الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ميلود كاس

بعيدا عن الموضوع، قريبا من الحقيقة

قد نال مني التعب؛ للتو وصلت من المطار قادما من الأردن. أول ما بدأت به -بعد أن فتحت باب شقتي- هو أني اتكأت على قفاي في سرير غرفتي ورحت أحدث نفسي: سأطلب من مدير تحرير جريدتي أن يضع تقريري الصحفي في قلب الجريدة، وأن يكتب عنوانه على واجهتها بالبنط العريض: ¬(حكم بالهلع المؤبد)... سأقنعه بأن لا نتعامل مع فلسطين وما يحصل فيها من جرائم بلغة جامدة تكتفي بإحصاء الشهداء. فلسطين هي قضيتنا جميعا؛ على جميع القراء أن يدركوا البعد الإنساني في معاناة هؤلاء، علينا أن نصل إلى أنبل ما فيهم من مشاعر...

لم أتمالك دموعي وأنا أسمع من الشيخ عبد الجليل بائع الرُب (شراب الخروب) قصة مأساة فطيمة... الآن الآن سأكتب تقريرا عن تلك القصة، في الصباح الباكر سيكون على مكتب المدير...

بعد لحظات وجدتني على مكتبي ممسكا قلمي بكثير من الحماس. سوَّدتُ ليلتها بمداده أربع صفحات كاملة، عاودت الاتكاء على سريري ورحت أقرأ ما كتبت:

"قاد عاموص كتيبته: ثلاثُ سياراتٍ سوداءٍ مصفحة، رباعيةُ الدفعِ... كانت الساعة تقترب من الثانية ليلا حين نزل -بلمح البصر- ستةُ رجالٍ مدربون على كل أنواع القتال من تلك السيارات المصفحة وأصابعهم تتحسس مواضع الزناد في رشاشاتهم المشهرة أمامهم، بخفة تقدمهم عاموص ليصعد مع أربعة منهم تجاه بيت يربض على هضبة في قريةِ (دير شرف) على أضواء مصباح اليد الساطعة الذي يحمله خلفه ذراعه الأيمن: رافائيل... ما هي إلا ثوان وإذ بعاموص يقرع الباب قرعا عنيفا بعجز رشاشه. كاد أن يقتلع ذلك الباب الخشبي المتهالك، وكاد أن يقتلع معه فؤاد فطيمة التي لم تدر هل تفتح الباب، أم تربت على كتف ولدها الصغير؛ لتقنعه أن هذا الصوت الذي أفزعه، وكاد أن يذهب بعقله لم يكن إلا كابوسا.

ضمته إلى صدرها بشدة، ولم تكن المسكينة تعلم أن الذي يحتاج إلى عناقها -في هذه اللحظة بالذات- هو بكرها: أحمد الذي قام من نومه مرعوبا، وسريعا ارتدى جبته الزرقاء الداكنة التي لا يبرح مصحفه الصغير جيب صدرها... وقف أحمد ذو العقدين في البهو مطمئنا أمه وإخوته الخمسة: لا بد أن أحدهم تطارده قوات الاحتلال، لا تخافوا سأفتح الباب…

لم يعلق في ذهنه وهو جالس في السيارة مقيد اليدين، ومعصب العينين إلا كلمات أمه: إلى أين تأخذونه؟ ابني صغير ما الذي فعله حتى تضربه بكل هذا العنف...

لم يكن يرى من تلك العصابة إلا ما بداخله من إباء، قد زال عنه الخوف تماما، لم تعد يداه ترتجفان!... قد فهم من حوار عاموص ورافائيل أنهم ليسوا شرطة. إنهم قوات خاصة لديهم أوامر بتصفية كل من يشتبه بأنه على صلة بإحدى حركات المقاومة.

سار موكب الموت قرابة أربع ساعات متواصلة قطعها أحمد صمتا يحاور نفسه؛ فكلما أراد التكلم صرخ بوجهه رافائيل... قد أيقن بعد أن طال بهم المسير أنه الآن خارج محافظة (نابلس). لكنه لم يتوقع أبدا المكان الذي أنزلوه فيه: غابة كثيفة الأشجار...

إن أول ما وقع عليه بصره حين نزع أحدهم العصابة من على عينيه: شجرة صفصاف باسقة تشق طريقها إلى السماء وسط ذلك الظلام الذي بدأ يتبدد، تتبع شجرة الصفصاف ببصره نزولا إلى أن وقع نظره على وجه عاموص الذي كان يقف تحتها مباشرة؛ ليدرك حجمه الحقيقي! لا بد أن تلك النياشين والأوسمة المعلقة على كتفيه هي نتيجة لبطولاته في إرعاب النساء والأمهات والعزل... لم يدم النظر إليه كثيرا؛ فقد لفته صوت أنفاس متقطعة لرجلين يقفان إلى جانبه... اندهش إنه يعرفهما: حميد وأمين. إنهما من خيرة رجال (دير شرف)... أدرك سريعا حقيقة التهم الموجهة إليهم؛ فما يجمع بين ثلاثتهم هو: مشاركتهم الجمعة الفارطة في مظاهرات بالقدس الشريف... تقدم نحوهم عاموص، خاطبهم على مقربة: قد حكم عليكم بالموت لتعاونكم مع المخربين، وأنا أجلكم. وظيفتي هي أخذ أرواح من يزعزع أمننا القومي. قال ذلك في حزم، ووقف يتفرس في وجوههم.

في هذه اللحظة الحاسمة لم تقوَ رجلا حميد ذي الخمسة والخمسين عاما على حمله. جثا على ركبتيه يتوسل من أجل أبنائه. لكن عاموص لم يكن لديه الوقت ليسمع ما سيقوله من دفاع، وعلى الفور صوب من مسدسه طلقة باتجاه رأسه أسكتت كل كلمة دفاع كان سيقولها. مع هذه الطلقة نزلت دمعة واحدة من عيني أمين اختصرت ما أطبقت عليه شفتاه من مرارة.

أما أحمد فلم يرد أن يموت قبل أن يكون لموته معنى؛ قال له وهو يهم بأن يضغط على الزناد: سأموت واقفا أشاهد ارتجاف يديك أيها الجبان. أما أنت فستحيا كالكلب تلعق أحذية أسيادك... أي خيانة هذه التي يُحاسبُ عليها وسط الغابة!؟ أبي قدم روحه لأجل أن تُبنى محكمة في وطننا، وسأقدم روحي من أجل أن تقف أيها النذل يوما أمام العدا... لم يكمل الكلمة؛ فغضب عاموص كان يزداد مع كل كلمة قالها...

عشرون عاما بالتمام مضت، وها هي فطيمة ترى ابنها في كل مكان. كانت دائما تقول: وهل يكون ميتا من لم أعثر له على قبر!؟... أدعيتها على من ظلمها لم تفارق قلبها ولسانها. تماما كما لم يفارق الإحساس المتواصل بالتضمر زوجة عاموص مع كل مرة تغسل فيها سراويل زوجها التي تفوح منها رائحة البول. نصحته مرارا بأن يكف عن تعاطي تلك الحبوب... نصحته مرارا بأن لا يثق في الأطباء؛ فما يعاني منه من كوابيس ومن تبول لا إرادي يلزمه علاج روحاني."...

الساعة الثامنة بالضبط، وضعت تقريري على مكتب المدير قائلا:

 هذا تقرير مختلف يجب أن ينشر في أقرب وقت، قضيت الليل نصفه أو أكثر في كتابته
نظر إلي في حيرة، وتناول التقرير ليقرأ منه أشتاتا متفرقة، وكلما أمعن في القراءة رأيت دهشته تزداد، وفجأة توقف عن القراءة وصرخ في وجهي:

 لماذا ذهبت إلى الأردن!؟ لماذا تحملت الجريدة تكاليف سفرك وإقامتك هناك!!؟

وفجأة تذكرت أنني كنت هناك لتغطية (البطولة العربية للرياضات القتالية المختلطة).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى