بناء الحضارات ومنظومة القيم المرجعية
– 1 –
ليس هنا من شك، بأن البحث حول مسألة الحضارة، بحث مهم، لأنه يفتح آفاقا جديدة، في تاريخ الحضارة (ظروف النشأة وملابسات التطور..)، ثم إن التفكير في تاريخ الحضارة، تفكير مستقبلي، يبدأ في الحقيقة، من الإهتمام بالحاضر، انطلاقا من أن الوقائع التاريخية لا تنفصل تماما عن الواقع الحي...
وبهذا الصدد يرى المؤرخ فرنان بروديل بأن إحداث الأمس تفسر، لكن لا تفسر بمفردها العالم الراهن، إن الراهن عمليا وبدرجات مختلفة، يواصل تجارب أخرى ، تعود إلى أزمنة بعيدة خلت، فهو يتغذى من الظروف المنصرمة، وحتى من مجمل التطور التاريخي الذي عاشته البشرية...(1)
إن تاريخ العالم يشبه شريط سريع تتابع مكوناته وتتدافع أحداثه: (حروب وأزمات سياسية وثورات وفوضى اقتصادية وأفكار وموضات ثقافية...)
إلا أن حياة البشر تتضمن الكثير من الحقائق المؤثرة في شريط الأحداث: (الأشكال الإجتماعية، والقواعد الأخلاقية التي يخضعون لها معتقداتهم الدينية، والفلسفية...).
إن عمر هذه الحقائق أطول من عمرنا، لا تتغير جوهريا إلا خلال المدى الطويل، ومن المؤكد أن حياة الأمم، والحضارات والسلوكيات النفسية أو الدينية تبدو أقل ثباتا، ولكن مع ذلك، فإن أجيالا تعاقبت من دون أن تغير منها كثيرا، وهذا لا يقلل من القوى العميقة التي تعيد صياغة العالم، كما يحلو لها..
إن الحضارات الكبرى بصفتها، أطر معقولة تتجاوز الحركات السريعة للتاريخ، إن للحضارات شخصيات خاصة، تتجاوز أعمارها كما يمكن تصوره، وهي تواصل العيش في كل واحد منا، وستواصل العيش بعد أن نفني. (2)
إن الأزمنة التاريخية متعددة (بطيئة وسريعة وممتدة الحلقات) إلا أن أي محاولة للقيام بتفسير لتاريخ الحضارات تفرض تنويع الصورة المتعددة، من حيث نوعية الزمن، وذلك بصهر كل تلك الأزمنة المتعددة والصور ضمن بوتقة واحدة .. (3)
– 2 –
حول معنى كلمة "حضارة" مازال هناك جدل عريض بين الباحثين الغربيين، وقد وصف العالم الإنجليزي تيلور (Taylor) في القرن التاسع عشر الحضارة بأنها، ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعارف والعقيدة والفن والقيم الأخلاقية، والقانون والتقاليد الاجتماعية، وكل القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع.(4)
ظهرت كلمة حضارة في فرنسا في القرن الثامن عشر، وتم اشتقاقها من نعت (Civilisé ) ومن فعل (Civiliser) وهما موجودان منذ أمد طويل ومستعملان في القرن السادس عشر ف (حضارة) لفظة قانونية تعني آمر له علاقة بالقضاء، وحكما، يجعل من قضية إجرامية قضية مدنية..
أما العبارة الحديثة التي تعني الانتقال إلى الوضع "المتحضر" فإنها ظهرت متأخرة عام 1752 على لسان تورغو (Turgot ) وقد وردت في مصنف لميرابو (Mirabeau) حول السكان ...
أما فولتير فرغم أنه لم يستعمل كلمة حضارة، فإنه هو من تصورها في كتابه (العادات وروح الأمم).
Essai sur l’histoire générale et sur les mœurs et l’esprit des mations (1756)
إن كلمة حضارة في معناها الجديد هي نقيض لكلمة بربرية (أي توحش) فهناك شعوب متحضرة وشعوب متوحشة.
وهكذا برزت الكلمة، فإن نعوتا مثل (Civilisé, civil, policé, poli) التي تطلق على كل ما يتحلى بالكياسة واللباقة...، وحتى كلمة police فهي تعني النظام الاجتماعي، الأمر الذي ينأى بها عن نعت poli الذي عرفه صاحب القاموس العلمي (Furetière) (1960) بأنها تستعمل مجازا في مجال الأخلاق، وتعني المتحضر والتحضير، وترطيب العادات والتقاليد والتمدين، وإسباغ الطابع الإجتماعي، وليس هناك ما هو أنقى من الحديث النسائي، لتحضير الشباب وصقله. (5)
لقد ارتبطت كلمة "حضارة" في أوروبا بكلمة ثقافة، وأكدت تقريبا نفس المعنى وظلت كلمة ثقافة مرادفة لكلمة حضارة في جامعة برلين عام 1830. وكان هيجل يستعمل الكلمتين بنفس المعنى ...ثم ظهرت الحاجة إلى التفريق بينهما...، إن كلمة حضارة تعني في الوقت نفسه قيما أخلاقية وقيما مادية..
لقد أفضى التمييز بين الكلمتين، ثقافة، وحضارة إلى إعطاء الأولوية إلى مفهوم الثقافة (Kultur) ويرى تونيس (Atonnies) (1922) والفريد فيبر (َA-Weber) 1935 بأن الحضارة ليست، سوى مجموعة من المعارف التقنية، والممارسات ومجموعة الوسائل لتغيير الطبيعة أما الثقافة فهي على العكس المبادئ القيمية والقيم والمثل أو باختصار "الروح". (6)
إن علماء الاجتماع، يعتبرون مفهوم الحضارة مفهوما متميزا ومستقلا عن مفهوم الثقافة، فالحضارة عندهم هي مفهوم النظم والمؤسسات، والأشكال السلوكية الاجتماعية المشتركة بين فئات المجتمع. بما فيها النظم السياسية والاقتصادية، والتربوية والإدارية، والقضاء والقوانين السادة.
أما علماء الاتنولوجيا، فالحضارة مفهوم يرادف الثقافة تماما لأنه ليس في وسعنا، بحث الحضارة، إلا من خلال ثقافة تسكنها ومن خلال سلوك اجتماعي سائد تمليه قيم أخلاقية متصلة بالعقيدة أو بأي مذهب إيديولوجي.. (7)
ونخلص من المقارنة بين المفهومين أن الحضارة تخص وسائل الإنتاج المادية، وأما الثقافة، فتخص القيم ولمعتقدات، والمنظومات الفكرية السائدة لدى المجتمع، وهذا هو رأي علماء الاجتماع أما علماء الحضارة فيرون أن الثقافة ترادف الحضارة، وبالتالي فهناك ترابط بين الوسائل والأدوات المستعملة، والمهارات والمهن، والتكنولوجيا، والقيم الثقافية والأخلاقية المؤثرة في السلوك الإنساني...
ورغم أن المفاهيم المستعملة، في هذا السياق لا تخلو من التباس وغموض، لدى الباحثين المتخصصين في علم الاجتماع أو الانتنولوجيا باعتبار أن لكل مقولة مدلولها الدقيق الذي يعني مضمونا محددا إلا أن التدقيق في المقولات المتعددة بالقياس إلى قواعد علم الحضارات (Grammaire des civilisations) سوف تكشف لنا بأن جميع العوامل الثقافية والحضارية، متكاملة فيما بينها، ومترابطة بعضها مع بعض.
وبالنظر إلى أن الحضارة ظاهرة إنسانية عامة، فإنها بالمعنى العام هي ثمترة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء كانت الثمرة مادية أو معنوية. (8)
لما استقرت الجماعات البشرية أخذت تصنع الحضارة بادئه بالزراعة، التي تعتبر الخطوة الأولى في تاريخ حياة البشر ومن ثم، فإن الاستقرار نفسه، يعني ميلاد الحضارة والحضارة في اللغة العربية، من فعل "حضر" الذي هو نقيض الغياب أو المغيب، وفي لسان العرب حضر، يحضر، وحضور، وحضارة، والحضر خلاف البدو، والحاضرة الإقامة أي الإقامة في الحضر، وما يستتبعها، من التعاون والتآزر وتبادل الأفكار والمعلومات في شتى شؤون الحياة من علوم العمران والثقافة.
ويقول ابن خلدون بأن الحضارة أحوال عادية، زائدة على الضروري من أحوال العمران ، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة، تفاوتا غير منحصر ويضيف بان غاية العمران، التفنن، في الترف، واستجادة أصوله وفي التأنق في علاج القوت، واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها، من الحرير والديباج، وغير ذلك.
فيتخذون من القصور، والمنازل يجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلفون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم، من ملبوس أو أفراش أو آنية أو ماعون وهؤلاء هم الحضر ومعناه الحاضرون، أهل الأمصار والبلدان ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع، ومنهم من ينتحل التجارة، وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه، من أهل البدو لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم (9)
وإذا كان ابن خلدون، يرى بأن الحضارة نقيض البداوة فإن عددا كبيرا من الباحثين المعاصرين، يرون أن كلمة حضارة تعني كل ما يتصل بالرقي، والتقدم الإنساني في المجالات المختلفة، كاللغة والأدب والفنون الجميلة والصناعة والتجارة وغير ذلك من النشاط الإنساني (إنها مجموعة من النظم والخطط القمينة بإشاعة النظام والدفع بتطوير البشرية الفكري والأدبي) ويرى الفيلسوف ول ديورانت، بأنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة، من إنتاجه الثقافي والتطلع إلى فهم الحياة وازدهارها.
وهناك من يرى بأن كلمة ثقافة التي تعني في اللغة العربية التقويم والحذق والاستقامة، يجب أن تكون دالة على الجانب الفكري من الحضارة، ومن ثم فإن عبارات (culture civilisation civile) تعني ضرب من السلوك المهذب الذي هو من خصائص المدينة..، وإجمالا فإن الحضارة عبارة عن تركيب وجداني يتضمن القيم الروحية العليا الأخلاقية والجمالية التي تسهم في بلورة فلسفة القيم الحضارية التي تعبر عن الروح العميقة للمجتمع كما تساهم في رسم الغايات المثلى للحياة..
– 3 –
إن التفسير الحضاري للتاريخ تقدم في مجال الموضوعية، والشمول باعتماد للنظرة الكلية وذلك من أجل إدراك عميق لمقومات الحدث التاريخي.
فإن رصد لحركة التاريخ، لابد أن ينبثق عن موقف موضوعي شامل بربط، ويوازن العلاقة المتبادلة، بين سائر القيم التي تصنع التاريخ، مادية وروحية. (10)
ومن ثم فإن الحضارة، لا تصنعها، قوة واحدة، فيجب أن ننظر إلى جميع المكونات، وأن لا نغفل أي عنصر منها، سواء تعلق الأمر بالعوامل الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الجمالية أو العقلية أو الدينية كلها تشكل كتلة متجانسة وحية (Living totality ).
وإذا كان التطور بحسب هيجل هو نتيجة صراع المتناقضات، فالحضارة التي هي تركيب مؤلف من المعرفة (الخبرات) والعقيدة، والأخلاق، والفن والقوانين والعادات سوف تتحول بفعل جدلية التطور إلى درجة أرقى، أما المؤرخ أرنولد تونبسي فقد وضع نظريته التحدي والاستجابة لتفسير حركة التاريخ، فبحسب التونبي، فإن الحافز الذي أدى إلى نشوء الحضارات نتج عن التحدي الذي واجهت به الجماعات البشرية عوامل البيئة أي أن الحضارات، نشأت عن نوع من التفاعل الخلاق بين عوامل مختلفة (جغرافية وعرقية ومناخية...)
ويعرض تونبي لعمليات التحدي، والإستجابة، وأثرها في نشوء الحضارات حيث يبين، أن أصول هذه العلاقة تتجلى، في التراث الديني الميتولوجي حيث قام اصطراع خلاق ، وهو نتيجة الاستجابة الظافرة للتحدي المقلق وعلى ضوء الشواهد التاريخية يفسر عملية النشوء الحضاري. (11)
بعد انتهاء العصر الجليدي، فإن الجماعات البشرية في جنوب آسيا و شمال إفريقيا كان التحدي الذي قررت الاستجابة له، تغيير بعض عاداتها. فالقبائل التي استجابت بنزوحها إلى الجنوب وراء المراعي حافظت على نمط معيشتها البدوية، أما القبائل التي استجابت للتحدي برحيلها إلى وادي النيل، حيث النهر العظيم، والدلتا الخصبة والمناخ الملائم، واستقرارها هناك بعد أن كافحت عوامل البيئة وتغلبت عليها، وسخرتها لأغراضها، أنشأت الحضارة المصرية ونفس الظروف والعوامل، قد سببت نشأة الحضارة السومرية فيما بين النهرين، وإن كانت طبيعة الحضارتين، مختلفة..
ونفس التحدي أنشأ الحضارة الصينية على ضفاف حوض النهر الأصفر فقد ظل الصينيون قرونا طويلة يكافحون الأدغال والغابات، والوحوش والحشرات، والفيضان، أملاح التربة، حتى استطاعوا في آخر الأمر تحويل تلك البراري الموحشة إلى حقول خصبة. (12)
ونستنتج من الشواهد السالفة أن الدافع الحيوي في عمليات النشوء الحضاري هو الاستجابة الظافرة لتحدي البيئة...، وليس دور النمو، امتدادا طبيعيا ملازما لدور النشوء فبين المجموعات الحضارية، عدد من المجتمعات التي توقفت عن النمو لعجزها عن مغالبة التحديات القاهرة، في بيئتها الطبيعية أو البشرية الصارمة، لأن الاستجابات الناجحة، إنما يجب، أن تستثير تحديدات جديدة تتبعها استجابات جديدة، ناجحة، وهكذا يتكامل النمو(13)
وحتى تتبع الحركة وتطرد يجب أن يكون هناك دافع حيوي يدفع الفئة المتحداة من التوازن إلى التضعضع ، ومن التضعضع إلى التوازن وهكذا إلى ما لا نهاية في مجال الممكن. (14)
إن إنحلال الحضارات يرافقه فساد في روح الناس، وتغير جذري يطرأ على سلوكهم، ومشاعرهم وحياتهم كلها.
مما يترتب عنه فوضى تعم الأخلاق، والعادات وانحطاط يسود الآداب والفنون.
وذلك من منطلق أن الحضارات كيانات جميع أجزائها ملتحمة، ومؤثرة بعضها، في البعض الآخر ومن خصائصها في طور النشوء، أن تكون جميع نشاطاتها الاجتماعية، ومظاهرها المختلفة، موحدة في بوتقة واحدة وكيان اجتماعي منسجم بمكوناته، وعناصره الاقتصادية والسياسية والثقافية، باعتبارها القوة الدافعة لعجلة التطور والتقدم والنمو الحضاري..
تحول مفهوم كلمة حضارة بحدود 1819 من صيغة المفرد، إلى صيغة الجمع، واتخذت معنى جديد، مغاير تماما، هو مجموع السمات التي تتصف بها الحياة الجماعية أو العصر..، صيغة الجمع هي التي تفرض نفسها، بالنسبة إلى ذهنية، رجل من القرن العشرين، والأكيد وجود حضارات، لا حضارة واحدة. (15)
إن استعمال صيغة الجمع هو نتيجة لتراجع المعنى الذي راج خلال القرن الثامن عشر، والتي مفادها أن الحضارة مرادفة للتقدم، ومقتصرة على بعض الشعوب والأمم.
والحق أنه يصعب تحديد أي حضارة أفضل، ووفق أي مقاييس ومن هذه الزاوية فقدت الحضارة بصيغة المفرد مضمونها، ولم تعد كما كان الشأن في القرن الثامن عشر الأوروبي أعلى قيمة أخلاقية وثقافية، وفي هذا السياق يرى المفكر الفرنسي ريمون ارون بأننا نعيش مرحلة اكتشفنا فيها نسبية مفهوم الحضارة، والتجاوز الضروري لهذا المفهوم نتيجة لكون مرحلة الحضارات اكتملت، فإن البشرية بصدد الانتقال إلى مرحلة جديدة (الحضارة الكونية)(16)
إن ظاهرة انتشار الممتلكات الثقافية المشتركة لكل البشرية شهدت في العالم زخما فريدا من نوعه فهل ستوحد التقنيات الجديدة العالم بفرضها على المجتمعات السمات نفسها (مدن ضخمة عمارات من الاسمنت والبلور، مطارات، وسكك حديد...) ومن ثم تتواصل حضارات العالم وتترابط، فيما يتعلق بتقنياتها ، أو بعض أصناف عيشها ورغم ذلك سنظل إلى أمد طويل حيال حضارات مختلفة إن لكل حضارة قواعد وبالتالي ليس هناك حضارة يمكن فهمها، من دون معرفة المسارات التي تم قطعها، والقيم والمشاعر الدينية وكل ما هو ثابت وناجع في حياة الأفراد والجماعات، ومن هنا ضرورة البحث عن المعطيات الفاعلة، للحضارة في الصيرورة التاريخية، باعتبارها تمثل دائما السمات البارزة والطريقة التي تمنح الحضارات لونها الخاص وكيانها (17).
– 4 –
الحضارات إذن كيانات مركبة من منظومة قيم أخلاقية، وجمالية تعبر عن روح المجتمع وفلسفته في الحياة.. وقد كثر الحديث، عن القيم، والأخلاق، وعلاقتها بأزمة المجمعات المعاصرة، وخاصة المجتمعات التاريخية التي عرفت رجات عميقة. ناتجة عن العلاقات غير المتكافئة، بين قيم جديدة ووافدة، وقيم المجتمعات الأصيلة المتجذرة ومن هنا بدأ الاهتمام ، بالأخلاق، والقيم، في علاقتها، بالتغيرات الاجتماعية.
وقد تناول عدد من المفكرين هذا الموضوع، من بينهم ماكس فبير (Max weber) الذي تطرق إلى علاقة الأخلاق البروستناتينية بالرأسمالية ساعيا إلى تحليل ظاهرة الحداثة الغربية، وكيفية تشكلها. وسريانها في المجتمعات الصناعية، كما تناول الفين توفلر (Alvin toffler) إشكالية القيم، في ترابطها بالصناعة والتكنولوجيا، في كتابه (صدمة المستقبل) وكتابه (الموجة الثالثة)، حيث ناقش الاختلالات، التي تعري المجتمعات. بفعل ثورة المعلومات، وتسارع المد التكنولوجي، وما يولده، ذلك من قيم، وأخلاق جديدة. (18)
وتناول الفيلسوف محمد إقبال الفكر المادي الغربي، وما قام عليه من الحاد وما له من آثر على المسلم المعاصر، في توجيهاته وعلاقاته، وساهم إقبال في تعديل المفاهيم الإسلامية قصد منها بيان القيمة الايجابية، في توجيه الإسلام تحت ضغط الفكر المادي، الطبيعي وسيادته، في أوروبا وانتشاره في العالم الإسلامي.
وقال إقبال بأن أبرز ظاهرة في العصر الحديث، هي السرعة الكبيرة التي ينزع بها المسلمون، في حياتهم الروحية نحو الغرب، ولا غبار على هذا المنزع، فإن الثقافة الأوروبية، في جانبها العقلي، ليست، إلا ازدهارا، لبعض الجوانب الهامة، في ثقافة الإسلام، وكل الذي نخشاه، هو أن المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية، قد يشل ، تقدمنا، فنعجز عن بلوغ كنهها..(19)
إن الحضارة الحديثة تسعى إلى تنميط القيم لتجعلها قيما مشتركة لدى جميع فئات المجتمع، بحيث يمتد هذا التنميط ليمس كل السلوكات الفردية والعائلية، وأنظمة القرابة وأنماط التعايش، والتساكن، والاستهلاك والعلاقة بين الجنسين، وطرق أنماط العيش (المأكل والملبس والمشرب) والعلاقة بين الإنسان والله، والبعد الانطولوجيا، وبعبارة أخرى السعي إلى تغيير فلسفة وجود الإنسان التي من خلالها يرى ذاته ويدرك نفسه ويحدد هويته، وينظم علاقته مع الآخر والكون والله. (20)
إن التنميط الحضاري لا يحدث بمحض الصدفة بل وضعت له إستراتيجية محكمة وراءها رموز مؤثرة، ومراكز بحث وشركات متعددة لها متخصصون استرتيجيون في مختلف أصناف العلوم الإنسانية يعملون في توجيه هذا التنميط..، وفق أساليب وتقنيات، ومقاربات بيداغوجية ومنهجية دقيقة.
وقد عزز قدراتها التأثيرية التطور الهائل في وسائل الاتصال والتواصل إن فهم هذا البعد القيمي – الأخلاقي يتطلب مقاربة تعتمد آليات التحليل السسيولوجي والانتربولوجي والسيكولوجية المعرفية.
إن مما رسخه البحث العلمي المعاصر من قواعد منهجية قاعدة النظر إلى الظواهر الاجتماعية باعتبارها نظاما متفاعلا أي بنيات تحكم العلاقة العضوية.
فيما بينها، وبالتالي، فإن كل ظاهرة، مادية أو نفسية أو اجتماعية هي منظومة محكومة بقانون التفاعل، بين أجزائها، فالعالم ليس عبارة عن ظواهر متناثرة، ولا وحدات منغلقة، على ذاتها، إنما هو علاقات من التفاعل والتجارب، والتقابل، التي يجسدها الاستمرار من جهة، والتطور والتغير من جهة أخرى.. (21)
ومن خصائص الحضارات والثقافات أنها تقوم وتتأسس على منظومة قيم (Système des Valeurs )، وعن طريق هذه القيم تتشكل المكونات أو البنيات والتصورات، التي تحدد نظرة المجتمع وفلسفته في الحياة.
والقيمة تطلق على ما هو جدير بالإهتمام والإعتبار، سواء كانت الاعتبارات اقتصادية أو سيكولوجية أو اجتماعية أو أخلاقية او جمالية.
ويطلق لفظ القيمة من الناحية الموضوعية على ما يميز به الشيء، من صفات تجعله مستحقا للتقدير، فإن كان مستحقا للتقدير، بذاته، كالحق، والخير، والجمال، كانت قيمته مطلقة وإن كان مستحقا للتقدير من أجل غرض معين، كالوثائق التاريخية والوسائل التعليمية كانت قيمته إضافية.
ويطلق لفظ القيمة في علم الأخلاق على ما يدل عليه لفظ الخير، بحيث تكون قيمة الفعل تابعة لما يتضمنه من خيريته، وتنظر فلسفة القيم، في قيم الأشياء، وتحللها وتبين أنواعها وأصولها، فإن فسرتها، بنسبتها إلى الصور المرتسمة، في الذهن، كان تفسيرا مثاليا وإذا فسرت بأسباب طبيعية نفسية أو إجتماعية، كان تفسيرها وجوديا وخير تفسير للقيم إرجاعها إلى أصلين، أحدهما مثالي والآخر وجودي، باعتبار أن القيمة والوجود يعبران عن حقيقة واحدة وتعتبر الفلسفة الأنطوجية (Ontologie) بأن وجود الشيء مبدأ قيمته، وأن معيار كما له وخيريته هو حصوله على الوجود الذي يخصه أما نظرية القيم (Axiologie) فتعتبر أن قيمة، أي سبب كان يوجب وجوده ولو لم يكن ومن المعلوم أن نظرية القيم تبحث في طبيعة القيم وأصنافها ومعاييرها وهي باب من أبواب الفلسفة ترتبط بالمنطق، وعلم الأخلاق، وفلسفة الجمال، والإلهيات..
والخلاصة أن لفظ قيمة يدل على قوام الشيء أو الأمر، أي الصفات والخصائص، التي يكون بها الشيء هو ذلك الشيء ويكون الأمر هو ذلك الأمر، وهنا يتطابق معنى القيمة ومعنى الخلق والخلق و"الأخلاق" أي ما يخلق عليه الإنسان من صفات وطبائع، راسخة تصدر عنها الأفعال من غير فكر وروية وهناك من يرى بأن الخلق هو الدين والطبع، والسجية وتتجلى حقيقته في الصور الباطنية أو الظاهرة للإنسان، ولها أوصاف قبيحة أو حسنة.
ويرى بعض الفلاسفة أن القيم مجرد صفات عقلية، يصف بها الناس الأشياء إذا كانت لها في نظرهم قيمة أو اعتبار وأن قيمة الأشياء تتغير، تبعا لتول اعتبار الموجد.
وبهذا الصدد يقول الفيلسوف، "نيتشه"، بأن الإنسان هو الذي أوجد للأشياء معانيها ومن ثم، فالقيم الأخلاقية تتغير، بتغير الأشخاص والناس الذين وضعوها ومن هنا فإن نتشه ينكر وجود حقائق أخلاقية، فهناك فقط تفسيرات إنسانية. (23)
وترى طائفة أخرى من الفلاسفة أن للقيم وجودا مستقلا، عن العقل، ويعتبر بعضهم أن القيم جوهر الأشياء، ولولا القيم، لما كانا الوجود إلا قشورا، لا نواة فيها.
– 5 –
إن الحكمة العملية، التي سماها الفارابي "العلم المدني" تضم الأخلاق، ثم الاجتماع، والسياسة، ثم التاريخ، فالعلم يسبق العمل والعمل مثال للعلم، العلم مقدمة والعمل نتيجة، وترتبط الأخلاق بالنفس، والفضائل بقواها حتى أنه يصعب الفصل بينهما، ثم تتحول الأخلاق الفردية إلى أخلاق اجتماعية وسياسية.. (24)
إن العقل الأخلاقي يؤسسه، ويوجهه، نظام القيم وليس النظام المعرفي.
وهناك اختلاف بين العقل "السياسي" والعقل "الأخلاقي"، فالعقل السياسي موضوعه السياسة، كما وقعت وتقع بالفعل أما السياسة كجزء من العلم المدني (الأخلاق) فالمقصود به السياسة كما ينبغي أن تكون أي كيف تمارس السياسة لتحقق الهدف الأخلاقي الإنساني المطلوب منها، وهو السعادة والخير للجميع. (25)
إن القيم في كل ثقافة تشكل ليس فقط منظومة أو منظومات بل هي نظام (ordre) بمعنى ترتيب أو سلم ذلك أن القيم في كل ثقافة ليست في مستوى واحد، بل هناك قيم أساسية أو رئيسية، تتفرع عنها قيم أخرى أدنى منها مرتبة ويمكن التمييز في كل ثقافة بين ما ندعوه "القيم المركزية التي تنتظم حولها جميع القيم، في عصر من العصور، وبين القيم الأخرى المندرجة تحتها. (26)
إن القيم في مجال الأخلاق تعني الحق والجمال، والخير، وتستعمل بصيغة الجمع، غالبا لأنه ليست هناك قيمة واحدة، مفردة، في الميدان الاجتماعي والجمالي، والأخلاقي، بل مجموعة من القيم، تشكل سلم القيم (échelle des valeurs) وهذا السلم هو المرجع للحكم على شيء، وتقويم السلوك الفردي أو الجماعي.. ثم إن المجتمع هو الذي يحول القيم إلى نظام يفرض نفسيه على أعضاء المجتمع.
إن القيم الأخلاقية تعلو على جميع القيم الأخرى، وبالتالي فإن نظام القيم هو بالدرجة الأولى معايير، للسلوك الاجتماعي والتدبير السياسي، ومحددات لرؤية العالم.
وهكذا فإن مضامين الألفاظ التي يعبر بها عن الأخلاق في هذه الثقافة أو تلك، إنما تتحدد بناء، على نظام القيم السائدة في الثقافة المعينة. (27)
الإنسان هو الموجود الوحيد الأخلاقي، لذا ينبغي أن تتجلى الأخلاقية في كل فعل، من الأفعال التي يأتيها حتى إنه لا فرق بين فعل تأملي مجرد وفعل سلوكي مجسد.
إن الخلق صفة موضوعية تدركها الذات ، إدراكا مباشرا، بفضل شعورها الأخلاقي (تحدسها أو تستبصرها) (28)
لقد فرق بعض الفلاسفة بين كلمة (Morale) وتعني الأوامر والنواهي المقررة، ولفظ (éthique) وتعني العلم الذي ينظر في أحكام القيمة التي تتعلق بالأفعال إن تحسينا أو تقبيحا، والحال أن الأولى لا تختلف عن الثانية، بحيث لا يمكن أن تصح دعوى الافتراق بين طريقة الحياة، والامتثال للواجب.. (29)
إن اضطراب المفاهيم الأخلاقية، يرجع إلى كون الفلاسفة غلب عليهم الاشتغال بها، من دون ردها إلى مجالها الحقيقي الذي تنتسب إليه (أي المجال الديني) فبقيت متأرجحة لا يستقر بها قرار، فالمجال الديني يجمع إلى عنصر الإنسانيات، عنصر المعنويات، وعنصر الغبيات.. فكل مفهوم ديني هو في نفس الوقت مفهوم إنساني ومعنوي وغيبي، ومن ثم تكون هذه المفاهيم إنسانية معنوية، غيبية لا تقل نسبتها إلى الغيبي، عن نسبتها إلى الإنساني (لا أخلاق بدون غبيات، ولا دين بدون غبيات)، وهكذا تكون أسباب الأخلاق موصولة بأسباب الدين حتى أنه، لا حدود مرسومة بينهما والأخلاق إنما هي فعل، من الأفعال تصدر عن ملكات الإنسان التي أشربت بالروح الدينية، بحيث لا مجال للانفكاك عنها. (30)
وإن من يتأمل الصلة بين الأخلاق والدين يجد أنه لا يمكن حصرها في وجه واحد، بل لها وجوه عدة (تاريخية، أو نفسية أو اجتماعية أو معرفية) أي وجود مبادئ، ومعايير أولى، تنزل منزلة الأصول التي تتفرع أو تتأسس عليها، سواهما.
وقد تكون علاقة كيانية (وجودية) علة وجودها، مشرع إلهي أو إنساني يضمن نفعا للأفراد والجماعات... (31)
إن وراء غاية الحياة البشرية قيما مرجعية، هي أساس التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، والتخلي عنها، لا يزيد الأزمة الحضارية إلا تعقيدا.. فلا يمكن إثبات المسؤولية الأخلاقية ما لم نأخذ بعين الاعتبار، أن سلوك الإنسان، يعد هادفا، أي أنه ينطوي على رغبة في تحقيق قصد معين (ينطلق من حرية الإرادة وحرية الاختيار بين عدة أهداف)، بحيث ينطوي الاختيار على تصور مبدئي عن شيء يعد قيمه في حد ذاته وفي جميع الأحوال فإن السلوك الإنساني الهادف إلى نشدان قيمة أو استشراف مثل أعلى يعمل الإنسان في ضوءه على الاقتراب ، من نموذج الكمال الذي ينشده.
إن نفي القيم المرجعية، ينفي في نفس الوقت ما حققه الإنسان من مكاسب حضارية، ومؤسساتية.
فالإنسان كائن أخلاقي، في المقام الأول أي أنه مسؤول عن أفعاله ومصيره وعن تحقيق الكمال الممكن، لطاقاته، وملكاته مؤهل للتمييز بين الخير، والشر، وهو يقيم الوقائع التي تجرى من حوله في ضوء الغايات التي ينشدها، وهذا الكمال هو الذي يتعلق به وجدان كل إنسان، باعتباره قيمة تفرض نفسها على عقلنا المعياري. (32)
– 6 –
إن علم العمران أو علم قواعد الحضارات، يدرس الشخصية الحضارية للمجتمعات، بجميع مكوناتها، باعتبار أن الحضارة عصارة التفاعلات.
في ميادين الإبداع الإنساني على اختلاف مناحيه، كما أنها تعبير عن منظومة العقائد، والقيم والمبادئ المؤثرة في النشاط البشري وما يتولد عن ذلك من ميول ومشارب، وأذواق، وأسلوب للحياة، ومنهجا للتفكير ومثالا يحتذى وتنشأ الحضارة من تفاعل ثقافات متعددة المشارب، تشكل خصائصها شعوب، من أعراق شتى، تنتمي إلى ثقافات متنوعة ومن ثم لا ترتبط، بجنس من الأجناس..، على الرغم من أنها قد نسب إلى أمم من الأمم أو منطقة جغرافية من العالم على سبيل التعريف، وبالتالي فإن الحضارات، ملك للبشرية جمعاء عالمية المضمون ساهمت في صنعها إرادات متميزة التفكير، والممارسة..
والحضارات المتلاقحة، هي التي تنمو وتتطور، ويطول عمرها وتنتشر عبر المعمور (فالحضارات الروحانية، تأثرت بمادية الحضارات الأخرى، والحضارات المادية تأثرت بروحانية الغير...)
ولكل حضارة مبادئ عامة وقيم أخلاقية محورية توجهها تنبع من عقيدة دينية أو فلسفة وضعية..، تصطبغ الحضارة بصبغة هذه العقيدة وتنسب إليها لصحة المبادئ التي تستند إليها والحضارات الكبرى التي عرفتها البشرية عبر التاريخ الطويل، تتفاوت فيما بينها في موقفها، من المادية والروحية.
إن الحضارة تتجدد بتصريف القدرات وتوظيف الملكات، وتستمر، كلما تواصل إيداع الإنسان، وتم تسخيره الأقوم لإرادة الفعل المؤثر والمثمر.
كما أن الرغبة في الإصلاح، والتجديد تعد القوة البانية والمحركة للتحضر والعمران.
وتنزع الحضارة إلى العالمية أي إفساح الفضاء العالمي للإنسان وأفكاره، ومعلوماته، وممارسته وتوجهاته من محيطه الضيق إلى فضاء أرحب، ينتقل عبره الإنسان وجميع الأفكار والمعلومات والمذاهب والأديان بلا قيود ولا حدود ليصبح الفكر البشري عاملا، مؤثرا ومتأثرا بالمحيط العالمي..
وليصبح العالم كله وطنا شاسع الأرجاء، وفضاء واسعا مفتوحا، لعمله، وحركته، وتنقلاته. (33)
نزعة العالمية بمعنى الانتماء إلى العالم (universalisme) قديمة نشأت مع الإنسان منذ عهوده الأولى، وإنما كان الغرض منها في الأغلب تحقيق الاستفادة والتبادل بحكم أن تغيير المحيط يخلق ظروفا أفضل وشروطا تضمن تحقيق المنافع للأفراد والجماعات.
وفي رحاب العالم المفتوح انتشرت القيم المشتركة بين البشر حيث يتم التلاقح، والتبادل والتأثير، والتأثر الأمر الذي يؤدي إلى إحساس مشترك، بين الحضارة العامة والحضارات الفرعية ويمكن من التقارب بين الثقافات المختلفة من خلال الرؤية الكونية الشاملة للنفس والإنسان، بكل ما تنطوي عليه الحياة ، من المظاهر الروحية والاجتماعية والانجازات المادية إن للحضارة بعدا روحيا يتمثل في القيم الأخلاقية والدينية العميقة الجذور في النفس الإنسانية وهي التي ترسم للحياة غايتها المثلى.
إن الحضارات الدينية بصفة عامة، تقوم على التفسير الديني للنشاط الاجتماعي سواء تعلق الأمر بالأعياد والمناسبات الاجتماعية أو بمبادئ الحكم والسياسة، والأخلاق والمعرفة فإنها تستمد فلسفتها من التفسير الديني ومن لمعروف أن التصورات الجمالية المتصلة بالفن قد نشأت في ظل الدين متأثرة بإلهامه واتجاهاته فالنحت، والتصوير والموسيقا، والشعر، والفنون المعمارية، في جميع الحضارات، ترتبط بالدين وتعمل على تعميق المشاعر الدينية.
كما أن التأثير الديني ، طال النشاط العقلي، أيضا فنتج عن ذلك فلسفة لا هوتية، استطاعت أن تكون محور الثقافة في العصور الوسطى التي هيمن فيها التوجه الديني على الحضارات.
أما في العصر الحديث فقد اتجهت أوروبا اتجاها إنسانيا، أخذ بالتحرر من سلطان الكنيسة ويتأثر بطابع الحياة المعاصرة... (34)
وقد انتقد اسبنجلر، صاحب كتاب تدهور الحضارة، وألبرت شفتزر في كتابه الحضارة والأخلاق (civilisation and Ethics ) الحضارة الحديثة حيث استحال العالم الطبيعي إلى عالم صناعي يخلو من الروح، والحياة وينعي شفتزر (Schweitzer) على الحضارة الحديثة، ما انحدرت إليه من تدهور في القيم العليا، حتى فقد الإنسان جوهره الروحي، في حين أن الجانب الأخلاقي أساسي في قيام الحضارات. كما رفض فكرة التقدم الذي يقوم على أساس ميكانيكي تفرضه عوامل التاريخ الاقتصادي. (35)
– 7 –
إن النظر إلى نشوء الحضارات عبر التاريخ الطويل للإنسانية يوضح لنا بجلاء بأن ظهور الوعي التاريخي لدى الجماعات البشرية هو الذي خلق وحدة الشعوب والحس الجماعي، ومن هذا الشعور تكونت وحدة الرؤية التاريخية والحضارية.
وهذا الوعي نشأ بفعل عاملين أساسيين:
الأول: دين عام يقدم للجماعة الإنسانية تفسيرا لمغزى الحياة والوجود.
الثاني: يتمثل في التشكل الاجتماعي المتماسك الذي يحدد للجماعة أهدافها وغايتها وسيرورتها التاريخية.
ويحتاج المجتمع لكي يتحقق عنده وعي ما بفكرة التاريخ أن تكون لديه فلسفة للحياة دينية تفسر مغزاها أو سياسة تبرر حركتها. (36)
وضمن هذا الإطار نطرح السؤال: كيف يرى المسلم نفسه كفاعل تاريخي وحضاري؟
إن الحضارة الإسلامية هي نتاج امتزاج وتلاقح وتفاعل ثقافات وحضارات الشعوب التي دخلت الإسلام سواء إيمانا واعتقادا أو احتكت به أو انضوت تحت لوائه أو انصهرت في بوتقة القيم التي جاء بها الإسلام ومن تم فإن حضارة الإسلام هي حضارة شاملة جامعة للأقياس والقوميات جميعا التي كان لها نصيب في قيام هذه الحضارة وفي ازدهارها وتألقها وفي امتداد تأثيرها عبر العالم الذي شهد اتساع إشعاعها وامتداد نفوذها خلال العصور السالفة.
ويرى الدكتور عبد العزيز التويجري بأن الحضارة الإسلامية تستفرد بخمس خصائص تكسبها الطابع المميز لها بين الحضارات الإنسانية المتعاقبة في الماضي وفي الحاضر على السواء وهي:
1-إنهاء حضارة إيمانية انبثقت من العقيدة الإسلامية فاستوعبت مضامينها وتشربت مبادئها واصطبغت بصبغتها فهي حضارة توحيدية.
2-أنها حضارة إنسانية المنزع، عالمية، في آفاقها وامتداداتها تحتوي جميع الشعوب والأمم وتصل آثارها إلى مختلف البقاع والأصقاع يستظل بظلالها البشر جميعا ويجني ثمارها كل من يصل إليه عطاؤها.
3-إنها معطاء أخذت واقتبست من الحضارات والثقافات الأخرى التي عرفتها الإنسانية وأعطت عطاء زاخرا بالعلم والمعرفة والفن الإنساني الراقي، وبقيم الخير والعدل والجمال والفضيلة.
4-إنها حضارة متوازنة وازنت بين الجانب الروحي وبين الجانب المادي في اعتدال وهو طابع وميزة من مزايا الحضارة الإسلامية فلا غلو في غير وجه وحق وإنما هو الإعتدال الذي هو صميم العدالة التي تقام في ظله موازنين القسط.
5-إنها حضارة تستمد بقاءها من الإسلام الذي قامت على أساس مبادئه فهي حضارة متجددة دائمة الإشعاع تتعاقب أطوارها وتتجدد دوراتها ... (37)
الإسلام دين ودعوة للناس كافة، ورابطة روحية تضم جميع الأنواع والسلالات... وهذه البينة العلمية والواقعية "عمومية" الدين بينة ينفرد بها الإسلام بين الأديان كافة، لقد حول إليه أعرق أمم العالم في تاريخ الحضارة فارس ومصر أولاهما مما كانت تؤمن بإله واليوم الآخر والحساب والعقاب وغلبة الخير على الشر وخلود الروح وثانيتهما كانت تدين بالمسيحية وتحمل لواءها في العالم القديم..
وبهذه العزيمة ينفرد الإسلام بين الديانات وهي آية العالمية والصلاح لدعوة الأمم جمعاء.
إن الوقائع العملية هي الشهادة للإسلام بالصبغة الإنسانية العالمية ولا حاجة للدين إلى شهادة أخرى متى ثبت له تاريخه الأول أنه يضم إليه شعوبا من جميع السلالات والعقائد ومن جميع الأطوار في الحضارة المعيشة البدائية، وإن كتابه يخاطب الناس كافة ويوجه الرسالة إلى كل سامع. (38)
الحضارة الإسلامية كان لها أثرها المحمود في الأمم التي عرفتها كما أن أثر الإسلام لمن دنوا به معجزة لا نظير لها بين معجزات التاريخ أنه حفظ لهم قوة من قوى المقاومة لم تنهزم أمام الدول العاتية المستعدة لإخضاع من يقاومها بالمال والعلم والسلاح.
إن مصدر هذه القوة بعد أن ضاع المجد والسلطان بل ضاع العلم والثقافة والتجرد من كل سلاح أمام المستعمر المزود بكل سلاح، إن مصدر هذه القوة العقيدية الإسلامية والسر يكمن في أنها انفردت بمزية لم تكن لدين آخر ولا لثقافة أخرى وتلك المزية هي أنها عقيدة شاملة.
فهي عقيدة ونظرة إلى الدنيا ونظام معيشة وآداب وسلوك وهي لهذا لا تدع للإنسان جزء يسلمه للحاكم الأجنبي. وليس أقوى من عقيدة تحفظ للنفس وحدتها وتعصمها من أن تتمزق بددا أو تتفرق شيعا كلما زالت دولة أو تغيرت طوابع الزمن.
فقد حفظت للمسلمين وجودهم واستطاعوا بها حين آلت الحضارة إلى غيرهم أن يصمدوا لسيطرتها ويزيد هذه القوة أنها لا تقاوم الحضارات إذا جاءت من جانب غيرها فهي موافقة لتقدم الحضارات، وليست عائقا معترضا في سبيلها، لأنها مالكة لأسباب التجديد كلما وجب التقدم من طور قديم إلى طور جديد ولا داعية للتخلف عن ركب الحضارة في عهد من العهود كائنا ما كان رائدها على تعاقب الأجيال. (39)
ولا يمكن فهم مستقبل الأمم والتفكير بمشاريع الإصلاح والتغيير لواقعها إلا بالإحاطة بعقيدتها وقيمها وتاريخها وتحديد مدى قدرتها على ترجمة المبادئ والقيم إلى برامج وأفعال وتنزيلها على الواقع.
إن جذوة الحضارة تستمد قوتها من المبادئ والقيم التي تنبثق منها وتكسب شروط البقاء من خلال تفاعلها مع الثقافات والحضارات الأخرى.
وإن منظومة القيم المرجعية هي التي تمنح الحضارة السمات البارزة للشخصية الحضارية الذاتية.
وإذا كانت الحضارة مريضة روحا فإن المجتمع يعاني من المرض ذاته.
إن الغرب الآن يحلم بالكوابيس تحت أنقاض الدنيا المعنوية التي هدمها بنفسه وجعلها خرائب في قلوب البشر. إن العالم يحاول أن يسلي نفسه بالمنجزات الحضارية والتكنولوجية هنا وهناك وأن يسري عن غمه بالثروة والراحة وأحيانا، ولكن من البديهي أنها لن تمنح الإنسان سعادة مستمرة أبدا ولن تلبي رغبة البقاء والخلود المكنونة في أعماقه.(40)
إن مستقبل الإنسان وبالتالي الحضارة العالمية رهين بامتلاكها آفاق روحية رحبة تحرر الضمائر من سلطان الحضارة الحديثة والدنيوية الضيقة والكدر والقسوة والكراهية ويلم ما تبدد من وجدانه فبتوحيد النفس الإنسانية يتوحد عالم الأرواح وعالم الأجساد.
إن الحضارات التي أذهلت العقول بثقافتها الباهرة لم تظهر فجأة من غير مقدمات وإنما ولدت بعد حضانة طويلة في عالم المشاعر والأفكار فترعرعت حتى صارت عمقا مهما لطبائع الشعوب ولونا ظاهرا لحياتها، فهيمنت على جميع مناحي حياتها (في المعبد والمدرسة والبيت ...) فقد كانت تطوعهم وتأسر إرادتهم.
وإن الأمم التي أرست قواعدها على أساس ثقافي بهذه الرصانة فإنها بمرور الوقت ستتخطى كل العقبات التي تعرض طريقها كالجهل والفقر والتشرذم والتسيب والضغوط الخارجية.
ونستنبط من هذا أن على الأمة أن لا تغض الطرف عن جذورها المعنوية في جميع فعالياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن لا تنسى البتة الرسالة الهادفة لثقافتها الذاتية في مواجهة تحديات عصرها. (41)
إن الحضارة في جوهرها قوة بناء تقوم بها الإرادات الحرة، والعقول النيرة والقلوب اليقظة المتأججة شوقا إلى الآفاق الإيمانية الرحبة.
وصفوة القول في الموقف الذي يطيب فيه النظر إلى الغد، كما يطيب فيه النظر إلى الأمس، من طرف المتأمل في تاريخ الحضارات وأطوارها، ودوراتها، أن للحضارة نظام قيمي محوري، يحدد غايتها وأهدافها، ومدى قدرتها على السمو الروحي والتطور المادي..
ومتى اختلت الموازن الناظمة لعالم الروح أو لعالم المادة فإن الإنسان سيكون عاجزا عن طلب الحياة الفاضلة ونشدان السعادة، والتطلع إلى الكمال..
إن غياب القيم وتنميطها أو عولمتها، سيؤدي لا محالة إلى قولبة الكائن الحي بصورة عمياء ..
إن الإنسان خلق لغاية وهذا يحتاج إلى بعد نظر والضمير الديني يهدي الإنسان غاية الهداية حين يعصمه من أن يتشيأ أو يتحول إلى آلة صماء ..
والقيم التي تؤسس للحضارات تعلو على نظم الاقتصاد وبرامج السياسة أو أي حذلقة تتعلق بأطراف المبادئ وأهداب القواعد والنظريات ..
–
الهوامش:
1) فرنان بروديل، قواعد لغة الحضارة/ ترجمة د/ الهادي التيمومي المنظمة العربية للترجمة / ط -1-2009 / ص 48.
2) نفس المصدر، ص 49
3) نفس المصدر، ص 51
4) د/ عفت الشرقاوي- فلسفة الحضارة الإسلامية / دار النهضة العربية 1979 – ص11.
5) فرنان بروديل المصدر السابق – ص 56.
6) نفس المصدر –ص 58
7) د/ محمد الكتاني – حوار الحضارات بين الحقيقة والوهم – مجلة الأكاديمية العدد 27/ سنة 2010.
8) د/ حسين مؤنس / الحضارة دراسة أصول وعوامل قيامها وتطورها كتاب عالم المعرفة – عدد 237 /ط-2/ 1998 – ص 52.
9) المقدمة – ج الثاني تحقيق د/ علي عبد الواحد راضي / ص 468-469.
10) د/ عماد الدين خليل / التفسير الإسلامي للتاريخ، ط1/ 1975/ دار العلم للملايين ص 17.
11) المصدر السابق –ص 74.
12) نفس المصدر –ص 75.
13) نفس المصدر –ص 77.
14) نفس المصدر –ص 78.
15) فرنان بروديل / قواعد لغة الحضارة – ص 59.
16) نفس المصدر –ص 60.
17) نفس المصدر –ص 81.
18) د/ محمد الكتاني/ منظومة القيم المرجعية في الإسلام/ ط-2/ 2011 دار أبي رقراق/ ص-5.
19) د/ محمد البهي/ الفكر الإسلامي وصلاته بالاستعمار/ ط-10/1974/ ص 424-428
20) منظومة القيم المرجعية في الإسلام – ص6
21) المصدر السابق –ص 9
22) د/ جميل صليبا / المعجم الفلسفي/ ج II – ص 212-215.
23) د/ فيصل عباس/ الفرويدية ونقد الحضارة المعاصرة دار المنهل اللبناني/ ط 1-2005/ ص 165.
24) د/ حسن حنفي/ من النقل إلى الإبداع المجلد الثالث: الحكمة العلمية: الأخلاق- الاجتماع والسياسة- التاريخ – دار قباء للطباعة – 2002- ص 11.
25) د/ محمد عابد الجابري / العقل الأخلاقي العربي / دار النشر المغربية ط-1- 2001/ ص20.
26) المرجع السابق – ص 22.
27) المرجع السابق – ص 56.
28) د/ طه عبد الرحمن/ سؤال الأخلاق مساهمة في نقد الأخلاق الغربية/ المركز الثقافي العربي/ ط-1/ 2000/ ص 15-16.
29) المصدر السابق، ص 20.
30) المصدر السابق، ص 25.
31) المصدر، ص 30.
32) د/ محمد الكتاني - منظومة القيم المرجعية في الإسلام – ص 14.
33) د/ عبد الهادي بوطالب/ مجلة الإسلام اليوم – عدد 20/ 2003
34) فلسفة الحضارة الإسلامية – ص 24.
35) المصدر السابق، ص182.
36) المصدر السابق، ص84.
37) د/ عبد العزيز التويجري/ نص الحضارة الإسلامية وآفاق المستقبل/ مجلة الإسلام اليوم عدد 20/2005/ ص 35-54.
38) عباس محمود العقاد / دراسات في المذاهب الأدبية، والاجتماعية نهضة مصر-1999/ ص 74.
39) العقاد – المصدر السابق- ص 178-179.
40) محمد فتح الله كولن/ ونحن نبني حضارتنا/ ترجمة عوني عمر لطفي أوغلو/ دار النيل ط 1/ 2011/ ص-9
41) المصدر السابق، ص 23-24.
مشاركة منتدى
21 كانون الأول (ديسمبر) 2014, 22:12, بقلم مريم
اريد تاطير هادا النص و ملاحظته
.
.
.
.
.
.
.