السبت ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٨
التراث الفكري في الحضارة العربية الإسلامية

تراث بن حيزي النور والديجور

ميلاد خالدي

التراث مفهوم لكته الألسن والأقلام بين مؤيد ورافض، بين مثقف ومتلقي عادي. لكنه مفهوم يجدد نفسه بنفسه، وطالما يبقى لصيق ماضي الإنسان والنبراس لتطوره. فحري بنا دوماً التفكر فيه لأنه حمال أبعاد يتجاوز البعدين المكاني والزماني ليعانق المطلق ليكون سليل ثقافات.

وحسب لسان العرب لابن منظور الورث والإرث والميراث والتراث كلهم لهم نفس المعنى تم ذكر معنى التراث بأنه "ما يخلفه الرجل لورثته" يعني إرث مادي أو رمزي يتركه السلف للخلف. أما اصطلاحا فقد عرفه المفكر المغربي محمد العابد الجابري بالموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني وبمعنى آخر هو محصلة المعارف والعلوم والعادات والفنون والآداب والإنجازات المادية التي ترسبت عبر حقب التاريخ لتكشف عن هاجس إنساني من أجل بقاء الذات وإبقاء الآخر.

ما دعاني في حقيقة الأمر إلى كتابة هذه المقالة هو جملة الأسئلة المحرقة والحارقة التي تراود التفكير. وضع عربي متأزم كتب على نفسه الجهل والجهالة ,الظلام والظلامية إما أن يتأسى بسلف تليد لا يضيف لدورة التاريخ المعرفي شيئاً أو يتشبث بمخرجات الغرب استهلاكا وتبعية. غرب ينعت تاريخنا الحضاري بتاريخ العاطفة لا مكان للعقل فيه: شعوب عاطفيّة نأت بنفسها على العقلانية لتفتح باباً للتطرف والإغوائيات الميتافيزيقية. هل الآن وهنا يعدم وجود الأمس المتألق؟ أين نحن من موروثنا العربي الإسلامي؟ أين الغرب من تراثنا؟ مفاهيم ترزح في غيهب النسيان تتعطش لحيزي النور والذاكرة, لأقلام النخبة المثقفة لمزيد الاعتكاف على الإرث الحضاري الإسلامي والإنساني... وما أنا بصدد التطرق إليه هو تراث حضارتنا من علوم صحيحة، طبيعيات، فيزياء، فلك، طب وفلسفة وغير ذلك من المعارف الرائدة التي أسست لمقومات امتنا لعدة قرون وهو ما يذهب إله المستشرق والمؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب (1841-1931) في فضل الحضارة العربية الإسلامية على نهضة أوروبا.
ولعل إسهامات عالمنا الجليل الحسن بن الهيثم (965 م - 1040 م) الملقب ببطليموس الثاني في علم الضوء الدور في تبديد موجة الظلام التي تجتاحنا من خلال الإقرار بأن الضوء يأتي من الأجسام إلى العين وليس العكس كما كان يعتقد في تلك الفترة. وهي رسالة قوية بأن الأخر يمكن أن يكون مصدراً للضوء والنور خلافاً لما يروج له الان. وإليه كذلك ينسب علم البصريات واختراع القُمرة وهي ألة الكاميرا في شكلها الحالي.ومن نافلة القول وجب إبراز أهمية التواصل المعرفي أو الابستيمولوجي عكس ما يذهب إليه الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في القطيعة الابستيمولوجية التي ربما لا تخدم واقعنا المعرفي المتشظي منذ نهاية القرن الخامس عشر إلى الآن.

علوم أجدادنا الأفذاذ تنسبها أوروبا لنفسها وتنقل إلينا بعد ذلك كعلوم وافدة علينا، لك أن تسأل طالباً يدرس الرياضيات من كان وراء تأسيس Logarithme أو الخوارزميات سيجيبك لا أعلم أو أنه عالم غربي.إنه أبو الجبر والحاسوب محمد بن موسى الخوارزمي (780 م- 846 م) الذي عاش في ضل الدولة العباسية في عهد المأمون والذي عينه هذا الأخير لغزارة علمه رئيساً لبيت الحكمة في بغداد. ليترجم كتب اليونان وينشر مؤلفاته الرياضية والفلكية بالعربية التي كانت لغة العلم آنذاك.

عصر ذهبي تزعمته الحضارة العباسية في شتى ضروب المعرفة إذ يورد الكاتب عبد التواب يوسف في كتابه "الحضارة الإسلامية بأقلام غربية عربية" أن " هارون الرشيد قد انشأ أول مصنع للورق سنة 800 م حيث أنه لم يتم صنع الورق في إيطالية وألمانيا إلا في القرن الرابع عشر ولذلك فضل كبير في إشاعة الثقافة والمعرفة".

ومن بغداد إلى بلاد فارس يبرز لنا عصر الخيام (1046م-1131م) الرياضي والفلكي والفيزيائية، وهو في مجالي الشعر والفلسفة أشهر من نار على علم. أين رسائل الخيام في الجبر والطبيعيات والفلك. انها تقبع في متاحف بريطانيا وأمريكا وغيرها من المتاحف لأنهم أمم تقدس العلوم والمعارف وتستعمل شتى السبل للحصول عليها لنهضة شعوبها أما نحن فلا نبالي ربما لأنه تراث ولى وانقضى.

من غريب البحث أن آثار الخيام تنوسيت ولم يبقى ذكرها في العالم إلا كشاعر وفيلسوف مادي وليس أدل على ذلك قوله في الرباعيات وكأنه يتنبا بمصيره.

كم بذرنا حكمة الفكر البصير
وسقيناها حيا العقل الغزير
ما جنينا غير بهتان وزور
ما علمنا غير أنا في الملا
شعل البرق خبت بعد التماع

علوم غزيرة وأساطير عظام كابن سينا، الرازي، إبن النفيس، البتاني، المسعودي، إبن يونس، الفرابي، البغدادي، الزهراوي، إبن زهر... والقائمة تطول وتجود بجهابذة أثروا في الفكر الكوني وفي مسيرة العلوم تألق نجمهم وسطع خاصةً في سماء الغرب, بيد أننا وضعناهم في رفوف اللا مبالاة والتراث الميت يتعطشون لفكر أجاج وقلم رجاج. في هذا السياق يرى الدكتور خالد أحمد حربي في كتابه "فرق العمل العلمية في الحضارة الإسلامية" أنه وجب البحث والتنقيب عن مؤلفاتهم والتي مازال معظمها في صورته المخطوطة، فيتم تحقيق المخطوطات ونشرها بصورة حديثة تليق بحجم انجازاتهم.

ومن زخم العلوم البحتة والصحيحة إلى زخم الحكمة والفلسفة على يد فلاسفة ومتكلمون كالكندي والفارابي وإبن الطفيل وإبن رشد. هذا الأخير القرطبي الأندلسي المولود سنة 1126 م والمتوفي سنة 1198 م يعد من أعمق فلاسفة الأندلس والعصر الوسيط في أوروبا حيث عرف بإسم Averroès وأثر في الثقافة اللاتينية حتى مطلع القرن السادس عشر من خلال احيائه العقلانية الأرسطية والأفلاطونية ذوي النزعة الإنسانية.

الرشدية مذهب العقل والنقد تبلورت معالمه من خلال مؤلفاته "فصل المقال فيما بن الحكمة والشريعة من إتصال" و"تهافت التهافت" خصوصاً عندما يرى إبن رشد تلازم الفلسفة والدين وعدم تعارضهما وما أحوجنا في هذه الإيام إلا إضفاء النفس الفلسفي على النصوص الدينية وإحياء من جديد بعض الفرق الكلامية كالمعتزلة قصد النظر العقلي في النص الديني لتجاوز الجمود الذي يكتنفنا، عقلانية شارح أرسطو دعته إلا فصل السياسة عن الدين أو علمانية الدولة كراعية للدين وليست منشأ له. رؤية يشاطره فيها المفكر الجزائري محمد أركون حين يدعو إلا إحياء الرشدية لتكون بقعة ضوء في ظلامية أنظمة الحكم الإسلامية.

إذا كانت فلسفة إبن رشد لها الأثر الإيجابي والجليل في الفكر الغربي والمسيحي فإن الشاعر داتني فني "الكوميديا الإلهية " قد بوأه منزلةً في الجحيم ربما جزاءً له على نفض غبار التراث القروسطي وعقلنته.ومن حاضنة قرطبة والأندلس إلى بيئة المغرب الإسلامي أين نشأ العلامة التونسي عبد الرحمان إبن خلدون (1332م – 1406م ) والذي يعتبر من مؤسسي علم الاجتماع وفلسفة التاريخ ومن أشهر كتبه العبر وديوان المبتدأ والخبر أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" وهو يقع في سبعة أجزاء وأولها المقدمة وهي المشهورة بمقدمة إبن خلدون وتحتكر من هذا الكتاب ثلثه. ولكاتب المقدمة الريادة في الشرق والغرب في دراسة الظواهر الاجتماعية وتطورها دراسة تحليلية وإخضاعها للمنهج الاستدلالي التجريبي التاريخي وذلك ليؤسس ملامح علم الاجتماع والعمران البشري.وبذلك كان لإبن خلدون نسقه الفلسفي الذي أسس عليه رؤاه ونظرياته في علم الاجتماع والتاريخ حيث سعى إلى قلب وتصحيح ما أتى به رواة التاريخ من قبله حيث مزجوا الأحداث بالخرافات وحصروا التاريخ في بوتقة السرد والوصف الجافين بعيد عن كل تدقيق علمي. وفي هذا السياق نزعت فلسفة ابن خلدون لتصحح وتجدد روح التاريخ بأن "في ظاهره لا يزيد على الإخبار... وفي باطنه نظر وتحقيق" وعلى ضوء هذه الرؤية يذهب المؤرخ وفيلسوف التاريخ الإنجليزي أرنولد توينبي إلى أن "إبن خلدون إبتكر وصاغ فلسفة التاريخ وهي بدون شك أعظم ما توصل إليه الفكر البشري في مختلف العصور والأمم" ومن جانب آخر لم يفت مؤلف المقدمة أن يطرح آراه في إنتهازية الحكام واستغبائهم لشعوبهم وكأنه يتنبأ بوضعنا الحالي حين يقول "حينما ينعم الحاكم في أي دولة بالترف والنعمة، تلك الأمور تستقطب إليه ثلة من المرتزقين والوصوليين الذي يحجبونه عن الشعب ويحجبون الشعب عنه، فيوصلون له من الأخبار أكذبها، ويصدون عنه الأخبار الصادقة التي يعاني منها الشعب".

أخيراً وليس آخراً، حضارة العرب زخرت بشتى العلوم والمعارف لتبرهن للعالم بأن جيناتنا لم تجبل على الشعر والخيال فحسب وانما على العقل والتفكير لنكون حسب جوستاف لوبون "اساتذة الأمم" وبناة للحضارة الإنسانية لعدة قرون. وأما هذا الزخم والتراث الفكري المترامي الأطراف وجب ايلائه الاهتمام اللازم والأخذ بأسباب تطوره لنهضة شعوبنا العربية الرابضة في الجمود والتخلف والتبعية. وطالما كان للعرب نهضة عربية أولى حررت العقل الإنساني و أثرته فإن المفكر اللبناني ناصيف نصار ينبأ بنهضة عربية ثانية.

المراجع:

* مجلة التراث المشترك في مرآة إبن رشد وإبن عربي - المغرب- 2005.

* فرق العمل العلمية في الحضارة الإسلامية د. خالد أحمد حربي – 2015.

* كتاب الحضارة الإسلامية بأقلام غربية وشرقية - عبد التواب يونس – 2015.

* كتاب حضارة العرب لغوستاف لوبون - ترجمة عادل زعيتر.

* كتاب إبن خلدون إنجاز فكري متجدد للأستاذ بن محمد الجوهري ومحسن يوسف- 2008.

* كتاب محمد السويسي عن عصر الخيام والبيروني.

* زيارة بعض المواقع الإلكترونية حول حياة وكتابات ناصيف نصار.

ميلاد خالدي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى