تأملات في رواية «مرايا الموج» لمحمد بكر البوجي
صدر عن مركز تجوال للثقافة والفنون بغزة، لسنة ٢٢٠٢م رواية "مرايا الموج"، (مذكرات الرواية) للأستاذ الدكتور محمد البوجي()، وتقع الرّواية والتي صمم لوحة غلافها الفنانة التّشكيلية رجاء بكرية، في (٣٥1 ) صفحة من القطع المتوسط، في طبعة أولى، أنيقة رائعة.
يشكّل هذا الكتاب أهمية بالغة من حيث البناء والأسلوب، فالمذكرات نوع من أنواع السيرة الذاتية التي يلجأ إليها الكاتب؛ ليصور للمتلقين تجربة شخصية حقيقية، وتعرف المذكرات بأنها: "سرد كتابي لأحداث جرت خلال حياة المؤلف، وكـان له فيها دور فيها سواء بارزًا أو بسيطًاً، وذلك في مختلف فترات حياته".
فقد كتب المؤلف في مذكراته عن طفولته المبكرة، وعن أبيه وأمه، وجده وجدته، وأهله ومعلميه، والأحداث التي عاشها في بيئته في وطنه، فالمذكرة وسيلة أدبية يسرد فيها الكاتب قصة حياته، معتمداً على مخزون ذاكرته؛ لتكون مرجعاً له عندما يرغب في استعادة ذكريات أحداث عاشها.
ويلحظ القارئ أن كاتب هذه المذكرات يتمتع بذاكرة قوية استطاع من خلالها إعمال عقله في استرجاع الأحداث التي عاشها، محاولاً ألا يتسلل إلى ذاكرته النسيان. فالمذكرات جزء مهم يعين كاتب السيرة على تذكر ماضيه.
المتمعن في كتاب "مرايا الموج" يتبين له أن الغاية التي من أجلها كتب المؤلف مذكراته ورصد تجربته الذاتية هي أن يعبر عن ذاته وعن مجموع معاناة الشعب الفلسطيني، يقول:
"لا أكتب عن تجربتي الشخصية فحسب، بل أكتب عن تجربة شعب يكاد يعيش أقسى تجربة بشرية في القرن العشرين وما بعده، منذ مائة عام وهو في حالة حرب ونضال وعناد وضياع وتشتت، ولكنه ما زال يقاوم...” (مقدمة مرايا الموج ص ٦ ).
يعد كتاب "مرايا الموج" فن أدبي يمكن أن يندرج تحت جنس السيرة الذاتية لما يحتوي عليه من مذكرات، حاول الكاتب أن يجعل منها فناً جديداً ، فقد أضفى عليها سمات جديدة عن طريق استعانته بعدد من التقنيات الفنية التي استعارها من الفنون الأخرى: كالتاريخ والشعر والقصة القصيرة، والرواية، والمسرحية. لقد جاءت مذكراته مصبوبة في قالب روائي، من حيث رسم أبعاد الشخصيات، والصراع المحتدم، والأحداث والزمان والمكان والسرد، والوصف، والحوار الدرامي بنوعيه: الخارجي والداخلي وقد أضفى الاتصال بالفنون الأدبية الأخرى على المذكرات عمقاً فنياً، وجعلها نابضة بالحيوية والحركة والحياة، وأكسبها لوناً من المتعة والتشويق، ومنحها نوعاً من التجديد والتنويع في الأسلوب والمنهج، فجاءت مذكراته تحمل تجربته الذاتية وهمومه، وتعكس بصدق وأمانة انعكاس الواقع في نفسه وفكره، وتخفيف العبء عن كاهله، ورغبته في نقل تجربته للآخرين؛ حتى تتم الإفادة منها.
الكاتب أستاذ جامعي وناقد أدبي، وقد انعكست هذه المؤهلات في كتابته لسيرته الذاتية بصورة واضحة وجلية، فهو يسير في كتابته وفق خطة واضحة ومنهج قويم ونسق مرتب، ويتجلى ذلك في أمور منها :
قسم الكاتب سيرته إلى دفاتر بحيث جاءت ثمانية دفاتر.
قسم الدفاتر إلى أوراق، وقد غدا عدد الأوراق ثماني وثلاثين ومئة ورقة.
وضع الكاتب عناوين واضحة لكل دفتر، ولكل ورقة . فحمل الدفتر الأول عنوان: (النكبة الأولى والممات) عشرون ورقة، وحملت الورقة الأولى عنوان: سقطت قريتي يبنا، وحملت الورقة الثانية عنوان : لاجئ ، وهكذا.... وحمل الدفتر الثاني عنوان: (النكبة الثانية حزيران) ثماني عشرة ورقة، والدفتر الثالث عنوان: (إلى قاهرة المعز) ستَ عشرة ورقة، والدفتر الرابع عنوان: (الانتفاضة الكبرى) سبعَ عشرة ورقة، والدفتر الخامس عنوان : (الانطلاق والحرية الشخصية) ست عشرة ورقة، والدفتر السادس (الجالية وتركيا) واحدة وعشرين ورقة، والدفتر السابع عنوان : (آراء وأفكار) تسع ورقات، والدفتر الثامن والأخير عنوان: (نتائج راقية( واحدةً وعشرين ورقة.
جاءت هذه العناوين منسجمة مع ما ورد تحتها من قضايا ومضامين وأحداث، إذ اتبع الكاتب في صياغة هذه الدفاتر التراتبية الزمنية، وجاءت الدفاتر والأوراق مرتبة ترتيباً زمنياً تبدأ من ولادة المؤلف وتستمر إلى أن تصل إلى الزمن الحاضر أي: إلى ما يقارب عمره السبعين سنة، وهي أزمنة متصاعدة زمانياً، لا خلل فيها ولا تفريط . وكل ذلك ليغري القارئ، وليشوقه على الاستمرار في قراءة دفاتره وأوراقه، وهذا الترتيب والتنسيق صفة محببة إلى نفس الكاتب، لا يحيد عنها في كتبه ومؤلفاته، وهي طريقة تساعد المتلقي على فهم الموضوع وإدراكه والغوص فيه، فلا يتوه ولا يضل الهدف والقصد؛ وليوضح في ذهن القارئ الاتجاه العام لديه. فالكاتب يعتمد على عقل منظم يستطيع من خلاله أن يذكر الحقائق ويربط بينها، وهو يبني تصميم سيرته على هيكل محدد يرسم لنفسه، من حيث الأسلوب والمنهج بطريقة معدة سابقاً . يقول في الورقة الأولى من الدفتر الأول:
الورقة الأولى - سقطت قريتي بينا:
"في هذه اللحظات من هذا اليوم سقطت قرية يبنا ! في اليوم الرابع من مايو عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين ميلادي، استمر قصف القوات الصهيونية بمدافع الدبابات والطائرات؛ لإخلاء القرية من سكانها، حرب "يبنا" كانت في قرية (قبيبة شاهين) شمالي "يبنا"، حيث هاجمت القوات الصهيونية قرية "القبيبة" وحاصرتها، فهب أهالي "يبنا" للدفاع عن "القبيبة"، وفعلاً نجحوا في طرد المهاجمين" (مرايا الموج ص ١٣)
ومن ملامح التطور في كتابة هذه المذكرات؛ اتكاء الكاتب على الاستعانة بالفنون الأدبية الأخرى، وذكر نصوص أدبية خارجية جاءت منسجمة مع رؤيته وتعبيراته لغته، وهذا المنهج يثري العمل الفني الأدبي ويعمقه، ويرسخ القضية التي يعالجها في نفوس المتلقين، ويجعلهم يدركون أن القضية التي يقاربها إنما هي قضية عامة وجمعية، وليست قضية خاصة به، وجاء توظيف النصوص التراثية؛ لينبئ عن المخزون الثقـافي والفكـري لديه، ويعد خروجاً آخر على المتوقع الشائع.
فقد نقل في روايته قصيدة للشاعر الفلسطيني معين بسيسو صوَّر فيها مأساة اللاجئين عندما داهمت السيول الجارفة خيامهم، فيقول:
"قد عبر شاعر غزة معين بسيسو عن ذلك في قصيدة رائعة، عنوانها السيول، قال فيها:
لم يترك السيل غير الحبل والوتد ...
من ذلك الشعب أو من ذلك البلد
وغير بعض العرايا الساجدين على ...
تلك الوحول بقايـــاهم من الولد
وغير ما شاهدت عيناك من جثث ...
منفوخة لم تزل مجـهولة العدد
هنا حطام هنا موت هنا غرق ...
هنا بقايا رغيــــتـــف عالق بید
(رواية مرايا الموج ص 23 ).
إن توظيفُ النصوص الشعرية التراثية أضفى على النص الأدبي الروائي ظلالاً وأبعاداً شعرية جعلته قادراً على التأثير وإحداث الدهشة لدى المتلقي، فقد استدعى الكاتب نصوصاً شعرية من شعر الشاعر معين بسيسو؛ ليعطي مصداقية لسرده؛ وليبين أن المأساة جماعية.
جاءت لغة المذكرات سهلة رشيقة مأنوسة متدفقة، والتي تخلو من أي تعقيد او تقعّر في اللغة من المحسنات اللفظيّة، والتّعقيد البلاغيّ، واللجوء إلى الرّمزيّة والإبهام، فهي سلسة في بساطته يمكن أن تندرج تحت صنف لغة السهل الممتنع، بحيث يظن المتلقي أنه يستطيع أن يأتي بمثلها ولكنه يعجز عن ذلك، يقول الكاتب:
"بعد يومين من ولادتي خرجت أمي تملأ جرة الماء من ساقية الحي التي أنشأتها وكالة الغوث، وكان من عادة النساء أن ينقلن الماء بجرار الفخار، ويضعن هذه المياه في برميل كبير للاستخدام اليومي، في هذه الليلة وقعت الجرة على يد أمي فانكسر إصبعها، فقالوا: هذا فأل الولد الجديد يبدو أنه نحس، والأدهى من ذلك أن أمي تأخرت في الإنجاب بعدي مدة خمس سنوات، مما دفع أبي للتفكير بالزواج من الثانية مما زاد من قناعتهم أنني ولد نحس على العائلة". (رواية مرايا الموج ص ٢٤).
يتبين من النص السابق أن لغة الرواية جاءت رائعة، سلسة ونقية وسليمة، لا يشعر القارئ بغرابة أو بثقل الكلمات كما هو الحال في بعض الروايات التي يتم فيها استعراض العضلات اللغوية والتشبيهات والاستعارات المبالغ فيها كما حرص الكاتب على أن تكون الرواية المستويات الثقافية والاجتماعية كافة.
ومن خصائص لغة الرواية تميزها بمسحة من السخرية والمرارة، إذ تمتعت بلون من الفكاهة والظرف؛ الأمر الذي يغري القارئ في متابعة أفكار المؤلف ورؤيته، ويعمقها في نفسه . وسريان روح الدعابة في الرواية يدفع الملل والسأم عن القارئ، ويخفف عنه ما يعانيه من آلام الفقر وحياة التشرد والضياع في أمكنة اللجوء في مخيم الشاطئ بغزة، يقول الكاتب:
الورقة الخامسة عشرة - سلق البطاطا:
"ذات يوم كنت جائعاً لا طعام جاهز في البيت، الدنيا صباحاً، شعرتُ بالجوع، دخلت المطبخ وجدت ثلاث حبات بطاطا وتنكة فيها ماء، أشعلت بابور الكاز، ووضعت البطاطا في الماء على رأس البابور، خرجتُ إلى الشارع قليلاً ثم رجعت، وإذا بي وضعت البطاطا في تنكة الكاز، أمسكتها وسكبتها في مجرى الماء المؤدي إلى خارج البيت، اشتعلت النار في الكاز، وصار مجرى الماء كازاً مشتعلاً ، لا ماء عندي لإطفاء الحريق، مرت جارتنا بالصدفة، فأخـدت تصرخ حريقة في دار البوجي، هبتْ أمي من نومها، أما أنا فهربت من البيت لساعات طويلة"(مرايا الموج ص ٤٠).
ومن سمات لغة الرواية توظيفها للحوار الدرامي بنوعيه الخارجي والداخلي ، وهذا التوظيف يكشف عن المستويات الثقافية للشخصية، وجاءت مادة لغته مستمدة من لغة الحياة اليومية، إذ تومئ لغته إلى واقعية اللغة وصدقها، وهو يمنح الشخصيات حرية مطلقة في التعبير عند ذواتها ورؤاها، وينقل ما يعتمل في أعماقها من مشاعر وأحاسيس، وهو حوار يعنى بذكر أدق التفاصيل؛ ليؤكد بعض الأفكار التي يرمي الكاتب إلى توصيلها إلى المتلقي، والتي يخشى أن يكون قد مر عليها وقت فتنسى، فيوضحها بالقدر الكافي للقارئ.
ومن أمثلة الحوار الذي دار بين شخصيتين من شخصيات الرواية في مخيم الشاطئ بغزة:
"بعد الصلاة يحكي( أبو شفيق) للناس قصة شكوى أشهر محل حلويات في غزة، لكن تأتي الرياح معاكسة،
يقول أبو حسن شكيب: وصل بطيخ أبو شفيق.
اتفضل اقعد.
مالك تعبان يا أبو شفيك (باللهجة المحلية).
– من صباح ربنا، وأنا بلف في السوك، مش لاكي.
–خير إن شالله يا أبو شفيك!
– أنت عارف امرأة حسن تتوحم، حامل.
– ألف مبروووك، على شو بتتوحم؟
– لفيت كل سوك المخيم، بدور على بطيخة عوجره، كل ما أروح عنـد حدا بدلوني عليك، روح على أبو شفيك بطيخه أوعجر.
–حرام عليك" !!) رواية مرايا الموج ص ٦٥).
المتأمل في تلك المذكرات يكتشف أن الكاتب عُني بلغته التصويرية الموحية فصور المكان والطبيعة بما فيها من مكونات وعناصر، وصور شخصيات روايته وأضفى عليها مسحة من الجمال والحيوية، إذ أشار إلى ملامح تلك الشخصيات وأبعادها التي امتاحها من البيئة المعيشة، فرسم لوحة لشخصية "فتحية" ابنة مخيم الشاطئ، ومنحها بعداً إنسانياً، يقول:
"تسير فتحية بهدوء ، شوية شوية، الجسم يتمايل بخفة الروح، تسوقها أعين شباب الحارة، كلٌ يحمل مشطه في جيبه، ويضع البشكير على رقبته، إنها فتحية رمز الأنوثة وجميلة جميلات الحارة، جمال رباني دون أصباغ، شعرها يتدلى حتى منتصف جسمها، أحياناً تجدله جدائل ملونة بشرائط حمراء وزرقاء، إلى أن تصل بيتها في آخر الشارع، عيون الرب تحرسها، وعيون الشباب تحملها بين الرموش وجوا الضلوع، كنا نلاحظ أن بنات الحارة كن يتعمدن المشي خلفها أو أمامها علهن يفزن بكلمة أو نظرة فائضة" (مرايا الموج، ص ٤٢).
الأديب أبو بكر البوجي، أديب مبدع ومتميز ساهم في إغناء المكتبة العربيّة الفلسطينية، في إبداع جديد، في حُلّة جديدة؛ واستطاع في نصوص مذكراته أن يدغم الهم الذاتي بالهم الجمعي العام، فيعبر من خلال نصوص المذكرات الروائية عن هموم الإنسان العربي الفلسطيني وأحزانه وآلامه؛ لأنها تُشعر بأن مأساته جماعية، وليست فردية ذاتية، فهو ليس وحده مَنْ يعاني.
ومـن المعلوم أن المذكرات الذاتية المصوغة في قالب روائي هي ما يجذب المتعة والجذب والإثارة للمتلقي ويسمو بمكانة المذكرات ومنزلتها.
ولا جدال في أن رواية "مرايا الموج" جديرة بدراسة نقدية أوفى من هذا المقال الذي حاول إلقاء الضوء عليها في عجالة.