تحريرُ الفرائد من لغةِ الجرائد..
كان مما وجدت بعض الأحبة عليه أنهم يخطّئون جملة كمثل: «الرأي القائل بأن لا فرق بين هذا وذاك»؛ وموضع الخطأ عندهم تعدية (القول) بحرف الجر (الباء)، والصحيح حسب رأيهم: «الرأي القائل أن لا فرق بين هذا وذاك». وإني لأخال هذا التخطيء امتدادا للتأثّر بنهج الأستاذ إبراهيم اليازجي المتوارَث في كتب الخطأ والصواب من بعده، دون التمييز بين السياقات المختلفة التي يرد فيها (القول) واشتقاقاته المختلفة.
ولقد سبق القول منا في مقالنا الأخير عن بعضٍ من سمات نهج الأستاذ اليازجي في كتابه «لغة الجرائد»، وهي من سمات نهج التضييق اللغوي عامة. هذا النهج الذي قُمت ثائرا ضدّه، وجئت قاصدا صدّه؛ لأنه في كثير من أحكامه يضرب عُرض الحائط بالكثير من أساليب السّعة والمرونة اللغوية التي تميّز لغتنا العربية، كأسلوب الترادف والاشتقاق والتضاد والاشتراك والمشاكلة والمجاز والحمل على المعنى، وإنابة اللفظ مناب غيره- خاصة في حروف الجر-، والتقارض اللغوي، والتضمين وما أدراك ما التضمين!؟ فكل هذه مجتمعة وعلى حدة، تُعدّ مظهرا من مظاهر اتساع اللغة وشمولها ومرونتها، ونوعا من أنواع الإحاطة والتنوع في الأسلوب العربي؛ فالتوسع شائع في كلام العرب، كما يؤكده العلماء، يتيح للكاتب والمتكلم أن يقلّب الكلام على وجوه عدة، يكون في كلِّها مصيبا فيما يذهب إليه، بشرط أن يكون معه وجه من وجوه التوجيه الصحيحة، وهذا يؤكد مرونة اللغة وبُعدها عن الجمود في التعبير والتحبير.
فلمّا ذهل اليازجي في سياق (القول) ومشتقاته عن كل هذه الأساليب، لم يعد الأمر من العجيب، أن يأخذ على الجرائد في لغتها استعمالها للتعبير (قال بأنْ/ قال بأنّ) فخطّأ زيادة حرف الجر الباء على (أنْ) و(أنّ) بعد لفظ (القول). وذلك لاعتباره الفعل (قال) لا يتعدى بحرف الباء في أصل معناه، حيث جاء: «وربما زاد بعضهم الباء قبل (أنْ)، وإنما تزاد الباء في مثل هذا إذا كان القول بمعنى الرأي والمذهب لا على أصل معناه..» وبناء عليه، أخذَ على ابن العطّارِ في قوله:
وقلْ لعليلِ الطرفِ عني بأنني صحيحُ التصابي والفؤادُ عليلُ
[يُنظر:مصطفى توفيق المؤيدي، لغة الجرائد، 1319هـ، ص 48]
وكما يظهر، فاليازجي على تشدده في المسألة، يبيح تعدية (القول) بحرف الجر (الباء) إذا كان القول على معنى الرأي والمذهب. ووافقه في هذا الأستاذ محمد العدناني حيث قال: «لا يتعدى الفعل (قال) بالباء إلا إذا كان معناه: (1) أحبه واختصه لنفسه (2) حَكَم به (3) اعتقد به (4) ظنه» [ معجم الأخطاء الشائعة، ص 211]
وعليه، فوفق نهج الأستاذ اليازجي نفسه لا خطأ في قولنا: «الرأي القائل بأن لا فرق بين هذا وذاك»، فالقول هنا على معنى الرأي والاعتقاد، أو قل إن شئت على معنى الظّن.
وأما المواضع التي لا يكون (القول) فيها على معنى الرأي والاعتقاد؛ فيردّ عليه ابن سلام البيروتي بما يلي: «قلت: أيُّ مانعٍ يمنعنا من تأويلِ (قل)- الواردة في بيت ابن العطّار أعلاه- بمعنَى أخبرْ أو أنبئْ؟ فكلاهما يتعدَّى بالباء. وبذلك يكونُ المعنَى صحيحًا» [ عبد الرحمن سلام، دفع الأوهام، 1441هـ، ص49، ت:محمد خير رمضان]
قلتُ: القاسم المشترك بين كل هذه التأويلات لتصويب تعدية القول بحرف الجر (الباء) هو أنها على التضمن، أي تضمين الفعل (قال) معانيَ أفعال أخرى تتعدى بالباء بنفسها، كالفعل (ظن) و (اعتقد) و (أخبر) و (أنبأ). وهذا حقيقة ما أجازه مجمع اللغة المصري في تعدية الكثير من الأفعال بناء على التضمين، على غير ما هو معهود في تعديتها، ومنها بالذات الفعل (قال). والتضمين أحد الوسائل لتعدية الفعل اللازم ولزوم المتعدي، ولنا فيه مقالات مستقبلية بإذن الله، لا سيما فيما يتعلق بتضمين الفعل (قال) في سياقات وقضايا أخرى.
وليزيد أحمد مختار – عضو المجمع المصري- توجيها آخر لتعدية (القول) بحرف الجر الباء باعتباره هذه الباء زائدة للتأكيد، وليعدّ التركيب (قال بأنّ..) من صحيح الكلام الذي لا حرج على المثقف العربي في استعماله فيقول:
«الصواب والرتبة: -قال إنّك قادم [فصيحة]-...قال بأنّك قادم [صحيحة]
التعليق: يمكن تصحيح الاستعمال المرفوض باعتبار أنَّ الباء زائدة للتأكيد...» [معجم الصواب اللغوي (1/ 598)]
ويؤكد أحمد مختار كل هذا في معجم اللغة العربية المعاصرة فيقول:
«قالَ/ قالَ بـ/ قالَ عن/ قالَ في/ قالَ لـ يقول، ...
قال بأنه سيأتي غدًا/ قال عنه إنه سيأتي غدًا: أخبر، روى.
قال بآراء السلف: رآه رأيًا واعتقده.» [معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 1872)]
فنراه في أمثلته التي ساقها يعدّي الفعل (قال) بحرف الجر الباء على معنى الرأي والاعتقاد وعلى غير هذه المعاني.
فهذان توجيهان لتعدية (القول) بالباء: (1) التضمين بمعانٍ مختلفة (2) زيادة الباء للتأكيد؛ وهذا ما يبيح لنا أن نستدرك على اليازجي ومن يحذو حذوه لنقول:
استدراك...
قل: «القائل بأن لا فرق بين هذا وذاك»، و «قلت له أن يفعل»، و «قلت له بأن يفعل»، و «قلت بأنّه سيأتي غدا»؛ ولا خطأ ولا حرج!
كانت هذه مع ما أوردناه في مقالنا السابق غُرفة من يمّ، مما وصم به اليازجي الجرائد بالخطأ خطأً، ليجد فيما بعد من العلماء والأساتذة من يوجهه التوجيه اللغوي الصحيح. وقد أبدع مجمع اللغة العربية المصري وعلماؤه العظام برد الكثير مما ذهب إليه اليازجي، فها هو الأستاذ أحمد مختار - عضو المجمع- ينقض الكثير من تخطيئات اليازجي فيوجهها توجيهات وتخريجات مختلفة في معجم صوابه.
ولما كانت الجرائد ضحية نهج التخطيء هذا، مع ما فيه من عسْف ورسْف، فالآن وقد بان أن الكثير مما وصم به اليازجي الجرائد ليس بصحيح، وأنصفناها ولو بشيء يسير منه، حري بالجرائد وأخواتها من الصحف والمجلات أن تنهج نهج الاتساع في اللغة لتبيّن صحة ما يُطعن به من لغتها، فتقفو التصحيح والتجويز بدلا من التخطيء والتغليط. ونحن إن لم نكن استوفينا الحديث في هذا الأمر، إلا أننا مع ذلك قد مهدنا له طريقا وعرا ووضعنا فيه الصُّوى والأعلام.
وليكن شعارنا دائما: يسّروا ولا تعسّروا، بشّروا ولا تنفروا، وسّعوا ولا تضّيقوا، ففوق كل ذي علم عليم!!
