهم.
* اعتبر النقاد (عناق الأصابع) من الأعمال الهامة والنادرة من حيث تقديم الأسير كإنسان اجتماعي من لحم ودم.. يحتاج إلى الحب مثلما يحتاج إلى الغذاء ومثلما يتوق إلى الحرية.. واختلفت بذلك عن وجهة النظر حول تصوير الأسير الذي لا يقهر؟
** الأسير، والمناضل، والجندي الذي يخوض الحرب كل منهم إنسان له مشاعر، وعواطف متنوعة، يضعف أحيانا، يقوى في أخرى، يحب، ويكره، مثله مثل أي إنسان، وتصويره بأنه بطل خارق مثل سوبرمان يحللنا من التزامنا ناحيته ويجعلنا ننظر إليه بهالة قدسية، لا يخطئ، لا يحب، لا يكسر، سيحررنا من الاحتلال حتى وهو خلف القضبان، الرواية هنا تبرز الوجه الإنساني للأسير، الوجه المشرق المضيء، تقدمه كما هو دون تلوين، أسير أتعبه الأسر، ينشد التحرر الذي هو مهمتنا نحن تجاهه. هذا هو هدف الرواية، وقد نجحت في ذلك.
* جاءت الرواية واقعية بامتياز، لا خيال فيها، رصدت بدقة متناهية ما يدور في أقبية السجون.. وحتى الأسماء الواردة في الرواية كانت أسماء حقيقية في غالبيتها العظمى.. مما أوقعها في مطب التقريرية والتسجيلية..؟
** الخيال ضروري، وكل عناصر الإبداع ضرورية، أحببت ألا ألون واقع الأسر وأن أنقله لأبناء شعبنا، وأمتنا كما هو دون تغيير، ودون طمس قضيتهم، وتحويلها لشعار نستذكره في المناسبات الوطنية.. في الرواية يتحدث الأسرى بلسانهم لا بلسان الكاتب.
* لماذا يقتل الحب في أعمال عادل سالم.. عشنا مقتل علي النجار بطل (عناق الأصابع).. والمحامي سرحان خ ، في (عاشق على أسوار القدس).. وكأنك تخشى من الحب والفرح أن يأخذ مداه..؟
** كما أشرت أبطال الرواية الأساسيون استشهدوا لأنهم الأكثر عشقا للوطن، وعشاق الوطن يستشهدون من أجل من يحبون، هذا هو الواقع فكيف أغيره؟ ياسر عرفات مات قتلا، أحمد ياسين استشهد بصاروخ، عبد العزيز الرنتيسي، مات بقصف صاروخي، أبو جهاد قتلوه في تونس، عمر القاسم استشهد في الأسر، محمود الكرد استشهد في شارع باب خان الزيت في البلدة القديمة، أبو علي مصطفى قصفوا مكتبه بصاروخ فتحول ركاما وقس على ذلك الكثير… فهل تريد من أبطال الرواية أن يكونوا عشاقا خلف مكاتبهم يحملون هواتفهم النقالة ويرسلون رسائل نصية لمعشوقاتهم؟ لن يتركهم الاحتلال يهنأون، كيف ينتصرون وما زال الاحتلال جاثما فوق رؤوسنا، انتصارهم يريحنا ويدغدغ عواطفنا، فنصفق لهم ونحن جالسون، لكن استشهادهم يصرخ فينا ويحثنا على الصمود واستمرار المواجهة.. استشهادهم يعرينا يكشف زيف شعارات بعضنا، يشعرنا بتقصيرنا، يشجعنا على الصمود، والتحدي، واستمرار المسيرة.. كاتب الرواية نفسه بكى أكثر من مرة على شخصية علي النجار وهو يسقط شهيدا وزاد حقدا على الاحتلال فكيف بقارئ آخر، عندما شيعت علي النجار في (عناق الأصابع) تذكرت الشهيد عمر القاسم، والشهيد عبد القادر أبو الفحم، ومحمود الكرد، ونسيم زيد، وعبد الله الحواس، وغيرهم فشعرت كم نحن مقصرون تجاه أسرانا، وكيف تخلينا عن وعدنا وعهدنا لشهدائنا.
* ولكن الحب يموت أيضا في روايتك الرومانسية “قبلة الوداع الأخير”.. عشنا لحظات الانفصال، رغم الحب العنيف المتبادل، موت رانيا.. وهي لم تمتد دفاعا عن الوطن كحال الشهداء الذين ذكرتهم.. ولهذا أكرر هل تخشى للحب أن يأخذ مداه..؟
** رانيا الجميلة، الوديعة صاحبة البسمة الرقيقة ماتت لأنها واحدة من ضحايا الحرب الأهلية اللبنانية، وقد مات الحب فيها منذ اختطافها واغتصابها وهي طفلة، وهي صرخة في وجه اللبنانيين أن التفكير في الحرب الأهلية من جديد معناه المزيد من الضحايا، والمزيد من الحب الذي سينتحر على صخرة الحقد، والاقتتال الأعمى.. ورواية (قبلة الوداع الأخير) رواية حقيقية وليست من خيال المؤلف..
* في “قبلة الوداع الأخير” ظهر وكأن هناك التباسا وتناقضا في العلاقة بين الزوجين (السابق واللاحق).. أيضا لماذا يستغرب البعض تحول الحب إلى صداقة ، مع أن الحالات ليست غريبة عن الواقع..؟
** رانيا تزوجت مرتين، مرة زواجا حقيقيا من سامح، والثاني زواجا صوريا أو ورقيا من فادي بهدف حمايتها من أقوال الناس بسبب تحريض زميلاتها عليها.. الزوج الأول كان يحاول أن يعاملها كزوج وكانت تخاف منه لأنها كانت تكره معاشرة الأزواج، لكن الثاني كان زوجا صوريا ولم يكن يحلم بها كزوجة ولم يحاول أن يمارس دوره كزوج عليها وكانت تعرف ذلك وتشعر به لذلك كانت ترتاح معه لأنه كان صديقا وليس زوجا..
* في كل من رواياتك، وبعكس العديد من أقرانك، أعطيت المرأة دورا أساسيا.. سواء على الصعيد السياسي أو الثقافي وحتى على الصعيد الإنساني..؟
** عشت في مرحلة كان للمرأة دور كبير، شاركت الرجل في العمل، والمواجهة، تعرضت للأسر، قاتلت، استشهدت، هذه حقيقة وليس من صنع الخيال. أنا وثقت دورها لا أكثر وقد أكون قصرت بعض الشيء.. لقد عشت تلك المرحلة، ولمست دور المرأة وشاركت معها، زوجتي اعتقلت إداريا لستة أشهر، عمتي اعتقلت لمدة عام، زميلات كثيرات أعرفهن تعرضوا للأسر، وطوردن في أماكن سكنهن. وقدمن مثلا في الصمود والتضحية، والنشاط.
*من المعروف أنك اعتُقِلَت من قِبل السلطات الإسرائيلية لمدة 33 شهرًا. وساهمت مع كُتَّاب آخرين في تطوير الحركة الثقافية في السجن. وسؤالي كيف ترى تأثير السجن على تجربتك الإبداعية..؟
** للسجن تأثير ملحوظ، فأن تكون بين رفاق دربك من الأسرى العرب، والفلسطينيين الذين يواجهون السجان، والاحتلال بشكل يومي، وأن تعاني معهم، وتقتسم معهم لقمة الأسر، والهم الوطني لا بد أن تترك تأثيرها عليك، وكان عهدي لهم عندما ودعتهم في سجن نفحة الصحراوي في الأول من نيسان ١٩٨٥ ألا أنساهم، وأن أحمل همهم، وقضيتهم، التي هي قضيتنا جميعا، وأنقل تجربتهم النضالية لأهلنا خارج القضبان، وظل هذا العهد ماثلا أمامي حتى كانت روايتي الأولى (عناق الأصابع) التي حاولت فيها أن أنقل تجاربهم الإنسانية العادلة المجهولة، وأعيد بها سيرتهم إلى الواجهة آملا أن يلتقط تلك الرواية أحد المنتجين أو المخرجين ويحيلها إلى مسلسل تلفزيوني . ..
* هل يمكن أن تستعيد بعض صور العلاقات ومسارها بين الأدباء في المعتقل من خلال تجربتك…؟
** كانت علاقة حميمية، أذكر يوم كنت في سجن نفحة الصحراوي وكان معي الكاتب المحامي محمد عليان، والكاتب السياسي عطا القيمري، والأسير الشهيد عمر القاسم، حيث كنا نتعاون في نسخ مجلة الأسرى الشهرية (نفحة الثورة والعطاء)، كان كثيرون منا يشاركون في الكتابة وفي النسخ، كي يستفيد بقية زملائنا في السجن، وأتذكر الأسير القاص محمود أبو النصر من غزة الذي كان في سجن بئر السبع عام ١٩٨٣. كنا نحاول أن نقدم شيئا للأسرى، لكن إدارة السجن كانت تصادر كل كلمة مكتوبة عندما تعثر عليها، وكان يومها من الصعوبة بمكان إخراج ما نكتبه لخارج السجن إذ يجب أن ننسخه في رسائل سرية مكتوبة بخط صغير جدا وعلى ورق لف السجاير الرفيع ثم تغليفه في كبسولات صغيرة يتم تهريبها مع الزوار عندما تسمح الظروف. وكان كل شخص يضبط وهو يقوم بتهريب رسالة يعاقب بحرمانه من الزيارة ونفيه للزنزانة الانفرادية لشهور ثم يعاقب من يزوره بحرمانهم من الزيارات نهائيا وأحيانا يجري اعتقالهم.
*من خلال قراءاتك.. كيف تقيم “أدب السجون” في فلسطين، لا سيما ونحن نعيش تجربة متميزة للنضال الفلسطيني في السجون الإسرائيلية هذه الأيام..؟
** أدب السجون قسمان، قسم أدب كتب داخل الأسر، وآخر كتب عن حالة الأسر. هناك محاولات جيدة وإبداع لابأس به لكنه لم يزل يعاني من الشخصنة ومدح الذات، يحاول فيه كل كاتب أن يروج لسياسة حزبه، أو يمجد بدوره، يركز فيها على الدور النموذجي للأسير بأنه السوبر مان البطل القاهر، دون الغوص عميقا في أعماقه الإنسانية. نحن كحركة ثقافية فلسطينية مازلنا مقصرين بهذه الناحية ولم نعط الاهتمام المطلوب لتوثيق أدب المقاومة الفلسطيني وتقديمه لأجيالنا القادمة كما يليق به. كلنا مقصرون.
* ونحن نتحدث عن “أدب السجون” لا بد أن نتساءل أين أدب الأسيرات.. وكيف تقيمه.. ولماذا لا يتم الإشارة إليهن بشكل صحيح رغم شرابهن من نفس كأس الاعتقال..؟
** صدرت بعض الأعمال التي توثق هذه المرحلة مثل كتاب (أحلام بالحرية) للمناضلة عائشة عودة يقدم لمرحلة من مراحل نضالنا الوطني خلف القضبان، المشكلة أننا في مرحلة لا تشجع فيها المؤسسات الرسمية تدوين أدب المقاومة لأنه يثير الاحتلال. نعود ونقول رغم ذلك نحن مقصرون فعمل هنا وآخر هناك لا يشفي غليل جيل يتعطش لتاريخ آبائه.
* تقول.. بعد ثلاثين عامًا في أميركا، ما زلنا نقول إنها غربة، في حين يقول معظم أولادنا الذين لا تزيد أعمارهم عن عشرين عامًا إنه الوطن الذي لن يعيشوا بغيره. هكذا إذًا أصبحنا نعيش غرباء في وطن الأبناء، وأصبح الأولاد والأحفاد غرباء عن وطن الآباء.. وكيف ستحل هذا التناقض وأنت تعتزم العودة والاستقرار في القدس، كما سمعت؟
** هو تناقض يحاول كل منا حله بطريقته للأسف لا يوجد جهد جماعي للخروج من هذا المأزق ، فالحنين للعودة موجود منذ سنوات، وكلما هممت بذلك اعترضتني صعوبات لم أتغلب عليها بعد، أتمنى ألا أموت إلا وأنا فوق ثرى القدس حتى لو كنت زائرا.