بناطيل ضيقة
دخان يحبس الأنفاس. يحجب الشمس وزرقة السماء ورحمة الله الواسعة. يمنع الرزق. دخان صاعد. هابط. دخان يدور حول ظله ونفسه. لا يصعد ولا يهبط. لكنه يحجب الشمس وزرقة السماء ورحمة الله. يحجبها عن الأحياء والأموات. وعن نفسه. يدور مثل الحية. يلتف ليعض ذيله. وهذا أمامه دخان آخر. يا الله. هذا لا يصعد, لا يهبط , لا يلتف ولا يدور. يقف أمامه كالعفريت. يتسلى بضجره واكتئابه. يسأله عن التنين. عن الأسطورة. عن الشرق وروعة التقاليد. يسأله عن الاستنساخ والفياغرا والقطب الوحيد. يسخر منه. يقول له: يا وحيد القرن. يسخر من الديمقراطية وحقوق الإنسان وحلف الناتو, ويقول له شامتا: يا وحيد القرن.
دخان آخر. يا الله. هذا لا يصعد, لا يهبط, لا يلتف ولا يدور. لا يقف أمامه مثل العفريت. لا يتسلى بضجره. لا يسأله عن شيء. لا يرسم شكلا بعينه. يحسه ولا يراه. يستنشقه. يعبر أنفه وينفذ. يجرح حنجرته. ما يميزرائحته ولا لونه أو مصدره. يحجبه عن نفسه وذاكرته. يقول يا الله, هذا دخان آخر.
يقتله الوقت والسأم. يقتله أزيز الكرسي تحت جسمه المتهالك. يحك مقدمة رجله اليمنى بعقب رجله اليسرى في حركة لا إرادية. يحك رأسه. تتناثر القشرة على كتفيه. يبحث في جيوبه عن علبة سجائر أخرى. تعود اليدان خاويتين. خائبتين. يبحث عن التنين في سماء المقهى. يبحث عن الرماد فوق قدميه. يتحسس أسنانه الصفراء ورئتيه المحترقتين. يقيس كمية النيكوتين في جسمه. يجس نبض قلبه بيديه. يحرك رأسه. ما زال في العمر رصيد إضافي.
ما عاد الكرسي يحتمله. بدله بكرسي آخر. رأسه يدور كما الأرض تحت قدميه تدور بسرعة تفوق حدود طاقته. سقف المقهى الواطئ يدنو من رأسه. يكاد يلامسه. رأسه يتدلى. يكاد يلامس قدميه, وقدماه تنفذان لجوف الأرض. تغرقان في الغيران والأنفاق. تصطدمان بدود الأرض والنمل والخنافس والجرذان. عروقه النافرة تكاد تنفجر.
مشاهد الليلة الماضية تشتت أفكاره. تدوخه. مشاهد اليوم ومشاهد الأمس ومشاهد كل الأيام. مشاهد تجعل الوقت محايدا وباردا. لا يَقتل ولا يُقتل. جعلت أعمار الناس بلا معنى. بلا قيمة. لذلك ما عاد يلتفت لنصائح الأطباء وتحذيرات الأصدقاء ممن لم تقرب السجائر شفاههم. ما عاد يهاب سرطان كذا وسرطان كذا. ما عاد يحسب كم سيجارة أحرق واحترق بدخانها وجمرها. ما صار يحصي العلب ويغمض عينيه إذا داهمه السعال الحاد وتمادى في هز صدره وضلوعه, وينهض مسرعا للحمام ليبصق ويفحص السائل اللزج ليطمئن قلبه.
رأى النادل ينتقل بين الطاولات والكراسي. يلبي الطلبات ويقبض ثمنها. يبتسم للبقشيش. يقول للزبون: الله يخلف عليك. تتأرجح الصينية بين يديه. تكاد تسقط لكنه يعالج توازنها بحنكة. الرواد يثرثرون. يخفون وجوههم في الجرائد. أغلبهم يطلب قهوة سوداء. قهوة مرة بلا سكر أو بسكر أقل. راحت أيام السكر. أيام القالب الملفوف بعناية في ورقتين. الأولى بيضاء والثانية زرقاء وشريط القنب يلفه ويزفه للزبائن في حلة لائقة. رآهم يدخنون. ورأى سحب الدخان تحجب رؤوسهم. لكن التنين لا يخرج من أفواههم كما خرج من فمه. دخان سجائرهم لا يصعد كثيرا. لا يرسم ولا يلتفُّ و لا يدور. يشتبك بعضه مع بعض. يتلاشى بسرعة. دخان بلا أجنحة ولا طموح. لا يكاد يتجاوز أرنبة الأنف.
يمدد قدميه. يداري ألم الظهر والركبتين. يغمض عينيه. صور الليلة الماضية تملأ شاشته بطولها وعرضها. يطردها ويحك رأسه. يحك أذنا ويؤجل حك الأخرى. يحك مقدمة رجله اليمنى بعقب الرجل اليسرى. تعود الصور. تلتصق بالدمع الحرون الواقف خلف الجفون. يطردها. تسخر منه وتتمرد. تملأ شاشته. يغطس في مزاجه العكر. تلاحقه الصور وتغطس معه. يقول لها بغضب: أنت مثل السلحفاة ما تعيش غير في الماء العكر. تسخر منه. تلاحقه. يسأل نفسه: هل هي صور حقيقية؟ أم مجرد وهم؟ منام كاذب أو خدع سينمائية؟ لقطات من أفلام الخيال العلمي؟ حرك كتفيه. ما يعرف. ربما كان هونفسه مجرد حلم راوده ذات ليلة فصدقه. ربما كان هو نفسه خدعة سخيفة يتعرى زيفها الآن أمامه. خدعة عمرها خمسون سنة. ولدت في يوم مولده وتموت في يوم مماته. أو ربما ماتت يوم مات هو, إذ من أدراه أنه حي؟ من قال له: هذه هي الحياة؟ هو ميت. الموت ما تراه عيناه وتلمسه يداه... وهؤلاء على المقاعد جيرانه. لا يعلم من سبق إلى هنا, هو أم هم؟ لا يعلم من هو السعيد ومن الشقي. هو أم هم؟ الموت هو الحقيقة في هذا المكان. حقيقة مطلقة يسندها أكثر من دليل وحجة, والحياة والوجود وهو وهم والمقهى والقهوة المرة... مجرد خدع. حنين الذاكرة لمجدها الغابر وعثرة الحلم بجسد الكابوس المتخفي في ظلمة الكون والملكوت.
التنين خدعة. ما رأى تنينا ولا رأى أسطورة. والاستنساخ خدعة والقطب الوحيد خدعة وحلف الناتو خدعة... والديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن الموت ليس خدعة. الموت حقيقة الحقائق وحكمة الخالق. يراه في الشارع. في البيت. في المقهى. على السرير. على قارعة الطريق. في فنجان القهوة. في السيارات. في وجه النادل. في الجريدة. في وجوه الجنود. في الدبابات. في الأعراس وحفلات الميلاد. في الكلاب والحمير...يراه ويشم رائحته ويلمسه. يسمع لغطه. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟
افتضح سر الخدعة. فقدت تشويقها وغرابتها.انتهت وماتت. هو مات. الكرسي وحده حي في هذا المكان. لأنه يئز تحت جسده المتهالك. هو ميت. رغم أنه يحتسي القهوة ويتصفح الجريدة ويحك قدمه اليمنى برجله اليسرى في حركة لا إرادية. ربما كان الأموات الآخرون يفعلون ذلك مثله. أو أكثر من ذلك, ربما كانت هذه الحركة هي الدليل القاطع على موته.
المقهى يضيق. صدره يضيق وخاطره. صور الليلة الماضية تلاحقه بعناد. تملأ شاشته بطولها وعرضها. تستفز الدمع الحرون العالق خلق الجفون. صور تتسع وتزداد وضوحا. لا تستحي من كآبته. لا تتستر. يطردها. تتجهاله. صور بنايات تبدل ألوانها وأشكالها ومواقعها. تتعرى من صمتها وسكونها, فتصخب وتموج. ترتج. تشتعل وتضيء عتمة الليل. تضيء المدينة كلها. تصعد أدخنتها للسماء. تلاحق النجوم النعسانة. تغطي سماء تجمع أغراضها وتتهيأ للرحيل. يمر قرب المكان. شلل مفاجىء يهبط على مفاصله. يتحسس قلبه في صدره. يتحسس أطرافه. يتذكر اسمه وتاريخ ميلاده. يسعل. يدفع الغبار والدخان بيديه. يبحث عن كمشة هواء. يسمع أصواتا من تحت الردم. ولولة نسوة. بكاء أطفال. استغاثات. فكوا الروح , عتقوا الروح... ركض. زجاج يتكسر. أطراف آدمية تعترض سبيله. تستوقفه. تسخر من فزعه. تعلق بقميصه وأكمامه. يدفعها ويهرب. ينط بين برك الدم. ملابسه تقطر عرقا...
في تلك الليلة, رأى الدخان ورأى اللهب, وما رأى التنين. رأى كائنات أخرى وخرافات أخرى ولكنه لم يصدق شيئا مما رأى. رأى نفسه يسقط وينهض ويتعثر ويفقد فردة حذائه اليسرى. وما صدق أنه سقط ونهض وتعثر وفقد. ما رآه كان فوق طاقته. فوق ما يحتمل عقل بشر.
يحاول أن ينسى. يقفل شاشته. يقطع التيار عن ذاكرته ليتوقف شريط الصور. ينده على النادل. يقتني منه علبة سجائر جديدة. يطلب فنجان قهوة آخر. قهوة مرة بلا سكر. بلون الليل والقطران. يسوي جلسته. يفرقع أصابع يديه. يتنهد. يمطط ظهره. يداري الألم أسفل عموده الفقري. ينقر على الطاولة. يدندن مع اللحن والإيقاع وموسيقى أصابعه. يضحك. الويل يضحك والهم يسلي. وما يطرب ولا يرقص غير الكدية والجبل. وهو ما هو كدية ولا جبل.
ينده على النادل من جديد. يطلب كاس ماء بارد. يعبه في جرعة واحدة. يمسح شفتيه وشاربه. ينقر على الطاولة. يحرك رأسه. يضرب الأرض بقدميه.
يلاحظ حركات مريبة في المقهى. يسمع أصواتا غريبة. صراخا وكلمات غير عربية. يسمع أصوات ارتطام الكراسي والطاولات على الأرض. يرى النادل يعود بصينيته مهرولا. يضعها فوق الكونتوار ويلتصق بالجدار. يحتمي به من قدر داهم. يستعطفه, يقول له افتح يا سمسم كي ينفذ إلى الداخل ويغلق خلفه صخور الجبل. مثل قصص السحر والكنوز واللصوص. الزبائن طووا جرائدهم وتطلعوا بأبصارهم لباب المقهى. بتروا حواراتهم ووأدوا ثرثرتهم في حناجرهم. العامل الذي يعصر القهوة خلف الكونتوارتجمدت يداه على الآلة وبدا كالصنم. حتى رموش عينيه توقفت عن الحركة. حتى دخان السجائر اختفى من المكان وانقشعت سحبه. أحدهم رفع التلكموند وأطفأ التلفزيون. المدخنون ألقوا سجائرهم تحت أقدامهم. دهسوها بأحذيتهم واختلط سوادها بلون الزليج الأصفر.
رأى الطاولات والكراسي تتحرك. رأى فناجين القهوة تسقط. رأى السائل الأسود يتدفق بين الأحذية والأقدام. رأى قطع الزجاج تتناثر على الزليج الأصفر. رأى الأصفاد والأقنعة والرشاشات والأحذية الثقلية. رأى الجنود ينطون كالضفادع بين الكراسي والطاولات. يطلبون الهويات. يفتشون الملابس. يدفعون هذا ويلقون ذاك أرضا. يصيحون. يلهثون. ينساب عرقهم من تحت الخوذات.
فتشوا جيوبه فلم يجدوا غير سجائره. فتشوا حذاءه, فلم يجدوا غير قدم تحك قدما أخرى. فتشوا الدخان فوق رأسه, فلم يجدوا غير روائح التبغ. لكن بين وجهه على الصورة في البطاقة , وبين وجهه العريان أمامهم, رأوا وجها آخر. تركوا له وجهه واقتادوا الوجه الغريب. وما صدق. هو نفسه لم يعرف وجهه على الصورة في بطاقة الهوية. وجهه بين الأمس واليوم تبدل. عينان متورمتان ودمع حرون. وهالتان سوداوان تزدادان اتساعا يوما بعد يوم.
اقتادوا الوجه الغريب وتركوا له وجهه وما صدق. أعادوا إليه بطاقته وما صدق. رأى نفسه جالسا في نفس المقهى, على نفس الكرسي وما صدق. رأى عقب رجله اليسرى يحك مقدمة الرجل اليمنى وما صدق. رأى نفسه يشعل سيجارة بعقب أخرى وما صدق.
رأى النادل يلعن ويخبط كفا بكف. يتحسر على الزبائن الذين اقتادوهم دون أن يؤدوا ثمن مشروباتهم. رآه يلطم وجهه مثل الولية ويردد: يلعن الخطة ويلعن أباها وأجدادها. من يوم ما طبقوها وأنا أدفع من جيبي ومصروف أولادي. المعلم ما يعرف خطة. ما يعرف غير فلوسه وشكارته. الناس تشرب وتتقهوى. تجرجر للسجون والتحقيقات وأنا أدفع من جيبي وعرق جبيني. أروح للدار ويدي خاوية. أهرب من الأولاد. أكذب وأقول مريض وعليل. أقفل علي الباب والنوم ما يقرب من جفوني.
الخطة الأمنية الجديدة دخلت يومها الثاني. الناس ما تعرف رقمها ولا ترتيبها. خطة وراء خطة. والعدد ارتفع وتضخم. والذاكرة ما تتذكر. أحد الجنود أخذ الجريدة التي كانت مطوية على الطاولة أمامه. اقتناها على الرصيف. طواها وتأبطها. وضعها أمامه وما قرأ منها شيئا. ما حقد على الجندي. أخذ الجريدة وترك علبة السجائر التي كانت جنبها. ما كان يرغب في القراءة. اندهش كيف لم تغره علبة السجائر. ألأنه لا يدخن؟ كيف لا يدخن وهو جندي؟ تقي أو ولي صالح؟ الله أعماه والسلام.
لم يعرف إن كان الجندي الذي أخذ الجريدة أجنبيا أم محليا. يصعب التمييز بين الاثنين. نفس الأحذية والخوذات والبدلات. نفس الرطانة والحركات. نفس الوقفة ونفس الإمساك بالرشاش. نفس النظارات السوداء. نفس الحقائب الصغيرة على الظهر. سروال يغوص في حذاء طويل مثل بوط الفلاح. وعلكة بين الأسنان. تمضغها بعصبية. نفس المشية والحذر...ما يهم. أخذ الجريدة وانصرف وترك العلبة على الطاولة. الله يكثر خيره.
قال له سمير وهو يسوي نظارته الطبية على عينيه: الخطة صارمة هذه المرة. الله يستر. ابتسم له وما أجاب. أضاف: الحذر واجب. لا تتحرك إلا إذا حسبت ألف حساب. ولا تخرج إلا للضرورة القصوى. المقهى ما هو ضرورة ولا مكان آمن. وبالليل يزيد الخطر. الجريدة لا ترفعها بين يديك وأنت راجع للبيت...
ابتسم وما أجابه. سمير يبالغ. في الحديث عن الخطة وفي غير الخطة. الحذر ما يدفع المكتوب. والمدينة هي المدينة, في هذه الخطة وفي غيرها من الخطط. أهوال في أهوال وموت سائر بين الناس. والله لو تغوص في الأرض, يتبعك. ولو تطلع للسماء يتبعك. ولو تشنق نفسك وتسبقه, يعيدك للحياة ويتبعك.
ما صرنا نتنفس هواء. صرنا نتنفس موتنا. وما صرنا ننام مع زوجاتنا. صار الموت معنا ينام. حقائبنا فيها موت وجيوبنا فيها موت. جلودنا وعظامنا فيها موت. ومحافظ أطفالنا فيها موت.
سمير يبالغ. المدينة هي نفسها في الخطة وفي غير الخطة. أحمد ابن الجيران تحدث كثيرا عن الخطة الجديدة. شرح وفصل. شرح وملح. التحق بالجيش حديثا, لكن صار يفهم. في الخطة وفي غير الخطة. يفهم في المارينز و وزارة الخارجية الأمريكية والبنتاغون والأسلحة النووية والإرهاب...يفهم في الردارات والطائرات والدبابات واللاسلكي والملف الإيراني. يقول: الرئيس- الله يكثر خيره- يزور المارينز ويتغدى معهم ويطلعهم على الكبيرة والصغيرة. ووزيرة الخارجية تزورهم وتتغدى وتطلعهم. ووزير الدفاع يزورهم ويتغدى ويطلعهم... وأنا مع المارينز بالليل والنهار. أتغدى وأتعشى وأنام وأصحو وأسير معهم... فكيف لا أفهم في النووي والملف الإيراني وحرب النجوم وزيد وزيد...؟
صار يفهم الإنجليزي. يرطن بمفردات ركيكة تعلمها بصعوبة. يلوكها كما يلوك العلكة. علكة فلاش وستار والإكسترا وحرب النجوم. يلمع حذاءه في الصباح والمساء. يمسح نظارته الرايبن بخرقة مبللة. يتباهى بالجيش الجديد. بالمهارات والمقدرات والتداريب. نحن مارينز. مارينز عربي. عندنا مشكلة واحدة. وحيدة. البدلة. البدلة لا تناسبنا. لا تناسب خصوصياتنا وأجسامنا. خصوصا السروال. ضيق ولاصق على اللحم والعظم. يعوق الحركة ويضيق الخطو. اعتدنا على العباءات والسراويل الفضفاضة. ألفنا الواسع. ألفنا نمرح ونلعب في ملابسنا. نحن أبناء الصحراء. والصحراء واسعة فضفاضة ما يحدها نظر. الصحراء بلا حدود. لا تقاس. أجسادنا تعودت على النور والهواء وما تعودت على الضيق. المارينز لباسهم يناسبهم في بلادهم. ما يناسبنا. أجسامهم مثل الخيزران. طويلة ونحيلة. أجسامهم بردانة. لأن بلادهم فيها برد وثلج طول العام. تريد اللباس يحضنها ويعصرها وما يترك الهواء يتسرب إليها. لكن هنا الصحراء والحر والصهد طول العام. هنا الجبال والشعاب والوديان والكهوف. وهناك المدن والطرقات تلمع مثل المرايا. أردافهم ضامرة. كأنهم جياع لا يأكلون. يقولون الريجيم والرياضة واللياقة... نحن قوتنا في أردافنا. وفي فحولتنا. سبحان الله. ما خلق الأرداف والفحولة إلا في هاذ الصحراء. الفحولة ما تحتمل سراويل ضيقة. تنفر وتثور وتعمل مشاكل.
أحمد, ابن الجيران, يتحدث عن الخطة. عن المارينز والمحلي والضيق والفضفاض. سمير يسمع. يبتسم. يخفي شفتيه بيديه. يقول له مازحا: والجيش الجديد لم لا يعمل ريجيم؟ يمكن يصير أقوى. تضعف الفحولة, صحيح. لكن العضلات تتقوى. والجيش لازمه عضلات. هو جيش يحارب ولا يغتصب؟
يحارب يا سمير. يحارب. لكن قوة هذا من قوة ذاك. إذا الفحولة والأرداف تنقص, العضلات تضعف. الله خلق وصور ويصرف سنته وحكمته في الكون و الخلائق.
يحارب يا سمير. ويعود يتحدث عن الخطة. يلمع حذاءه ويمسح نظارته الرايبن بخرقة مبللة. ينتهي من السروال ويصل للخوذة. يمتدحها ويقول الله يرحم والدين من صنعها. صلبة مثل الحجر وأنيقة. فيها ذوق وموضة وفن وإحساس. نلبسها ونلبس النظارات وما يميزنا أحد إن كنا مارينز أو محليين. تحمي الرأس وترفع الرأس وتجعلك تمشي بدون خوف.
سمير يسمع ويبتسم. أراد أن يغيظه ويشمت. قال له: واحد محلي سأل واحد مارينز: ماذا تحمل في حقيبة ظهرك يا أخ؟ أجابه: أحمل صور عشيقاتي , وأنت؟ رد المحلي: أحمل صور الرئيس.
أرسل أحمد زفرة غضب. يا أخي ما حنا كلاب ولا جواسيس. ولا دمى تلبس لباسهم
وتحركها أصابعهم. نحن أبناء البلد. فيه كبرنا وفيه نموت. نعرف تفاصيله ودروبه وتضاريسه وناسه. المارينز ما يعرف وين يحط القدم إذا ما سرنا معه. نحن نتقدم وهو في الخلف يتبعنا. يسأل ونحن نجيب. يسمع وما يفهم. نترجم له ونفهمه.
يتنهد سمير. يقول بمرارة: صحيح يا أحمد, صحيح. المارينز ما يعرف وين يحط القدم إذا ما سرتم معه. يقدمكم للموت ويتأخر. يتفرج. يسمع وما يفهم. وأنتم تترجمون وتفهمون... يحرك رأسه يمينا وشمالا. يخبط جبهته براحته. صحيح يا أحمد, صحيح. ضيقوا السراويل وضيقوها علينا.