الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمد نوح بسيوني السماحى

تحت الأنقاض

لم تكن تعرف ما الذي يحدث بالخارج....

فهي ترقد تحت هذه الصخرة، منذ أن تم قصف منزلهم, الأكيد أن أباها وإخوتها قد فارقوا الحياة.

لم تعرف كم من الوقت قضته وهي على هذا الوضع المرير، ولا كم من الوقت مرّ وهي مغشي عليها لكنها تعرف أنها مريم، ذات التسع سنوات، الأخت الوحيدة لأربعة رجال أو شهداء كما كان يقول أباها دائما.
لكن يبدوا أن كلامه أصبح حقيقه.

تحت ركامٍ باردٍ من الحجارة والتراب، كانت ممدّدة، جسدها الصغير محاصرٌ بين الحديد والخرسانة، لا تقوى على الحركة، ولا تملك حتى أن تصرخ. مرت أيامٌ لا تعرف عددها، وكل دقيقةٍ كانت تمرّ عليها كأنها دهر.

في الظلمة التي لا تعرف شمسًا، بدأ الجوع يحفر في أحشائها، والعطش يلسع حلقها كجمرٍ مشتعل. كانت تتخيل الماء... تراه في خيالها يقطر، ينساب، لكنها حين تفتح فمها، لا تجد سوى الهواء الثقيل، المختلط بالغبار والموت
تعرف أنها هنا منذ وقت طويل، في الأيام الأولى من الاستيقاظ، حين صرخت ولم يسمعها أحد، بدا لها أن القصف قد أباد البلدة بأكملها. شعرت بألم حاد في إحدى ساقيها، لم تتمكن من النظر إليها لتعلق ضفيره شعرها تحت الركام, لكنها أدركت أن قدمها قد كسرت. لكن هذا لا يهم، فهي الآن تحاول أن تتذكر لحظاتها الاخيرة.
...
ظهر ذالك الملثم على شاشه التلفاز بهيبته التى جعلت أباها يقف شموخا له و هو يقول كلمته الشهيره(نعد أسرانا الأحرار بأنهم سيحرورن قريبا، فوق الأرض و سيفتح لهم السجانين أبواب الزنازين بأنفسهم)

لم تعد تتذكر ما الذي حدث بعد ذالك، نظرت إلى سماء الصخرة التي تحتجزها. تخيلتها زرقاء، تحلق فيها الطيور، سحب محملة بالمياه، تغرب عنها الشمس ليأتي دورالقمر. كانت تتشبث بهذه الصور، علّها تخفف من وطأة العزلة والظلام الذي يغطي كل ما هو محيط بها.

وفجأة... سمعت أصوات وجلبة في الخارج، أو لربما كانت داخل هذا المحبس الصخري, شعرت بالرعب، فالجنود قادمون، لربما يطلقون النار على كل شيء يتنفس، لقد رأتهم يفعلون ذالك بلا رحمه، لا يفرقون بين طفل أو شاب.

ازداد رعبها أكثر, فالأصوات تتزايد، والضجيج يعلو ويقترب، في البداية لم تستطع أن تتبين حديثهم مع بعضهم البعض, وبمرور الوقت تناهى إلى سمعها صوت هو الأقرب إلى الهمس ينادي عليها: هل أنت هنا يا مريم، هل تسمعيني؟"

كررسؤاله عدة مرات، حاولت أن تجيبه، لكن شفتاها كانتا قد التصقتا ببعضهما البعض من فرط الجفاف, أعادت المحاولة إلى أن استطاعت بصعوبة بالغة أن تنطق بكلمات مبهمة.

 رد عليها نفس الصوت ولكن بنبرة يملؤها الأمل: "لا تخافي، نحن هنا لإخراجك."

 قالت بصوت تملكه الرعب والفزع الشديد: "لا... هنا الأمان، بالخارج هناك جنود، قص، جوع وموت في كل مكان، اتركوني ها هنا في أمان"

وأخذت تبكي بلا بكاء، فعيناها جافتان وبلا دمع.

 أجابها الرجل بصوت باك وحنون: "لا يا بنيتي، كل شيء قد تبدل, الأصوات التي سمعتيها ليست أصواتهم. بل هي أصوات صقورنا المصرية تحلق فوق سمائنا، بالتعاون مع مدفعية الأردن التي دكت قذائفها كل شبر هنا، أما الأسطول البحري الجزائري فيحيط بالمياه الإقليمية ويمنع خروجهم من هنا قبل القصاص,وأغلب قادتهم تم القبض عليهم أثناء فرارهم إلى العراق "

كانت تنصت إليه في فرح لم تشعر به من قبل، إلى أن توقف عن الكلام، لابد أنه يبكي، بكت مريم وهي تشعر بدفء غريب بدأ يتسلل إلى قلبها المنهك.

ثم تابع: "مقاتلو أسود الأطلس يجوبون شوارعنا مع إخوانهم الخليجيين الذين أرسلوا كمًا من الذخائر ومواد البناء، لبناء قواعد المجد هنا، فاليوم يا صغيرتي القوات البرية المصرية تقف على حدودنا لدعمنا بالامدادات اللازمه، لا صوت الآن يعلو فوق صوتنا، نحن من أردنا الحياة على أرضنا، ما تركناها يوما ولن نتركها، قومي وانهضي، فالأرض أرضنا، دعي البكاء فقد تحقق حلمنا."

هنا سمعت مريم صوتًا غريبًا، إنه صوت سماءها الصخرية وهي تتزحزح عنها، ها هي ترتفع ببطء, الغبار يتتطاير، رأت عشرات الأيدي تمتد إليها. لم تتبين الوجوه، لكنها رأت يدًا سمراء، ويدًا شقراء، يدًا نحيلة ويدًا بها شعر كثيف، حملوها جميعًا برفق، وللحظة شعرت بالأمان.

للمرة الأولى منذ أن ولدت، أرادت أن تركض من الفرحة وسط هذا الدخان الذي يحمل فجرا جديد، لكن قدمها المكسورة منعتها. بدأت تهتز بخفة، كأنها ترقص رقصة أصحاب الأرض، عوضًا عن الركض.

وأخذت تردد: لا صوت يعلو فوق صوتنا، فقد تحقق حلمنا.

ولكن... سرعان ما تبدل كل شىء حولها, ففي زوايا الجسد النحيل، بدأت الحياة تهمد كشمعةٍ توشك أن تنطفئ، عيناها الغائرتان في محجريهما، كانتا تتقلبان بين السماء والأرض، تبحثان عن قطرة ماء أو لقمة تكف عنها سُعار الجوع، لكنّ العالم بدا كأنه أغلق أبوابه في وجهها.

شفتاها المتشققتان لم تعودا قادرتين على النطق، وجلدها المتيبس كان شاهدًا على أيام طويلة من الانتظار الصامت. أنفاسها صارت متقطعة، وكأن كل زفيرٍ يسرق من روحها جزءًا أخيرًا، وكان كل شهيق محاولة فاشلة للتمسك بما تبقّى من الحياة، دخل الرمل إلى فمها، لم تعد تشعر بألم ساقها، ترى أشقائها و ابويها ينظرون إليها بابتسامة جميلة.

وفي اللحظات الأخيرة، ابتسمت ابتسامةً واهنة، وكأنها تسلّم روحها للسماء... بعدما تجاهلتها الأرض.
ثم انطفأت السماء،لا يوجد شيء، لقد كانت تحلم، بل كانت تحتضر....كل هذا كان حلمًا تتمناه منذ المهد، حلمًا بالخلاص والنصر.

ماتت مريم.

ماتت مريم... وفي لحظتها الأخيرة، لم تصرخ، لم تتألم، بل سلّمت نفسها في سكونٍ موجع، وكأنها تقول للعالم: "كنت أرقد هنا لأيام, أو لربما لشهور ... ولم ينقذني أحد، كانت تعرف أن كل من خذلها قد أصابه الذنب إذ قالت لها أمها ذات يوم أن الجهاد فرض كفاية، وأن المقاومة تجاهد نيابة عن أمة بأكملها حتى لا يصبح الجميع آثمون أمام الله".

لعلها لم تحقق حلمها بالنصر والتمكين, ولكنها في الأخير ظفرت بقبر تحت الركام، يحمى جسدها البرئ من جوع الكلاب.
اللهم انصر إخواننا في غزة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى