تأنيبُ القَدَر
كُنتَ جالساً كعادتك على الطاولةِ التي تتسع لأربع القابعة بكورنيش النيل، تنتعش بالأجواء الجميلة المنسابة على مُحيّاك والتي تؤذن بقدوم فصل الشتاء، يتلاطم الموج برفقٍ ووقار، وكنت تجلس محايداً قبالة صديقك لا متوجها إلى النيل الذي عن يمينك ولا إلى الشارع الذي عن شمالك،مشبكاً أصابع راحتيك، مسنداً بهما ذقنك تتحدث إليه تارةً وتتأمل الموج تارةً وتحدق في الوجوه المارة وتتفرّس.
وبينما صديقك يتحدث كان هُناك رجلٌ يريد أن يعبر الشارع لم تتبين ملامحه في بادئ الأمر ولكنك أحسست أنه مألوفٌ لديك... وكان يبتسم ابتسامةً واهنة،مضمومةً شفتاه.
الرصيف الذي سيعبره عبارة عن شارع ذو اتجاهين متعاكسين، رأيتَهُ يجتاز الأول ويستقر هنيهةً في الفاصل بينهما ثم يتحرك ليعبر الثاني وهنا خفق قلبك ولم تدرِ لِمَ؟!
أجل إنه هو بشحمه ولحمه، قطّبت حاجبيك وزفرت بضيقٍ عكّر عليك صفوك، وأشحت بوجهك-لليسار- عنه لبرهة ومع التفاتتك تلك، لمحتَ سيارةً تقارب أن تطير من فرط السرعة وحينها قلبك كاد أن يطير من فرط الفزعة، وصخّ صوت بوقها المُدوّي أذنيك، وصرير إطاراتها التي ضُغِطَت مكابحها بقوةٍ جعلك تعُض أسنانك وتغمض عينيك لوهلة، وبعد أن ارتد إليك طرفُك،تباطأ الزمن للحظات،وبعدها خفق قلبُك أكثر....
لحظةَ نزلت من سيارةِ الإسعاف لم تتمالك نفسك، كانت الدنيا تدور وتدور-في رأسك-ولا تستقر، فقدت وعيك وخررت أرضاً.
لكن لشدة قلقِكَ وفزعِكَ لم يستطع هبوطُ ضغطِ دمك الشديد أن يمنعك من أن تقاوم وتنهض من السرير،فخوفُك كان أشد.
النقّالةُ تسير مسرعةً من غرفة الطوارئ صوب غرفةِ العمليات، وأنت تهرولُ خلفها قلِقاً، النزيف حادٌ والجراحُ تُرعِب، وقلبٌ ينبضُ بوهن، ينازع الحياة من براثن الموت، وقلبك ينبض بقلق، ينازع الطمأنينة التي أبَت أن تستقرّ فيه،وتتعرّق بغزارة رغم برودة الجو بالخارج والممر المكيّف من الداخل.
فوجٌ من الجراحين وأطباء التخدير، والممرضين، وعبواتُ الدم التي تحلُ تباعاً،عوضاً عن ذلك الذي ينزف بشدة.
ها أنت تسير هاهُنا بجسمك، وعقلك وكل كيانِك يسيران بعيداً هناك، تمُرُّ ظلال الذكريات الحلوة والمرة كلها بمرآك.
مرت الساعتان وكأنهما سنتان، تذكرت فيهما كل ما كان بينكما من وُدٍ وإخاء استحال عداوةً وكراهية، تذكرت الطفولة والصبا وريعان الشباب، تذكرت نجاحاتكما سوياً منذ أن بدأتماها أشغالاً هامشيةً-في نظر المجتمع-وشاقّة،شيئاً فشيئاً إلى أن اغتنيْت.
تجوّلت بك الذاكرةُ في محطاتٍ عدة، ووقفت بك كثيراً عند ذلك اليوم الذي وقع فيه الخلاف في أمرٍ تافهٍ قبل عشرين سنة، كانت تلك الصفقة التي خسرها هي القشة التي قصمت ظهر البعير، بعد أن توالت خساراته تباعاً ومرّ بضائقته المالية إلى أن أفلس، وكنت أنت في أوج أمجادك في عالم المال.
حينما أتاك في المنزل وعلى وجهه أماراتُ الخيبة ليخبرك أن الصفقة التي كنت قد موّلتها له بمالك-وأخبرته أنها آخر مساعدةٍ منك تجاهه-قد خسرت، كانت خساراته فادحةً تلك الفترة ولكن هذه كانت أكبرها، شتمته وأهنته وطردته من بيتك وأذللته.
كان كل مرة ٍيأتيك ليطلب منك المال يزداد حنقك عليه أكثر بعدما ارتفع منسوبُ تعاليكَ وكِبَرِك بالتوازي مع ثرائك، إلى أن بلغت أقصى حدود تحمُّلك وقطعت آخر ما تبقى بينك وبينه من خيوط أخوةٍ كانت توهن يوماً بعد يوم.
ولم تفقه أنه في بعض المرات لا نملك زمام الأمور، نسعى ونجتهد،ولكن تأبى الأقدارُ إلا أن تنقضي ولا نملك إزاءها شيئاً إلا التسليم، تسليمٌ كتسليم "جوته" حينما قال على لسان "فيرتر": "وهذا قدَرُنا يا (فلهلم)!، ولستُ أتذمّر منه".
ألا ما أغرب الأقدار حقاً!، أن يقع الحادثُ تحت مرأى ناظريْك وعلى مقرُبةٍ منك بالتحديد، لتشهد المشهد كاملاً وتُحِّس بهول الصدمة، وكأن أضلاعك تتهشم مع كل ضلعٍ لهُ تهشّم.
الضبابُ، فالسواد يغشاك رويداً رويداً إلى أن أظلمت الدنيا في وجهك عندما زفّ لك الطبيب خبر وفاة أخيك،وصرخَت حبالك الصوتية بكل ما تملكه من قدرةٍ على إبراز مدى الوجع.
قتامةٌ وكآبةٌ وحزنٌ صادقٌ مرير كُلُّهُن يكسون وجهك، أوَ أنت الذي ظننت أنكَ لن تشفق عليه ولا شأن لك به، دمعت عيناك بسخاء، وأنت الذي قلت له في أوج خصومتكما:
أوَتدري؟ لاكلام بيني وبينك بعد الآن حتى يلج الجمل في سمِّ الخِياط وكنت تضحك بكِبَر وازدراء.
أدركتَ الآن لم نخطئ للحظات ونهفو هفواتٍ بسيطة، لكنها فاصلة فيبقى الندم سرمدياً، أدركت الآن لِمَ تدوم العلاقات التي ننزع عنها الصبغة المادية، تلك التي نبعد المال عن جوهرها.
المالُ في حدّ ذاته ليس بسيءٍ ولكن السلوك الذي ينتابنا من تكدّسه، ومن الحرص عليه والقلق على فقده والتصرفات التي نتصرفها عندما نتملّكه، والكِبر الذي يغشانا منه، هي السوء ذاته. فما الفلاحُ إلا باثنين أن نحوزه وأن نتسامى-بأخلاقنا-فوقه.
حينما أخبرهُ ابنه أنّك زرتهم في المنزل-بغيابه-وسألت عنه ولم تجده، توجه إلى منزلك حالما علِم بذلك، وكأنه أحسّ أنك أتيت إليه لترتق الفجوة التي بينكما والتي طال أمدها فعجّل بذلك، وكأنّه ظنّ أنّ أجله قد اقترب وما من بُدٍ إلا أن نغادر هذه الحياة وقلوبنا صافية.
في أحايين كثيرة لا تسعفنا الحياة لنصفح، فحينما أصرّ عليك أبناؤك أن تتصالحا بعد طول السنين، بحثت عنه طويلاً ووجدت مكان منزله ولكنك لم تجده فعدت أدراجك حالاً لأنك لم تكن مقتنعاً بالصُلح، فزارك في منزلك ولم يجدك، وكان ذلك لحكمة.
أخبره أبناؤك بمكانك المعتاد على كورنيش النيل فهرع إليك على الفور، وكان ما كان مما أنت تذكره من ظلال حادثٍ ستظل مطبوعةً بذكراك وتُؤلِمُك.
يُقالُ أنّ أقسى الوجوه وأصلبها وراءها أرقُّ القلوب وأرهفها وكنت تحسب قلبك حجراً، ومع ذلك دائمًا ما كنت تظلُّ متحيراً في دموع أولئكَ الذين لا يبدو وكأنهم لديهم دموعٌ البتّة. تتحير عندما يبكون عند الفواجع-فاجعة الموت خاصةً-تظلُّ ترقُب تلك الوجوه المتجهِّمةَ طوال حياتها تبكي بحُرقة، أولئكَ الذين لا يضحكون ولا يبتسمون، وكنت تقول في نفسك: يا ترى أين تذهب كل تلك الصلابة والشدة، ما لهم يضعفون حينها؟هل سأكونُ يوماً ما في مثل هذا الموقف؟!.
حقاً إن أمر المشاعر الإنسانية لغريب-فهي دائماً في تقلُّبٍ مستمر -
وأوضح مثالٍ على ذلك، أنكّ أنت الآن جاثٍ على ركبتيك تروي قبرَ أخيك-الذي خاصمتهُ لسنين- بدموعِك.