الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم عمرو علاء

بَائِعَةُ الحُلمِ فِي الزَّمَانِ المَكْسُورِ

دقت الساعة تشير إلى العاشرة إلا ربع، مُعلنة انتهاء يومٍ طويل من العمل. أغلقتُ أبواب المتجر الذي أعمل فيه، ثم مضيتُ في طريقي، أتنفس الصعداء بعد ساعاتٍ من الجهد المتواصل.

فجأة، اخترق صوتُ خالد سكون الليل قائلاً بصوتٍ مرتفع: نعم "يا عم نبيل!"

التفتُّ إليه، فواصل حديثه بحماس: "هل تذهب معي لنشتري ملابس؟ غدًا هو العيد، ولم أشترِ شيئًا هذا العام، وإن لم توافق، فلا بأس، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها."

لم أفكر كثيرًا، وكأن الإجابة كانت جاهزة في صدري دون تردد: "أبشر يا عم نبيل، أبشر!"

كيف لي أن أرفض طلبه، وهو الذي لم يقصّر معي يومًا، كان عطوفًا عليَّ كأبي، بل وأكثر من عمّي وخالي في حنانه. رجلٌ نقيُّ الوجه، طيبُ القلب، سمحُ الخلق والسجايا.

ركبنا دراجته البخارية، وانطلقنا نحو متجر الملابس، الذي يبعد بضعة كيلومترات. دخلنا، وأخذ يختار ما يناسبه من الثياب، فقد مرّت فترة طويلة منذ آخر مرة اشترى فيها ملابس جديدة، وهو تاجرٌ في السوق، يحرص على أن يبدو في هيئةٍ تليق بعمله.

أتممنا الشراء، وحين جاء وقت الحساب، أخرج عم نبيل المال وسدّد الثمن. بقيت الأكياس موضوعة جانبًا، وقبل أن يطلب مني أحدٌ شيئًا، مددتُ يدي وحملتها تلقائيًا. لكن... ما إن فعلت ذلك، حتى شعرتُ بضيقٍ في صدري، إحساسٌ مبهمٌ، لكنه ثقيل.

لماذا شعرتُ بهذا الضيق؟

لأني لست مجرد عاملٍ بسيط، أنا طالبٌ مجتهد، أجوب الشوارع بين الدراسة والعمل، أكافح وأجدّ وأجتهد. لم يكن هذا مكاني، ولا هذا دوري الذي أطمح إليه في الحياة.

خرجتُ من المتجر, و الليل متثاقلٌ فوق المدينة، يعبر شوارعها بلا اكتراث، يترك فوق الأرصفة بقايا من ظله، وفي الهواء عبق تعبٍ قديم لا يزول. كنت جالسًا على الدراجة البخارية، يدي مسترخية على المقود، أحدق في لا شيء، بينما يقف "عم نبيل" جانبًا، مستغرقًا في مكالمة هاتفية طويلة.

الشارع أمامي يموج بالوجوه العابرة، تتدافع الخطوات، وتمضي الأصوات متشابكةً بين الباعة والزبائن، بين ضحكاتٍ عابرةٍ، ونظراتٍ مكسورةٍ لا يلتفت إليها أحد. كان كل شيء يمضي في تياره المعتاد، حتى سمعت ذلك الصوت الرقيق، المتردد، كأنه ارتجافةُ ندى على ورقة خريفية:

يا أستاذ، أرجوك... بالله عليك، أستاذي الكريم... أسأل الله أن يحفظك... أسأل الله أن يسعدك... أسأل الله أن يرزقك..." استدرت ببطءٍ، كأن الصوت انتشلني من غيبوبة الوقت، وهناك... رأيتها.

البنت الصغيرة، بالكاد تطاول الدنيا برأسها الصغير، لكنها بدت أكبر عمرًا مما ينبغي، كأن الزمن قد سرق منها حقها في الطفولة. كانت واقفة على حافة الرصيف، جسدها النحيل متكورٌ فوق نفسه، وكأنها تحتمي من بردٍ لا يشعر به أحد غيرها.
ثوبها الأحمر الذي كان يومًا ما زاهيًا، لم يبقَ منه سوى ذكريات اللون، وقد تناثرت فوقه بقع الزيت والتراب، حتى صار يشبه أرضًا بائسةً فقدت ربيعها. شعرها الأسود مسترسلٌ دون عناية، تخلله خصلاتٌ مشعثةٌ كأن الريح كانت تعبث بها طوال اليوم. أما عيناها، بلونهما الأخضر الذي غلب عليه اصفرار التعب، فكانتا تحكيان ألف قصةٍ لم تروَ بعد، محشوتان برجاءٍ عتيق، وكأنهما تنتظران معجزةً لن تأتي.

خطت خطوةً صغيرةً نحوي، ورفعت يدها، لتكشف عن شيءٍ كان يستقر بين أصابعها النحيلة... وردة.

وردةٌ واحدة، ذابلة الحواف، لكنها لا تزال تحتفظ ببقايا عطرها، وكأنها تصر على أن تبقى جميلةً رغم كل شيء.

قالت بصوتها الهامس، المتهدج، كأنها تخشى أن ينكسر رجاؤها إن نطقت به:

"تكرّم علينا بأي شيء لوجه الله، فإنني، واللهِ، لم أتمكّن منذ البارحة من شراء لقمةٍ أسدُّ بها جوعي." ثم رفعت يدها أكثر، وقدّمت الوردة لي، كأنها تعرض عليّ جزءًا من قلبها، وقالت: "حسنًا، خذ هذه الوردة... إنها جميلة ونضرة، قد تروق لك أو تبهج قلب من تهديها إليه." تجمدتُ في مكاني.

ونظرتُ إلى عينيها، إلى تلك اليد الصغيرة التي تحمل الوردة، ثم إلى الوردة نفسها... شعرتُ بغصةٍ في حلقي، وكأن الهواء قد صار أثقل مما ينبغي.

كانت تبيع حلمها.

أي عبثٍ هذا الذي يجعل طفلةً تبيع وردتها؟ الوردة التي كان يجب أن تكون بين أصابعها كأمنيةٍ تحتضنها، لا كسلعةٍ تعرضها على الغرباء. الوردة التي كان يجب أن تزين ضفيرتها الصغيرة، لا أن تُرفع بتوسلٍ لمن يشتريها. الوردة التي كان يجب أن تُهدى لها، لا أن تضطر لبيعها كي تأكل.

هل يُعقل أن يصل الأمر بطفلةٍ أن تتخلى عن حلمها، مقابل لقمة؟

المدينة حولي ما زالت تمضي في صخبها المعتاد، السيارات تمرق مسرعة، الأضواء تومض فوق الإسفلت الرطب، والناس منشغلون في سباقهم الذي لا ينتهي... لكنني كنت واقفًا هناك، عالقًا في هذه اللحظة، كأن الزمن كله قد توقف عندها.
لم أكن أعرف إن كنت أشتري الوردة، أم أحاول أن أمسك بذلك الحلم قبل أن يضيع للأبد...

كانت يدها لا تزال ممدودة، تحتضن الوردة بحنانٍ يشبه حنان الأمهات، نظرتُ إلى عينيها، فوجدتُ فيهما بقايا وطنٍ هُدِم، وطفولةٍ نُهِبت، وحلمًا صغيرًا يكاد يُطفأ.

وقلت لها: "منذ متى وأنتِ هنا؟"

قالت دون أن تلتفت: "منذ أن علّمتني الشوارع كيف أعيش... ومنذ أن نسيتُ ملامح من كانوا يقولون لي: نحن أهلك."
كأنّ كلماتها سكينٌ غاص في أعماقي، وشعرتُ بشيءٍ ينكسر في صدري.

"أين تنامين؟"

ابتسمت ابتسامةً مائلة، خافتة، كأنّها لا تملك من الدنيا سوى ظلّ ابتسامة: "في أي مكانٍ يحتملني... رصيفٌ لا يطردني، أو درجُ بنايةٍ لا يسألني عن اسمي... وهل يهمّ؟"

"وهل تأكلين؟"

أجابت: "أحيانًا... حين تثمر الوردة رغيفًا."

صمتُّ، كأن الكلمات تخلّت عني. كانت تتكلم بلغة لا تشبه الأطفال، بل تشبه الكتب التي لم تُكتب بعد عن الوجع.
أين والدكِ؟"

عينيها الواسعتين امتلأت بشيء من الغموض، كأنّها تراجع ذكرياتها، ثم قالت بصوتٍ خافت:

"أبي؟... مات منذ زمن، عندما كنتُ صغيرة. تركني مع أمّي.

قالت فجأة: "كان اسم أمي زينب. كانت تغني لي: نامي، في حضني أمانك. ثم رحلت... وتركتني بلا حضنٍ ولا أمان."
غاص صوتها شيئًا فشيئًا حتى صار كأنّه همسُ رماد، وأضافت:

"انتظرتُها في المكان الذي ودّعتُها فيه... ثلاثة أيام، بلا طعام، بلا نوم. فقط أحدّق في الطريق، وأعدّ السيارات… ولم تأتِ."
"ولماذا لم تذهبي للشرطة؟ أو إلى دارٍ تأويكِ؟"

قالت دون أن تنظر إليّ: "دخلتُ دارًا مرة. صرخوا في وجهي، لأنني لا أحفظ اسم أبي كاملًا. قالوا إنني كاذبة. وحين بَكَيت... بكيتُ كأنني أُقتَل، ضربوني. هربتُ، ولم أعد."

تقدّمت خطوة، ثم قالت وهي تنظر إلى الأرض: "الناس يقولون إنّ الطفل لا يَكبُر إلا بين الأهل. وأنا كبرتُ وحدي، فهل أنا بشرٌ كامل؟ أم ظلٌّ لإنسان؟"

شعرتُ أن قلبي يضيق، كأن الهواء صار ثقيلاً. المارة حولي يتزاحمون، وأنا وحدي كأنّني في بُعدٍ آخر، أرى طفلةً تحاول أن تزرع الحياة في صدري بوردة.

مددتُ يدي، لا للوردة، بل لها. لمستُ أصابعها الباردة، وهمستُ: بصوتٍ كان أكثر من مجرد كلمات: "هل أستطيع مساعدتكِ؟"

عيناها ضاقت، ثم انفجرت بريقًا من الشكّ والحيرة، كأنها لا تصدق أنها تقف أمام شخص يريد أن ينقذها، ولو للحظة. كانت الحياة حولها غريبة، ولم تكن قد اعتادت على أن تجد من يساعدها بهذه الطريقة.

بحثتُ في جيبي بسرعة، كأنني أبحث عن شيءٍ ضاع مني، ولكن لم أجد شيئًا. في تلك اللحظة، رأيتُ "عم نبيل" وهو يقترب بعد أن أنهى مكالمته الهاتفية. كان ينظر إلينا، كأنه يقرأ في أعماق الموقف قبل أن أقول له شيئًا.
قلت للبنت بصوتٍ هادئ: "انتظري هنا، لحظة واحدة."

ثم توجهتُ إلى عم نبيل، وكان كل خطوة لي أقرب إلى الأمل. نظر إليّ بتمعن، ثم قال: "ماذا تحتاج؟"

أومأتُ برأسي بسرعة، ثم قلتُ بنبرة هادئة، أحاول إخفاء التوتر الذي يعتصر قلبي: "عم نبيل، إذا كان بإمكانك مساعدتي... هناك من تبيع الورود هنا، وأنا لا أملك ما يكفي الآن. هل يمكنك إعارتي بعض المال على أن تخصمه من راتبي آخر الشهر؟"

نظَرَ إليَّ عم نبيل للحظة، وكأنّه يقرأ ما بين الكلمات، ثم ابتسم ابتسامة حانية، كأنما أراد أن يطمئنني: "طبعًا، خذ هذا المال. لا تَشْغَل بالك، وأخصمه في الوقت الذي يناسبك."

ثم أخرج من محفظته مائتي جنيه وأعطاها لي دون تردد، وكأنما يريد أن يساعدني دون أن يشعرني بشيء. كان وجهه مليئًا بالصدق والنية الطيبة، وكأنني أرى فيه رجلاً من معدن نادر. أخرج عم نبيل مائتي جنيه من محفظته، وقال بصوتٍ حازم: "خذه، لكن كن حذرًا في استعماله."

شكرته بسرعة، ثم عدتُ إلى الفتاة، التي كانت لا تزال في مكانها، تحدق بي بعينين مليئتين بالدهشة.

مددتُ يدي بالمال إليها، ثم همست: "خذي هذا، واذهبي واشترِ لكِ طعامًا، أو أي شيء يعيد إليكِ جزءًا من كرامتك. لا تبيعي حلمكِ من أجل وردةٍ تلتقطها يدُ الأطفال، لا تضعي نفسكِ في ظلٍّ لم يكن لكِ. كوني قوية، واتركي هذه الوردة وراءكِ."

نظرت إليَّ بعينين مليئتين بالدهشة، وكأنها لأول مرة ترى في العالم شيئًا مختلفًا. عيونها تلتمع، وكأنّها تفكر في شيءٍ جديد لم يكن له مكانٌ في حياتها من قبل.

للحظةٍ طويلة، لم تفعل شيئًا. كانت تقف في مكانها، عيناها الواسعتان تغرقان في حالة من التأمل العميق. ثم فجأة، كأنها تستجمع كل قوتها التي دفنتها في أعماقها لسنوات، انطلقت نحو جسدي كما لو أنها كانت تبحث عن شيء مفقود في العالم، أو عن عاطفة ناعمة كانت تنقصها.

فجأة، وجدتُ نفسها في أحضاني. كانت تتنفس بسرعة، وكأنها تخشى أن يهرب منها هذا الأمل الذي ظهرت ملامحه بعد غياب طويل. في لحظات، شعرتُ بجسدها يرتجف، وصوتها الذي كان يختنق في حلقها بدأ يخرج ببطء: "أنت لا تعرف، أنت... أنت لم تعرف كم كنت أحتاج إلى شيء كهذا."

شعرتُ بحرارة دموعها التي بدأت تنساب على قميصي، وعيناي تمتلئان بشيءٍ أكبر من الكلمات. لم أستطع أن أقول شيئًا، فقط تركتُها تُنزل ما في قلبها. كانت كأنها تسترجع كل تلك الأيام التي ضاع فيها حلمها، وكأنها كانت تبكي كل لحظة مرت عليها وهي تتمنى لو كان أحدٌ يراها، يُصغي لها، يشعر بها.

لم أكن أعرف ما الذي يجعلني أتمسك بها بكل تلك القوة. ربما كانت تلك الوردة، أو ربما كانت هي نفسها، الفتاة التي اختارت أن تبني جسورًا من الأمل في عالمٍ غارق في التحديات. كانت لحظةً لا تحتمل الكلمات، بل مجرد شعور بإنسانية عميقة تتنفس بيننا.

بعد لحظات من الصمت، تراجعت الفتاة قليلاً عن حضني، كما لو أنها كانت في حاجة إلى أن تعيد ترتيب أفكارها. كانت دموعها قد جفت، لكن نظرتها كانت مليئة بشيء من الراحة التي لم تشعر بها من قبل. ابتسمت لي بتردد، ثم همست: "شكرًا... شكرًا لك."

لم أتمكن من الرد إلا بابتسامة هادئة، ثم همست في نفسي أن هذا كان كل ما أستطيع تقديمه في تلك اللحظة. مع ذلك، كنتُ أعلم أنني لم أُغير العالم، لكنني ربما كنت قد غيرت شيئًا صغيرًا في قلبها.

ثم التفتُّ إلى عم نبيل، الذي كان يراقبنا بصمت، وكأنه كان يدرك تمامًا أن تلك اللحظة لا تحتاج إلى كلمات. جاء ليقف إلى جانبي، وقال بنبرة هادئة، تحمل نوعًا من الود العميق: "يبدو أنك أضأتَ في قلبها شيئًا كانت تفتقده. أحيانًا، لمسة من الإنسانية تكفي لتعيد التوازن."

ابتسمتُ له برفق، ثم قلت: "ربما، ولكن أحيانًا تكون هذه اللمسات هي التي تغير مسار حياة شخص."

ذهبنا معًا، وأخذتُ خطوة خلفه بينما كانت المدينة تستمر في دواماتها المعتادة. في أعماقنا، كان هناك شيء جديد يولد، شيء صغير لا يرى إلا في لحظات مثل هذه. كأنّها كانت فرصة لي لكي أدرك أن العالم، في نهاية المطاف، لا يتغير إلا عندما نشعر ببعضنا البعض.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى