

بين أذرُع الساعات
استفاقَ يوسف في عالمٍ غريبٍ: ساعاتٌ عملاقةٌ تُحاصرُه من كلِّ جانب؛ بعضها يدورُ بثقلٍ خانقٍ، وأخرى تُعاندُ إيقاعَ الكون. قمرٌ صغيرٌ يتدلّى، يُشِعُّ وهجًا مسروقًا من شمسٍ لفظت أنفاسَها الأخيرة.
و الجدرانُ من حوله تضيقُ عليه شيئًا فشيئًا.
رأى ساعةً سوداءَ يتلوّى على سطحها نقْشُ شجرةٍ متفحّمةٍ، كأنها تحاول النجاةَ من طوفانٍ من الرماد. كلماتٌ مبعثرةٌ بالكاد تُقرأ: "أرض الرماد."
ما إنْ لمسها، حتى تُمزّق المكان ريحٌ قاسيةٌ، وألقتهُ وسط غابةٍ محترقةٍ.
في قلب الدمار، شجرةٌ خضراءُ صمدت وسطَ دائرةٍ من اللهب.
و من أعماقِها جاء صوتٌ مُتقطّع:
ـ مَن هُناك؟
– أنا ما بقيَ من الحياةِ تُحاصرني نيرانُك."
ـ نيراني!
– ولن تُخمد، تحتاجُ إلى ما لا تملك.
قبلَ أن يرد، انبثقت من الرمادِ عناكبُ بعيونٍ متوهّجةٍ، تُشعل الأرض. ركض، فانشقَّ الترابُ وابتلعه ظلام..
ليستيقظ في الغرفة، أمامَه ساعةٌ تدورُ عقاربُها في دوامةٍ تختفي في نقطةٍ مظلمةٍ، كُتِبَ تحتَها: " سماءُ الظلال".
لمسها، فانقلبَ العالمُ رأسًا على عقبٍ، وجد نفسَه مُعلَّقًا في عَدَمٍ بلا معالم، الظلالُ من حوله تعزفُ موسيقى جنائزية، كلُّ نغمةٍ تنطقُ باسمه.
صوتٌ تسرَّبَ إليه:
أنتَ مَن أطلقَنا، وظلُّكَ يبتلعُ ما بقي.
ـ ظِلّي؟! ما الذي يعنيه هذا؟
– كلما خطوتَ، خلّفتَ ظلًّا يأبى الزوال.
اندفع وسقط وسط الظلال، جذبَتْه ساعةٌ تحملُ أشرعةً ممزقةً، مخضَّبةً بدماءٍ باهتة. حاول التراجعَ، لكنَّ قوةً خفيّةً دفعتْه نحوها.. وجد نفسَه وسطَ بحرٍ هائجٍ، سفينةٌ خشبيةٌ تتأرجحُ كدميةٍ من القشِّ فوقَ الأمواج، طاقمٌ بلا ملامِحَ يتخبطون، يبحثون عن قبطانٍ مفقود.
اقتربَ منه رجلٌ بوجهٍ مشوَّهٍ وقال:
جئتَ تطلبُ الكنز؟
ـ لا أريد سوى العودة
– عودة! لا عودةَ لمن اعتلى هذا البحر
ارتجّت السفينةُ بعنفٍ، لتحتضنه الأمواج.
في الخلف: ساعةٌ كالمتاهةِ نُقِشَ تحتَها: "خطوةٌ للأمام تُعيدُكَ إلى الوراء."
دَنا، فانزلقَ إلى ممرٍّ ضبابيٍّ، كلما سارَ فيه، عاد إلى نفسِ النقطة. فجأةً، ظهر أمامَه شخصٌ غامضٌ، كأنّ الظلَّ يسكن ملامحه:
– أهلاً بك في المكانِ الذي لا يُنسى... تعرفُه جيدًا، أليس كذلك؟
ـ أريد الخروج
– انظرْ حيثُ تخشى أن تنظر...
لمحه يوسف يبتسم، ثم اختفى كلُّ شيء.
في عمق الغرفة، ساعةٌ ضخمةٌ تدورُ عقاربُها حول بيضةٍ معدنيةٍ تُشِعُّ بهدوء.
ما إن اقتربَ منها، خرج عقربٌ معدنيٌّ هائل، يدافعُ عنها بصرخاتٍ معدنيةٍ تقرعُ أذنيه.
للحظةٍ، بدأ يدورُ حولَ نفسِه، وسقطَ أرضًا ككتلةِ ثلجٍ تتلاشى. فُتحت البيضةُ لينبثقَ منها مفتاح،اهتزَّتِ الغرفة، وظهرَ بابٌ جديد.
أمسكَ المفتاح، فتحَ الباب، ليجدَ نفسَه أمامَ غرفةٍ جديدة...