تجليات البعد الرمزي في رواية «عمو القزم» لخلوصي عويضة
تمهيد:
يسعى الأدباء في متابعتهم للتحولات التي طرأت على الفنون الأدبية إلى استثمار وسائل تعبيرية وتقنيات حديثة؛ لتكون قادرة على حمل تجاربهم الحياتية والفنية، ومن هذه التقنيات التعبيرية الرمزُ الذي يعد أحد التيارات الأدبية الحديثة، والرمز هو تعبير عن أفكار أو عواطف ما بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال توظيف ألفاظ قليلة، والتي توحي بمعان كثيرة، ويجد المتلقي التعبير الرمزي مختلفاً باختلاف المجال أو الحقل الذي ينتمي إليه.
تنتمي رواية عمو القزم إلى أدب المهمشين، وهو أدب واقعي يدور حول شريحة محددة داخل المجتمعات، هي شريحة الأقزام، الفئة المحرومة، وفيه يسلط عليها الأديب الضوء راصداً حالاتها النفسية المترتبة على أحوالها الاجتماعية، وفي هذه البقعة من الوطن تسطع أمام عين المتلقين مأساة هذه الفئة.
تعد الرواية أكثر الأجناس الأدبية ارتباطاً بالمجتمع، فالروائي ينهل من بيئته المعيشة، ومن واقعه الأحداثَ ذاتَ الدلالاتِ الاجتماعية اليومية، ويغوص في أعماقها؛ ليكشف للقارئ ما تخفيه وراءها من خلال الشخصيات الروائية وحركتها، فيَخلق بذلك حياةً جديدة على الورق.
ملخص رواية عمو القزم:
تعد رواية عمو القزم بمثابة سيرة ذاتية له، وهي أشبه ما تكون بمذكراتٍ القزمُ فيها هو الراوي، ومن الواضح أنه مغرم بتسجيل تجاربه في قالب الذاتية، يَسمع فيها المتلقي الأحاديثَ الداخلية التي كانت تدور في نفس القزم، وأبانت عن مشاعره وروايته للأحداث من خلال وجهة نظره، ويتم فيها وصف كل شيء من وجهة نظره. وكان القزم يروي ذكرياته بطريقة الانتقال من الحاضر الى الماضي.
تتمحور الرواية حول القزم ماهر، وهو الشخصية الرئيسة فيها، فالشخصية تحاول أنْ تعبر عن رؤية هذه الفئة المهمشة إلى المجتمع، والتي تعيش على الهامش، وتسبر أغوارها؛ لتكشف عن أبعادها النفسية، وفيما تختلف فيه عن سائر فئات أفراد المجتمع، ويبدو أن شخصية القزم قد وظُفِّتْ؛ لتكون تجسيدًا للجوانب المظلمة والمضيئة في المجتمع.
جرت أحداث هذه الرواية في حي شعبي من أحياء مدينة غزة، في منتصف الستينيات ونهاية سبعينيات القرن الفائت، والقزم في الرواية شخصية خيالية غير واقعية، تستمد ملامحها من واقع المجتمع الذي تعيش فيه، فهو شخصية فنية مصطنعة، أضفى الكاتب على معالمها سمات سحرية خيالية.
فالرمز في الأدب هو الإيحاء، أيْ التعبير غير المباشر عن النواحي النفسيّة المستترة، ورواية عمو القزم - من وجهة نظر الباحث- تحوي أبعاداً رمزية متعددة، سواء في مجال العتبات النصية، أم الشخصيات أم المكان والزمان، وعليه ستدرس الأبعاد الرمزية في الرواية من ثلاثة جوانب هي على النحو الآتي:
أولاً - رمزية العتبات:
تعد العتبات النصية من أهم المؤشرات الرمزية التي يهتم بها الرواة المعاصرون؛ لأنها تساعد المتلقي على اكتشاف الرمزية الروائية، وفك شفراتها.
ويقصد "بالعتبات النصية" مجموعة العلامات التي تعد بمثابة مداخل تسبق المتن النصي, ولا يكون له دلالة مكتملة إلا بها، ومن هذه العلامات بالإضافة إلي غلاف الرواية العنوانُ الرئيس، والعناوين الفرعية الداخلية للفصول، والمقدمة، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب: كالصورة المصاحبة للغلاف، وكلمة الناشر على ظهر الغلاف، وكلها عناصر توجه قراءة النصوص الأدبية، وتسهم بدور كبير في إثراء تأويل الملتقي لها.
الغلاف الأمامي:
يشتمل الغلاف الأمامي على العنوان والألوان والصورة، والإهداء، والغلاف الخلفي، وستتحدث الدراسة عنها فيما يأتي بالتفصيل:
أ – رمزية العنوان:
مما لا شك فيه أن فهم العنوان يسوق بالضرورة الى فهم المضمون، فهو مرآة عاكسة، إن إدراج الكاتب عنواناً لعمله الأدبي يحمل بعداً رمزياً صُبَّ في عبارة موجزة تتألف من كلمتين هما: عمو القزم أي: مضاف ومضاف إليه، ويدرك المتلقي أن ثمة توافقاً وائتلافاً بين المضاف والمضاف إليه، وبذلك يُزال الغموض من المضاف، وهذا التركيب ينفتح على التأويل؛ ليضيف أكثر من معنىً: كالتعريف والتخصيص، وبيان الجنس؛ ليكون (عمو القزم) حاضراُ في الحدث، وقد كتب العنوان في النصف الأول من الصفحة، وبخط كبير وعريض، وبلونين مختلفين (عمو) باللون الأبيض، و(القزم) باللون الذهبي.
ومن المعلوم أن العنوان الذي يحمل اسم شخصية من شخصيات الرواية يفيد أن هذه الشخصية هي شخصية رئيسة فيها، وهذا ما ينطبق تماماً على عنوان رواية (عمو القزم)، فالعنوان يحمل اسم الشخصية الرئيسة التي تمحور السرد حولها، بحيث يكشف ذلك عن الأهداف الدلالية التي أسست عليها فلسفة العنوان عند الروائي، وما يروم تحقيقه على مستوى التلقي .
ولكنْ هل يكون في الإمكان الاستغناء عن كلمة(عمو) دون أي يخسر العنوان شيئاً من دلالاته، الواقع يرفض ذلك، فلو حذفت كلمة(عمو)، فإنه ستضيع على القارئ معانٍ وإيحاءات كثيرة؛ ذلك أن كلمة (عمو) في مجتمع الحارة الفلسطينية، تحمل دلالات ثرة، فهي تحيل إلى الحنان، وتوحي بالعطف والمحبة، وتشي باحترام أهل الحارة وتقديرهم -الصغير منهم والكبير-، وتضفي على هذه الشخصية مسحة من الوقار والتقدير، وفيها تعبير عن المكانة والمنزلة البالغة التي كان يتمتع بها عمو القزم بين أهل حارته، فدلالة العنوان مَنَحت المتلقي لمحة عن مضمون النص الأدبي، ذلك أن الحصول على لقب (عمو) قد جاء بعد بذل مجهود مضنٍ في سبيل الوصول إلى
ما هو أفضل؛ لتغيير القزم لواقعه المرير.
ب - صورة الغلاف:
تمثل الصورة عنصراً جوهرياً في غلاف الكتاب، وتحتل مكاناً بالغاً في العمل الأدبي، فهي تكشف عن خفايا الرواية ومضمونها.
المتأمل في صورة غلاف رواية "عمو القزم يلحظ ان الغلاف الأمامي قد جاء على شكل بسيط وواضح، إذ وظفت في الواجهة الأمامية للغلاف صورةٌ لشخص قزم ذي كثيف شعر الرأس الأسود، ذي لحية سوداء كثيفة منظمة، وهذه تمنحه شعوراً أكبر بالرجولة، ويرتدي قميصاً أزرق اللون، وبنطالاً أخضر، ويقف وقفة جامدة، لا حياة فيها ولا حيوية، مسبلاً يديه إلى جنبيه، ويبدو مظهره العام أنيقاً ومرتباً، محافظاً على ربطة عنق أنيقة، أما خلفية اللوحة فبرتقالية تماماً، وفي داخلها صورةُ شمس مشرقة تميل إلى اللون الأصفر، وإذا اعتقد المتلقي أن هذا القزم هو ذاته "بطل الرواية" محور النص، فإنه لا يكون قد بعد كثيراً عن قصد الكاتب، فالرواية على نحو ما سيرى المتلقي، تُجسِّد حال البطل، وهو يكافح الظروف الصعبة؛ ليكون له كيان مهم، ومكانة متفردة في المجتمع الحارة، وهذه الشخصية التي رسمت انطباعياً تشير إلى شريحة الأقزام في المجتمع، وهي شريحة مهمشة ومسحوقة، ترمز لمعاناتها العميقة، ونظرة المجتمع الدونية إليها وتهميشها.
وقد عبر البطل عن هذا التحول والتغير الذي طرأ على رؤيته ومواقفه، إذ انتقل من حالة الحقد والكراهية والألم إلى حالة الأمل والإشراق والسعادة، يقول عن ذلك في نهاية الرواية معبراً:
"جلست أرقـب مـشـهـد السـماء، وولادة الضيـاء، حيـث يتـوالى انسحاب، كـتـل السـحب السـوداء مـن أفـق السمـاء، تتوالـد الألـوان وتتمـاوج متمـازجـة في مهرجـان فـرح عجيـب، تنقبـض وتنبسـط، تقترب وتبتعـد؛ ليبـدو الرمـادي ملتحـاً بالبرتقـالي بـين الأصفـر والأحمـر، ومـن رحمهـا أو أحدهمـا ينبثـق الأزرق الشـفـاف ليقـترن؛ کمـا لـو أنـه حبـيـب مـشـتـاق يحتضـن الأصفـر المشـع، قطـع كـانـت متراصـة ملتصقـة؛ هـا هـي تفك التحامهـا ببعـض وتتشـعب إلى جزئيـات كبـيرة، متوسـطة، صغـيرة، ترتحـل إلى جهـات مختلفـة، ويستمر ابتعـاد الـرمـاد والسـواد ليرخـي سـتائر عتـمـتـه عـلى تخـوم أخـرى، ويقـوى ضيـاء الأزرق والأرجـواني والأصفر، ثـم ينفجـر البيـاض مسـفـراً عـن صـبـح جـديـد" (رواية عمو القزم : 416 ).
ويتبين أن مضمون الرواية له علاقة بالعنوان والصورة على الغلاف، ويُلحظ على الواجهة الأمامية للغلاف وجود المؤشر الجنسي الذي يدل على نوعية العمل الأدبي، وهو أعلى صفحة الغلاف "رواية" يخط صغير ورقيق، ثم يليه اسم الرواية بخط كبير باللون الأبيض والذهبي.
أما الغلاف الخلفي للرواية، فيمثل جزءاً من النص الموازي؛ لكونه يحتوي على إيماءات وإشارات عديدة حاول الروائـــــــي أو المصمم من خلالها إبرازَ العنصر المسيطر في الرواية، وقد جاء النص الأدبي في الغلاف الخلفي بشكل عمودي على يسار الغلاف، وكأنه بذلك يشكل مفتاحاً يفتح قلب الرواية أو قلب ذات القزم، ويمكن القول إنه الواجهة الأمامية ذاتها للرواية مع اختلافات بسيطة فقط، فيما يخص العنوان، واسم الرواية، والمؤشر الجنسي، وقد حمل الغلاف الخلفي نص العبارة الآتية:
"للذاكرة مواسم خصب وجدب فتجود أحياناً وتسخو... إن فضاءها حافلٌ بالأضداد، فهي موطن الخوف السّري الهاجع بين جنباتها، ومثله من محفزات الفرح؛ لذا قد تمنحك هالة أو دفقاً من انسياب السعادة أو مثلها من التعاسة، المؤكد أنْ لا فكاك منهـا، وأنها لا تبالي بك أرضيتَ عنها أم سخطتَ، كأن أحدنا يعيش شبه يقين، بل يقين أنه دونها سيرفل في ثوبٍ خواءٍ عارٍ عن الحياة كخيالِ حقلٍ تَصْفُر في أحشائه ريحُ الفراغ" (الغلاف الخلفي).
من يقرأ هذه الفقرة التي لم ترد في متن النص، يدرك أن الكاتب كان على وعي تام بأبعاد العمل الفني، إذ حملت تلك الفقرة فكرة النص، ورصدت أهم ملامح شخصية(البطل)، وقامت بسردها على لسانه ذاته، إذ بمعاودة مطالعة النص، يجد المتلقي الأفكار هذه ترد في السياق الروائي على لسان البطل حيث يسيطر مخزونُ الذاكرة وما يحمل من دلالات وإيماءات رمزية على وعي القزم وجهوده التي تفوح من كل فصول الرواية، وقد أدت دوراً مؤثراً في الكشف عن توتر الذات وحيرتها وقلقها وصراعها، وجلّت أبعاد العلاقة بين البطل وشخصيات الرواية.
ب - دلالة الألوان :
شاعت في صفحة الغلاف الأمامي ألوان متعددة: منها الأبيض والأصفر والبرتقالي والأخضر والأزرق والأسود، وكل لون من هذه الألوان يحمل إيماءات وإشارات رمزية تشع معانيَ موحية، فاللون الأبيض يرمز لدلالة الأمل والصفاء، الذي يطمح إلى تحقيقه كل إنسان؛ ذلك أنه مهما طال الحزن والألم، فلا بد أن يأتي الفرح والانتصار، كما أن اللون الأبيض يرمز للطهارة والنقاء، وطيبة القلب، ويوحي كذلك بالسلام والطمأنينة والراحة، وبداية حياة جديدة ويتجلى ذلك واضحاً في كلمة (عمو)، أما دلالة اللون الأزرق، فهي ترتبط بالهدوء والراحة والسكون، وتحدّ من إحساس المرء بالتوتر والقلق، كما يبعث اللون الأزرق في الوقت ذاته على القلق والاضطراب الذي يلف الإنسان، كما ورد ذلك في الرواية.
ويشير توظيف اللون الأخضر إلى جانب اللون الأزرق على غلاف الرواية للواجهة الأمامية إلى انسجام وتلاؤم بين اللونين، إذ إن اللون الأزرق يشي بالهدوء والراحة والسكون، بينما اللون الأخضر يرمز للأمل والسعادة والانشراح، فهذان اللونان يشبهان حياة القزم التي بدأت بالمعاناة القلق والاضطراب، وانتهت بالأمل والفرح، فمن رحم الألم يزهر الأمل، واللون الأخضر الذي يدل على التجدد والحياة، ويمثل النمو والأيام الحافلة بالنشاط والقوة، وهذا التشابه هو ما يجده المتلقي في الرواية عندما يتصالح القزم ماهر مع نفسه ومع المجتمع من حوله، ويغدو ذا مكانة يعترف به الجميع.
أما اللونان البرتقالي والذهبي، فهما يُوحيان بالطاقة، ويبثّان الحرارة والدفء، فقد مزجت الصورة بين لونين قويين، حيث إنه خليط من الأصفر الذي يرمز للفرح والسعادة مع الأحمر الذي يُعبر عن الطاقة؛ الأمر الذي يجعله لوناً مميّزاً يحمل معه سلسلة من المعاني والمشاعر المبهجة والدافئة في نفس الوقت، وتأثيراً عميقاً في وجدان المتلقي وأحاسيسه.
ج - الإهداء
يعد الإهداء عتبةً نصية مؤثرة، لا تنفصل دلالتها عن السياق العام لطبيعة النص الأدبي، وعن أبعاده الإيحائية والمرجعية؛ بوصفه أحد المداخل الأولية لكل قراءة ممكنة للنص، وقد جاء الإهداء عاماً لكل متلقٍ لهذه الرواية، يتحدث الكاتب في الإهداء، فيقول:
"كما ينفجر الماء من باطن الأرض؛ تدفق حبر الرواية من بئر الحياة أمِّ الحكايات، ففاض المداد وانسابت سطورها على سجيتها كما هي؛ فكاهة بمذاق ألمٍ، كلاهما يتناغم منسجماً مع النشيد الإنساني البائس.
هي مهداة لكل من قرأها فضحك وبكى، أو مسّه حزن رحيم) "الرواية: 3).
المتمعن في عبارات عتبة الإهداء السابقة يدرك أن هذه السيرة الذاتية للقزم ترمز للعفوية والواقعية والصدق والأمانة في التعبير، وأنها تتميز بالصدق الواقعي والصدق الفني معاً، بعيداً عن الزيف والتزيد، وأن الإهداء لم يأت منفصلاً عن العنوان من ناحية، وعن المتن الأصلي من ناحية أخرى؛ وإنما جاءت عباراته متشظية في كل موضع من متن النص الروائي، وبذلك يكون الإهداء قد قام بعملية استباقية لتقديم الشخصية, وحقّق دهشة القارئ وإيحاءاته، وفتح فضاءاتٍ رحبةً للإيحاء والبث، فكل متلق لهذه الرواية سيتأثر بها، ربما تضحكه، وربما تجلب له الألم والحزن والبكاء، وهذه المفارقة هي مصدر الدهشة والإمتاع الفكري والجمالي، وقد انعكس ذلك جلياً في دوال الإهداء التي جاءت متميزة تعبر عن مدلولات وحالات نفسية ترمز لتجربة إنسانية عميقة، وهذه الدوال هي: فكاهة، ألم، حزن رحيم.
ثانياً - رمزية الشخصيات:
تعد الشخصية" العمود الفقري في الرواية، والشريان الذي ينبض به قلبها؛ لأن الشخصية تصطنع اللغة وتثبت الحوار وتلامس الخلجات، وتقوم بالأحداث ونموها وتصف ما نشاهد"، والشخصيات في الرواية هي انعكاس للواقع المعيش، وهي نقل للواقع وتجسده في شكل فني، وقد جسدت شخصيات الرواية وأحداثها واقعاً معيشاً في حقبة زمنية معينة؛ لتكون الرواية حكاية مجتمع هي أقرب منها إلى الواقع؛ لأن قصة حياة الشخصيات هي قصة حياة المجتمع، وقصة المجتمع هي قصة التاريخ، وستتناول الدراسة هذه الشخصيات بالتحليل فيما يأتي:
– 1 شخصية ماهر القزم
وهو بطل الرواية، وراويها الوحيد، والرواية بمثابة سيرة ذاتية له، ولكنها تجاوزت سيرة ذاتية لفرد؛ لتكون سيرة ذاتية لمجتمع الحارة الشعبية في حقبة زمنية معينة في أحداثها وشخصياتها، وقد أبرزت شخصية القزم، وما يعانيه من انطوائية وتوتر، ومشاعر التوحد، نتيجة التهميش الذي يجده ممن حوله.
وشخصية ماهر القزم في الرواية تحمل طابعاً إنسانياً، إنها قصة كفاح وجهاد إنسانٍ مهمش مطحون ينظر إليه المجتمع نظرة دونية، إنه يعيش في أسرة ممزقة تمتاز بالجفاف الوجداني والغياب، الأب والأب يعملان في إحدى دول الخليج، وهو يعيش في كنف جدته وعمه في غزة.
تمكَّن ماهر بما يتميز به من ذكاء وتفوق وحسن تصرف، أن يجد لنفسه عملاً في بقالة العم أحمد على الرغم من أنه لم يكن في حاجة إلى المال، ولكنْ ليثبت ذاته، ويبني شخصيته، ويصبح له قيمة وشأن في المجتمع، ويغدو ذا قيمة ومنزلة ينال بها احترام الجميع وتقديره.
لم يأت اختيار اسم ماهر للقزم؛ ليكون بطلاً، أمراً اعتباطياً أو بالصدفة، وإما جاء عن قصد وتعمدٍ، ذلك أن الروائي كان على إدراكٍ تمام بسيمائية الشخصيات، وما ينطوي عليه الاسم من دلالات الشخصية ومدلولاتها، وعليه، فإن اسم (ماهر) الذي اختاره الكاتب للقزم لم يكن اختياراً عشوائياً؛ وإنما يتناسب مع طبيعة شخصية القزم وأبعاد شخصيته، وهو يحمل في طياته مدلولات مرجعية توحي بالمهارة والذكاء وحسن التصرف، واستمعْ إلى كلام زوجة عمه عوض (محاسن)، وهي تعكس هذه الحقيقة بقولها:
هيا يا ماهر كن ماهراً ....(الرواية : ٢٠٠ ).
وترمز شخصية ماهر التي رسمها الكاتب بدقة وعناية لقدرة الإنسان في التصالح مع نفسه وأمه، فعزم على طيّ صفحة الخجل من قزامته، والحرج من ضآلة حجمه، ورفض صفة الضعف المستأسد على النفس، المهيمن على الوجدان، فمنح نفسه مسحة من ثقة؛ ليقطع مشوار الحياة بعزيمة صلبة.
وتشير شخصية القزم إلى شريحة مهمشة مسحوقة في المجتمع، لم تتطامن كبرياؤها، ولم تهن إرادتها، ولم تستسلم للعقبات والمعيقات التي واجهتها، وتمكَّنت بجدها ومثابرتها أن تغدو فاعلة وبناءة في المجتمع، كما ترمز شخصية القزم لذلك الشخص ضعيف البنية، صغير الحجم قصير القامة المهمش والمسحوق من المجتمع في أن يصبح له شأو بين الناس شأنه في ذلك شأن سائر المعاقين في المجتمع.
وكان القزم ماهر مثقفاً سياسياً إلى حد ما، إذ أخذ يُطالع الصحف التي كان يشتريها عمه، حتى ملك الحد الأدنى من المعرفة السياسية. وثمة ما يشير الى موقف سياسي للقزم، وذلك عندما فكر أن يتزوج ذهب إلى المختبر، وعمل فحصاً للسائل المنوي، فقال له موظف المختبر: أنت فلتة زمانك، عندك مئات الملايين من الحيوانات المنوية، فقال متعجباً:
لمن؟! لمن؟! أستطيع بها أن أنجب شعباً أو أمةً من الأقزام!! ( الرواية : 394).
ويمكن أن يعد هذا انعكاساً لنظرته للواقع الذي يحياه، فهل هذا القول نابع من موقف سياسي له، يقصد أن الأمة العربية على الرغم من كثرة عددها، فإنها غير قادرة على تحقيق ما تصبو إليه من آمال شأنها في ذلك شأن الأقزام الذين ينظر إليهم بعض أفراد المجتمع نظرة تهميش؟
وقد جسدت شخصية ماهر القزم ما تتحلى به شخصية الإنسان الفلسطيني من عزة نفس، وكرامة، يرتفع بها عن كل المواضع التي تقلل من قيمة نفسه ومن قيمتهِ في مجتمع الحارة المحيط به، فهو يرفض أن يستغل ما خلقه الله عليه من قزامةٍ، وضآلةِ حجم، وقصر قامة، في الحصول على المال، وهو يرى أن يحيا بكرامة واحترام وعزة نفس في طلب الرزق؛ لذا يراه المتلقي لا يستجيب لدعوة الأعمى الضرير الذي اتخذ من التدين، والعاهة التي ابتلاه الله بها من حرمان لنعمة البصر، التي عرضها عليه لامتهان مهنة التسول، والحصول على المال بطريقة سهلة، وتهافت على الحرام والشبهات بغير كدٍ ولا تعب، فهو يرى في مثل هذا العمل نوعاً من الإهانة وإذلال النفس في طلب الرزق، وبعداً عن العفاف والكرامة، يقول الشيخ الأعمى الكفيف موجهاً كلامه للقزم ماهر:
تعال اسرح معي يا قزم، تقودني، وتكسب قروشاً وطعاماً" .
أرادني يومها سلماً لتسوله، فتمنيت أن يموت قبل أن يصل إلى بيته.
صرخت به يومها قائلا:
– عيب يا شيخ، لست شحاذاً، أنا صبي بقال سابق، ومعي الآن توجيهي.
فمضى يقول:
– الإيد البطالة نجسة، لم يسمعني، وأنا أغمغم:
– والإيد المتسولة نجسة أيضاً( رواية عمو القزم، ص: 235 ).
2- العم أبو أحمد (الخميني):
كان أبو أحمد في بداية حياته عربجياً، ثم تنقل في العمل ما بين تربية المواشي، إلى البقالة، إلى غسل الأموال، وبات يُعرف بين سكان الحي بالخميني، فبعد دَهْسِ ابنه أحمد من قبل إحدى شاحنات نقل المواشي، أرخى السبيل للحيته، وأخذ الناس-آنذاك- يصفون أصحاب الدقون بكلمة (إخونجي) نسبة الى جماعة الإخوان المسلمين التي كان لها شأن في غزة آنذاك، وبعدها بسنوات معدودات أُطلق على منْ كان ملتحياً اسم (الخوميني) نسبة إلى خوميني مفجر الثورة الإيرانية، وعندما سأل القزم عمه عوض عن معنى هذين اللقبين أجابه إجابة سياسية بقوله:
كلاهما رمز للثورة والثروة، فبينهما تزاوج، والتغيير هو الرابط أو القاسم المشترك بينهما كلاهما يسعى بفكره، لتغيير حياة الإنسان للأفضل أو الأسوأ ( الرواية ص ٢٨).
أجاب القزم عمه بقوله:
يبدو أنها مشاريع رأس مالها الآن الفكر، وإن نجحت لسوغ تتحول إلى تجارة دولية، فأصحابها مهتمون جداً بتصديرها، والبعض هنا وهتاك مهتم باستيرادها( الرواية ص ٢9).
وترمز شخصية أبي أحمد في جانب منها لاستغلال الدين؛ لتحقيق منافع ذاتية شخصية، فقد استغل مظهر الإنسان المتدين الملتحي؛ ليمارس التجارة القائمة على غسل الأموال، والمتاجرة بالمحرمات، والأشياء الممنوعة إلى درجة أنه نصح فيها الخمينيُّ ماهرَ القزمَ بتربية لحيته؛ لأن تربية اللحية سنة مؤكدة، قائلاً:
سوف تساعدك اللحية على الظهور بمظهر يناسب سنك، منا يكسبك احترام الناس وتقديرهم، ويكف عنك أذى الصغار، أي أنها قد تكون حلا، فما رأيك؟ ( الرواية ص78).
وفي الوقت نفسه يجد المتلقي التناقض في شخصية الخميني، فهو يتخلى عن لحيته عندما رغب في أن يتزوج من الأرملة إلهام أم ماهر القزم، وفي مواقف أخرى تشير شخصية الخميني إلى شهامة أهل الحي ورجولتهم، فيقف موقفاً إنسانياً في بيت عزاء أبي ماهر القزم، وتتجلى شخصيته المتدينة في وصيته التي تنص على توزيع الميراث قبل موته على أبنائه وَفقاً لنصوص الشريعة الإسلامية لا ظلم ولا حيف بأحد.
3 - شخصية العم عوض:
يعد توظيف هذه الشخصية رمزاً للإنسان الفلسطيني المثقف ثقافة سياسية، فقد كان ذا ثقافة يسارية، شغوفاً بقراءة الصحف اليومية المتداولة آنذاك، فيتناوب على شراء جريدة القدس او الفجر او الشعب ، يجد فيها متنفساً، من همومه ومشاغله (الرواية: 28 ).
وهو في الوقت نفسه رمز للإنسان المتعاطي بنهم وحرصٍ محصن ضد الاكتفاء للمخدرات، شره التدخين، وكان غير مكترث بالبحث عن عمل، إنه إنسان لا يعبأ بالبحث عن العمل، وكانت أمه تحثه على البحث عن عملٍ ما، وترك البطالة، مرددةً المثل الشعبي القائل: "خذ من التلْ يَخْتَلْ".
وكان العم عوض يرتزق من أموال الآخرين، فهو يعيش على ما يرسله له أخوه رجل الأعمال المغترب أبو ماهر للإنفاق على العائلة.
وكان العم عوض رمزاً للفروسية المتوهمة، تبدو شخصيته في الظاهر قويةً عَرْضَاً وطولاً، ولكنه كان ذا شخصية ضعيفة أمام زوجته (محاسن)، يرتعد من رعد صوتها التي تكويه بكلام ساخر والتي دأبت على وصفه بأنه" طرطور الدار:" وهو يتصامم ويعفو ويصفح ويتسامح؛ ليستر عورة جبنه (الرواية: 102)، وكانت أمه الجدة تدعوه بالمتعوس المنحوس؛ لأنه لم يعش له أولاده البتة.
وعلى الرغم من ملامح شخصية (العم عوض) التي لم تكن لتروق للقزم ماهر، فإنه كان حنوناً رقيقاً لم يطل القزم منه يوماً أي عقاب(ينظر: الرواية: 61).
– 4 رمزية أبي ماهر:
ترمز شخصية أبي ماهر على الرغم من قزامته وقصر قامته للطموح والثقة بالنفس، فقد كافح وأصبح ذا مؤهل جامعي, سافر للعمل محاسباً في دولة خليجية في مجال المال والأعمال، سعى للثراء، وحلم بالزواج من إلهام الجميلة التي تليق بطموحه.
وهو يرمز للإنسان الذي يفضل جمع المال واقتنائه على منح الحنان والعطف لأبنائه، وعلى الرغم من إغدافه المال على أسرته في غزة، فإنه لم يتعهد أبناءه بحنان الطفولة والعطف عليهم، كان يفضل حب المال على منح العطف والحنان لابنيه: ماهر ومرح.
5 - رمزية كمال :
ترمز شخصية كمال للإنسان قصير القامة، وهو شاب فقير يعيش وأسرته حياة العوز والشظف واليتم، وهو أقل انطوائية من ماهر القزم، معتداً بنفسه، متفوقاً في دراسته، ربطته بماهر القزم علاقة صداقة، كان يتحمل مسئولية جسيمة عن أسرته؛ لأنه أكبر إخوانه بعد موت أبيه، كان مولعاً بالسياسة مهتماً بها، ملماً بما يدور في المجتمع من حوله من أحداث، وكان أبوه رمزاً للمنادين بحقوق العمال، ومن هنا فقد ورث كمال اهتمامه بالسياسة عن أبيه قبل أن يموت بحادث عمل منافحاً ومناصراً ومطالباً بحقوق العمال، فأنكر المسئولون صفة الحادث، وزعموا أنه قضاء وقدر، فتشردت الأسرة التي تقطن ببيت حقير مستأجر بدراهم معدودة يسددها أهل الخير والإحسان، ولم يزل كمال متأثرا بفكر أبيه القومي اليساري؛ لأنه يرى فيه الخلاص لقضيتنا الوطنية، وقضايا أمتنا التي تعاني الاستبداد سبب تخلفها بين الأمم (ينظر: الرواية: 132).
وهو يرمز لشخصية الإنسان الفقير المتفوق في الدراسة، والمثقف، يعجز عن إكمال دراسته فيضطر للعمل لدى أبي أحمد لإعالة أسرته.
وترمز شخصيته – أيضاً – لتغير الانتماءات السياسية وتبدلها، فكمال صاحب الانتماء للتيار القومي اليساري، يغير انتماءه، وهو في السجن عند الصهاينة، تخلى عن درب أبيه لتحقيق أمانيه، وانخرط في العمل الوطني ضمن الحركة الأسيرة.
وكمال الذي نجا من القزامة بأعجوبة، دخل السجن، وهو يساري ورث اليسارية عن أبيه، وخرج من السجن، وهو متدين، فهذا يشير إلى ظاهرة التحول من اليسار إلى اليمين، وهذه كانت شائعة داخل السجون، فالتحول الفكري من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين كان حاضراً في الرواية.
6 - رمزية الجدة:
ترمز شخصية الجدة للهدوء والسكينة، وكظم الغيظ، فالجدة الجميلة الطيبة تكظم استياءها بصمت من مهادنة (محاسن) زوجة ابنها (عوض) حفاظاً على عُرى النسب؛ لأن ابنتها (صفاء) تزوجت من أخ محاسن الفقير البائع المتجول الذي يسكن في حي بعيد عن حارة العائلة.
7 - رمزية إلهام (أم ماهر القزم):
ترمز شخصية إلهام لدور المرأة الفلسطينية التي تقتحم ميادين العمل خارج وطنها فلسطين، فقد تزوجت من القزم ماهر الذي يعمل محاسباً في إحدى دول الخليج، وعملت ممرضة في إحدى مؤسسات رعاية كبار السن والمعاقين التي تشرف عليها أميرة خليجية، أنها ترمز للمرأة المتسلحة بجمالها الفائق وقوة شخصيتها, وخبرتها في دنيا المال والأعمال التي اكتسبتها في الخليج, وترمز لعدم الاستسلام أمام واقع الحياة حيث سطوة الأعراف في غزة.
وهي ترمز - أيضاً- للمرأة التي تتمتع بشخصية قوية، فهي تجمع المال بمفردها، وتشترى مزرعة مستقلة عن حساب زوجها، وهي التي حاولت استثمار ذكاء ابنها البكر ماهر، وانتشاله من هواجسه، وشجعته على بناء مستقبله بالشراكة معه في إقامة روضة للأطفال.
8 - رمزية المقرئ الضرير المبروك:
هو إنسان فقير يقرأ على القبور، ويتمنى رضاء الله على الأحياء, يلج كل البيوت ببصيرته, ويعرف الرجال والنساء من أصواتهم, ويعيش في الحارة كالمبصرين، ويعرف بشيخ الحارة، وهو في الرواية يرمز لأولئك الذين يستغلون الدين؛ لتحقيق رغبات شخصية في مجتمع ذي ثقافة متخلفة، فهو يعظ الناس وينصحهم مقابل عوائد مادية ذاتية يحصل عليها منهم.
وما يميز شخصيته هو التناقض فيما بين ما يقوله، ويطالب به من التزام بقيم الدين، وما يفعله، إذ اتخذ من الدين سلاحاً لتحقيق مكاسبه المادية في المجتمع، فاتخذ من الدين مهنة للتسول، يقول الراوي على لسان الأعمى الضرير:
"بالمناسبة لا تنسَ أن ترسل لي ما تيسر من الأجبان والألبان والزبدة الشهية، اطمئن ولا تقلق سأقبل هديتك، فالهدايا تديم المودة بين الأحبة" (رواية عمو القزم ص: ٢٣٧).
ثالثاً - رمزية المكان والزمان
يعد الزمان والمكان من أهم المكونات الأساسية للعمل الأدبي، وهما يرتبطان برباط وثيق بسائر العناصر المكونة للنص الأدبي.
أ - عنصر المكان:
يمثل المكان عنصراً أساسياً من عناصر العمل الفني برمته، فهو لا يعنى فقط مساحة جغرافية؛ وإنما هو أعم وأشمل من ذلك، إنه يحمل دلالات تاريخية وأثرية، ويحمل دلالات أخرى، مثل: الكشف عن طبيعة الشخصيات والأحداث والوقائع التي تجري فوقه.
ويعد المكان أحد أهم العناصر الحكائية؛ ولذا حظي باهتمام كبير في النقد المعاصر؛ "ذلك أنه لا أحداث ولا شخصيات يمكن أن تؤدي دورها في الفراغ دون مكان، ومن هنا تأتي أهميته؛ ليس كخلفية للأحداث فحسب، بل كعنصر حكائي قائم بذاته، إلى جانب العناصر الفنية الأخرى.
تنوعت الأمكنة في الرواية وتعددت ما بين : الحارة بما فيها من بيوت وشوارع، وبقالات ومدارس، والتي تعد من مكونات البيئة الفلسطينية، وهي أمكنة حميمية مفتوحة مألوفة ترمز للألفة والمحبة والأمن، وهي أماكن مفتوحة: الشوارع والبقالة والمدرسة والمسجد، أما السجن، فهو مكان عدائي مغلق يحسُّ الإنسان فيه بالغربة وفقدان التوازن والحرية، وهو يرمز للكبت والقيود والذل والهوان .
وحين يتأمل المتلقي رواية عمو القزم يجد غالبًا أمكنة تقليديًّة بسيطة للحارة، محدداتها: الشوارع والبيوت والمسجد والمدرسة.
يُظهر الروائي ملامح المكان، وتفصيلاته الدقيقة، وهو يمتاح ملامحه ونثرياته من مخزون ذاكرته التي تعد بطل الرواية، إذ يعلن الروائي من البداية تأثيرَ المكان في أهل الحارة، مؤكداً أنَّ حياة الحارة بما فيها من أزقة وشوارع وبيوت وبقالات قد علَّمت أهلها سبل مواجهة الحياة بشجاعة وقوة وحسن تصرف، رد الأذى بالعقل والتدبر، وأنَّ الحارة تمثل لأهلها الأمنَ والأمان والتعاون والتآلف؛ فهي ممزوجة بروائح كل ما يُكِّون نسيج الحياة فيها .
وهي أمكنة تحمل في طياتها العديد من الإيحاءات والرموز، وفيها دلالة على واقع الحارة الفلسطينية، يقول الراوي واصفاً شوارع الحارة:
"سـتةُ أمـتـارٍ عـرضُ شـارعنـا الـذي تـتراص بـه البـيـوت إلى جوار بعضهـا، وقبالتها دون تـرك ارتـداد أو فسـحـة خـلاء بينهـا، وعنـد وسـطه وطرفه الجنـوبي يـنشـق زقـاق ضيـق يـضـم عـدة بيـوت واطئـة، أمـا طـولـه فكان عـلى امتـداد مرمـى البـصر" (الرواية: ص٧).
فالشوارع هي رمز للمكان الذي كانت تتنقل فيه الشخصيات، وتجرى فيه الأحداث، وهي تشير إلى طبيعة تلك الشخصيات وتكوينها الاجتماعي والنفسي والاقتصادي.
أما وصف بيوت الحارة من الداخل، فإنه يحمل رمزاً تراثياً، وذاكرة تعلق في الذهن، يقول الراوي في وصف بيتهم الأثري في الحارة، والذي يمتاح مادته جزئياته ونثرياته من مخزون الذاكرة:
"ومـا أن دلـف (كمال) صـحـن البيـت حـتـى راح يتلفـت مذهـولاً مـن بديـع زخرفتـه التـي دفـع أبي مهرهـا بـسـخاء، وباشرهـا عـمـي بيـده؛ إذ كان يهـوى حرفـة النحـت والنقـش عـلى الجـدران، وهالـه حسـنُ تنسيق زهـور ونباتـات جـدتي المزروعـة في أوان فخاريـة ملونـة، ومخلفـات صفائح الزيـت والزيتـون والسـمن، ثـم ترخـي لهـا السبيل؛ لتنطلـق نـحـو العـلا بشـدهـا بخيـوط رقيقـة فتتلاقى أطرافهـا وتشتبك مـع نبتـة الـليـف بكيزانهـا الخـضراء المتدليـة التـي تـعربـش كالعليـق متسـلقة أيـة حواجـز ، فتحت ظلالهـا الوارفـة تتفيأ جـدتي في العصاري ملتحفـة وحدتهـا(الرواية:48).
كما وظف الروائي السجن؛ بوصفه مكاناً معادياً ومغلقاً يحمل إشارة رمزية للمعاناة والألم والتعذيب، وهو يرمز للقضايا الوطنية التي تتربع على مقدمتها الحرية والخلاص من ربقة المحتل الصهيوني، إذ يعاني الأسرى في سجون الاحتلال ظروفَ اعتقالٍ سيئة، وأوضاعاً معيشية صعبة، يذوقون فبها شتى أصناف التعذيب والضرب، والشبح، والتنكيل، والعزل في الزنازين الانفرادية، والمداهمات الليلية لغرف السجن، فضلاً عن تصاعد سياسة تعذيب الأسرى داخل أقبية التحقيق المتكرر والطويل، يقول القزم ماهر عن السجن:
"جلست في الزنزانة الانفرادية أفكر ولم تكن ضيقة بالنسبة لي.... وتمنيتُ أن أكـون أكثـر شـجاعة وقدرة على التحمـل، لكننـي فشـلـت مـع أنني لم أتعـرض لمـا يقاسيه غـيـري مـن أهـوال: شـبحٍ وضربٍ، واضـح أن أدوات تعذيبهـم الممنهـج لم تـكـن تناسبني، أو أنهـم يعلمـون بـراءتي، أو لعلهـم أشـفـقـوا عـلي فقط اكتفـوا بمنعـي مـن النـوم، ويـا لهـا مـن مصيبـة!! (الرواية150: 151 ).
ولا شك في أن السجن يمثل رمزاً يتم تبدل الانتماءات السياسية من التيار اليساري إلى التيار الوطني ومن التيار اليساري إلى التيار الإسلامي وَفْقا لمصالح وأغراض معينة، ولم يكن دخول السجن دوماً لأسباب وطنية، فقد يكون ذلك لأسباب اقتصادية تحمل طابعاً وطنياً، فكل الذين دخلوا السجن من أهل الحارة لم يكونوا من المقاومين، وإنما دخلوه بسبب تهم اقتصادية، فقد اعتقل القزم بسبب اقتصادي، ولكنهم ألصقوا به تهمة وطنية؛ بوصفه أحد المخربين المقاومين للمحتلين الغاصبين، يقول المحامي الذي وكّل للدفاع عن القزم، والذي استغل هيئة القزم الجسدية أحين استغلال، وصرخ بقاعة المحكمة بصوت ساخر مشفق:
من يصدق هذا الهراء أهذا مخرب؟! من يصدق هذا الهراء؟! مجنون يحكي ، وعاقل يسمع يا حضرة القاضي. (الرواية152).
والسجن على الرغم مما به من القسوة والحرمان من الحرية والتعذيب والتحقيق، والمكث في الزنزانة الضيقة، فإنه كان بالنسبة للقزم نعمة، فقد أعاد السجن إلى نفسه الثقة، وازداد بالقراءة ومطالعة الكتب ثقافةً ومعرفةً، وأدرك في أثناء اعتقاله إمكانية تبدل المواقف والانتماءات السياسية.
ب - رمزية الزمن:
لا شك في أنَّ عنصر الزمن يرسم للمتلقي الحقبة الزمنية التي جرت فبها أحداث الرواية، لقد اعتمدت الرواية في بناء نصها على الزمن الحاضر، ثم عادت بالأحداث وراء إلى الزمن الماضي، إذ نقلت الأحداث على لسان ماهر القزم بطل الرواية، حيث يروي الأحداث معتمداً على تقنية الاسترجاع، وقد جرت أحداث الرواية في منتصف الستينيات ونهاية السبعينيات من القرن الفارط، أي: في حقبتين زمنيتين مختلفتين: حقبة الإدارة المصرية وحقبة الاحتلال الصهيوني لغزة، في هذه الحقبة شاع التعليم في قطاع غزة, وانطلاق الكفاءات العلمية, وذوي الخبرة المهنية والحرفية إلى دول الخليج العربي والدول العربية؛ ليشكلوا رافعة لدعم حياة أسرهم وذويهم، بإنعاش القطاع عمرانيا واقتصاديا وتجارياً، وبروز دورهم في نهضة الدول المضيفة في مرحلة فارقة تحولت تلك الدول من حكم العشيرة إلى بنية الدولة الحديثة التي تقوم على المؤسسات، بعد طفرة اكتشاف البترول, تلك المرحلة التي تصاعد خلالها طموح في أبي ماهر وزوجته إلهام إلى الثراء إلى أن تعرضا للإفلاس.
في ظل الاحتلال برزتْ شريحة من التجار المستغلين الذين يستغلون الظروف السائدة للحصول على الأموال من أبناء الشعب الفقير، إذ كوّن هؤلاء التجار ثراءً واسعاً من وراء عملية تحويل أموال المعتقلين في السجون.
وفي هذا الإطار يأتي استحضار شخصية المصور الأرمني (كيغام) رائد التصوير في مدينة غزة في زمن أحداث؛ ليقوم بتصوير حفل افتتاح الروضة التعليمية، وتوطئةً لعمل لوحة صورٍ؛ لتزين مكتب المديرة (إلهام)، وهذا الاستدعاء يمثل استرجاعاً لذاكرة مدينة غزة؛ وتوثيقاً لأزمان مرت بالمدينة، ومقارنتها بالتطور الزمني الذي آلت إليه الحياة في زمن كتابة الرواية(ينظر: الرواية: ٤١٢ ).
وجملة القول، إن ما وظفته الرواية من أزمنة متنوعة يعبر عن دلالة واضحة على ما كان يمرُّ به المجتمع الغزي من تحولات وتغيرات، في ظل الاحتلال الصهيوني، وما تعرض له الشعب الفلسطيني من حصار واستغلال، وحالته النفسية المتدهورة جراء المعاملات البشعة للمحتلين.
لقد أدت الرموز دلالات معنوية وقيماً جمالية ووظيفة إيحائية، وقد أبانت الدراسة أن الكاتب عمد إلى إشارات رمزية جزئية تمثلت في توظيف العتبات النصية والشخصيات وعنصري المكان والزمان، وأن الرواية لم تتجاوزها؛ لتكون بأسرها رواية رمزية، وجاء الرمز في الرواية جزئياً بسيطاً واضحاً بعيداً عن التعقيد والغموض والفلسفة والدلالات المعتمة، وكان يستمد مادته من بيئة الحارة الفلسطينية التي كانت تعيش فيها الشخصيات، وقد جاءت الرموز عفوية طبيعية بعيدة عن التكلف والالتواء، وقد جسدت كل شخصية ظاهرة محددة بعد أن أبانت الرواية معالمها النفسية والاجتماعية والفكرية، قاربت الرواية أهم القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية في المجتمع الفلسطيني، اندمجت العتبات النصية والشخصيات والمكان والزمان بعضها مع بعضها الآخر؛ لتشكل معالم البناء الفني للعمل الأدبي، وإبراز أحداثه وجوانبه.
التعريب بالكاتب:
الكاتب خلوصي عويضة من مواليد مدينة غزة 1964, صدر له عدد من الروايات منها: رواية حبر الروح في العام 2013, ورواية ماما فاطمة 2014, ورواية المباهلة، ورواية الأفعى تطوق الأرض، نشيد الحياة2021 م.
مشاركة منتدى
8 تشرين الأول (أكتوبر) 2021, 07:57, بقلم محمد الحرازين
مقال ماتع لرواية جميلة، لخص فيه الكاتب د. عبد الرحيم المحاور الرئيسة للرواية، وأبان كيفية توظيف الروائي للرمز.
رواية القزم أو ما أسميها رواية الفرح، وذلك لأن أعمال الكاتب السابقة كالمباهلة والأفعى تطوق الأرض وحبر الروح وماما فاطمة كانت تتميز بمسحة الألم والحزن، أما رواية عمو القزم فكانت ترمز إلى الأمل والفرح والسعادة رغم البدايات المؤلمة لبطل الرواية ماهر القزم.
كانت شخصيات الرواية تجسيدا للواقع الفلسطيني المعاش فهمي شخصيات واقعية مستمدة من الحارة الفلسطينية بما فيها من حياة البساطة.
ختاما أقدم تحيتي للدكتور عبد الرحيم على هذا المقال الرائع والذي قدم فيه إفادة لمن أراد أن يتعمق في روايات الروائي الفلسطيني الكبير خلوصي عويضة.