تقنية التذكر في رواية «دروب العتمة» لمحمد نصار
مهاد نظري:
لا شك في أن التحولات الجديدة والتبدل العميق الذي أصاب المجتمعات العربية قد دفع كثيراً من الروائيين إلى السعي الحثيث إلى إحداث تحولات وتغيرات في النص السردي في أدبهم؛ لمواكبة تلك التحولات النامية ومسايرتها على مستوى المضمون والشكل.
وفي الأدب الفلسطيني، ومع مرور الوقت، أضيفت سرديّات جديدة إلى السرديّات الفلسطينية، تتعلّق بالحصار الظالم والعدوانات الصهيونية وما نجم عنها من تدمير وقتل ورحيل وتهجير ولجوء، وانقسام بغيض، وأمراض مزمنة.
تعد هذه التحولات من أكبر الهزّات الأدبية، وهذا الواقع وضع الكُتاب أمام تحدّيات مختلفة، وطرح عليهم أسئلة عميقة منها: كيف يمكن أن نحافظ على خصوصيّة هوية سردياتنا بدون أن يتماهى ألكاتب في سرديات الآخر، وفي المقابل ألَّا يكونَ منفصلاً عن المتلقي الجديد، فجنح عدد منهم لاستخدام عناصر سردية حديثة من تقطيع، ومناجاة للنفس وتداع حر، وتذكر، ووصف للأمكنة، وبيان دلالاتها، وحوار درامي بنوعيه. ورصد للأزمنة، وقد أخذ الحديث عن تقنية التذكر ثلاثة أبعاد هي:
البعد الأول- تقنية التذكر، مفهومها وأهميتها:
تعد تقنية التذكر إحدى تقنيات السرد الحديث وهي أن تعود الشخصية الروائية من خلال هذه التقنية إلى الوراء؛ لتتذكر أحداثاً ومواقفَ جرت معها قبل زمن معين، هذه العودة تجمد الحركة أو سير الأحداث المباشر، لكنها تجمدها لتضيئها أو تلقي بأضواء عليها؛ الأمر الذي يجعلها أكثر حيوية وخصوبة.
من المعلوم أن الذاكرة هي رحلة الذات في الحياة بأشكالها المتعددة، وهي الوسيط بين عالمين (الواقعي والتخييلي)، وهي تعبير صادق عـن مرجعيات الإنسان وقدرته على التواصل مع واقعه بصورة لا تهتم بالماضي فحسب، بل تتجاوزه إلى آفاق الحاضـر والمستقبل،
والتذكر يكشف شيئاً أو أشياء عن ماضي الشخصية، وهو يتم أحياناً من خلال كلمة أو جملة، أو موقف، أو شخصية ما تدفع الشخصية إلى التذكر، وأحيانا يتم التدكر بدون هذه الأشياء. (ينظر: فنون النثر العربي الحديث، د. شكري عزيز الماضي وأخرون، منشورات جامعة القدس المفتوحة، ٢٠١٥ ، عمان، الأردن. ص ١١٥. ١١٦ ).
ويذهب بعض النقاد إلى القول بأن تقنية التداعي الحر هي طريقة من طرق الانبعاث العفوي للذكريات، ويرون أن التداعي للأفكار هو الأداة العادية على الأقل إن لم تكن الأداة اللازمة للذاكرة، فالماضي بجميع الأشكال التي يمكنه أن يعود فيها إلى البروز سيتذكر عن طريق وساطة، والعلاقة ما بين الماضي ووسيطه هي ما نسميه تداعي الأفكار. (ينظر: جماليات اللغة في القصة القصيرة، قراءة لتيار الوعي في القصة السعودية ، أحلام حادي، المركز الثقافي العربي، جدة، ٢٠٠٤، ص ٣٧).
البعد الثاني- رواية دروب العتمة وتقنية التذكر:
من يتأمل رواية دروب العتمة يكتشف أن ثمة صلة قوية بين بنائها وتقنية التذكر، ويلحظ المتلقي حضوراً مكثفاً للذكريات بأنواعها المتعددة في الرواية.
يعد الروائي محمد نصار أحد الكتاب المبدعين الذين اشتهروا في ميدان النتاج القصصي والروائي في فلسطين، وقد صدرت روايته (دروب العتمة) عن مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر والتوزيع، في طبعتها الأولى سنة ٢٠١٧ م، وعدد صفحاتها ٢٠٦ صفحة من القطع المتوسط، ولم تأت هذه الرواية بمحض الصدفة؛ وإنما جاءت ثمرة رؤيا سابقة، إذ كتب الأديب عدداً من الروايات والمجموعات القصصية التي تناولت الموضوع نفسه مثل: ثلاثيته" "صفحات من سيرة المبروكة"، و"وجع أيوب" و"ليل وأسئلة" وغيرها. وهي في مجملها بوح واسترجاع للحظات مصيريّة، وكتابة لأزمةٍ الإنسان النّفسيّة، ولعل هذا ما يمكن تسجيله في هذه الرواية.
اعتمدت الرواية في بنائها الفني على الذاكرة الاسترجاعية التي جعلت من الرواية تبوح بأسرارها وتفتح شهية السرد من خلال لغة سردية تتكئ على لغة عفوية بسيطة.
الشخصية المركزية في الرواية هي شخصية (محمود)، وهو الراوي المشارك، ويلفي المتلقي نفسه أمام كتابة تقوم على التذكر وفتح أبواب الذاكرة، وتفحص سيرة الأنا. فالشخصيّة الرئيسة (محمود) تسرد حكاياتها بضمير الأنا في أغلب ردهات الرواية، وهي تمارس تداعيات مختلفة تتأمل مصيرها، وتنبش ذكرياتها وتطرح أسئلتها، وهي تعيش الاحتلال والحصار والعدوان، ومفاجآت رحلة الحياة. يقول الراوي عن تمكُّن حب الذكريات في أعماق قلبه و ذهنه:
"صور الماضي ترافقني في كلَّ حين، وتأبى إلا أن تُذكِّرني بواقعي اللعين، وأنا أراوغها مكابراً، موهماً النفس بأن الأشياء كما هي، الخلْق هم الخلق والشارع ذاته الشارع، حتى المحال وإن تبدلت واجهاتها مازالت تعرض نفس البضاعة والطقوس". (الرواية: ص٧).
ويُبرز الراوي المشارك اهتماماً بالغاً بآلية التذكر البنائي، وله عناية خاصة بذكريات الماضي.
وقد ترددت في الرواية مفردات تشير إلى اهتمام الكاتب بالذكريات ومن هذه المفردات:
(تذكرتُ - تذكرني -أذكرُ – ذاكرتي – الذاكرة – الذكريات – ذكرى – أتذكر – ذكرتني – ذكرياتي، تذكرين )، وهي تعد مجموعة من المفردات تلخص حياة الراوي بناء على تجربة شخصية، وأحداث وشخصيات تمر بالشخصية المركزية سواء أكانت زمنياً أم مكانياً، ومن الطبيعي أن يُعني الروائي بكل تفاصيل شخصياته وأحداث روايته.
فالماضي من منظاره الخاص -على الرغم من سوداويته ودروبه المعتمة - أمر يطرب له، ويحن لأيامه، فهناك أمل ينبض بالحياة. ولكنَّ أيام المستقبل جاءت أشد عتمة وتبخر ذلك الأمل بيد أنه ظل يتمسك بأن يلد أمل من جديد.
وهكذا تظل أيام الماضي تحمل في ثناياها معاني الجمال وأحاسيس البهجة الجميلة والحلوة لتنفتح على أمل واسع، فمن لا ماضٍ له لا حاضر له، لقد كانت الذكريات هي الأمل الذي تحيا به نفوس الناس في مجتمعهم،
لم يكن استعانة الكاتب بتقنية التذكر مصدرها الهروب من الواقع الحاضر؛ وإنما كان وسيلة لإصلاح الحاضر وجعله أكثر خصوبة وحياة وحيوية. وقد عبَّر الكاتب عن ذلك، بقوله:
"صور تتداعى من بقاع شتى ومراحل عمرية مختلفة، أطرب لها وأحن، بل إني غالباً ما أستحثها على المجيء.. استدعيها.. أتلمس دفئها الذي أفتقده وأعيد من خلالها عقارب الساعة إلى الوراء.. إلى زمن البراءة والنقاء.. إلى الفطرة الأولى، يوم كان العالم بالنسبة لنا، الحي الذي نعيش والأسرة التي تأوينا، يوم كانت أمي تروي لنا قصة الشاطر حسن والساحرة الجميلة إلى أن ننام "(الرواية: ١٩٥).
لقد كانت الذكريات هي مصدر البسمة، والزاد الذي يُستعان به في الحياة على الرغم من شظف العيش، وقلة الزاد، يقول عن الناس من حوله:
"ماضٍ يسترجعونه في كل حين.. قصص تتكرر في كلّ لقاء، بلا ملل أو كدر وكأنها زاد يتقوتون به على قسوة الحاضر ومر أيامه، حديث الذكريات عن البلاد التي سُلبت في غفلة منهم، كابوس لم يفيقوا منه بعد، يذكي الألم في الروح، خصوصاً حين يستعيدون رغد العيش الذي كان. يسرُ الحياة وسلاستها.. بساطة الناس وطيب خلقهم، شيء من زاد يمدهم بما يلزم لمواصلة العيش في واقع، صار كل ما فيه مغايراً إلى أبعد حد(الرواية: ١٩٥).
وقد سعى الكاتب محمد نصار منذ رواياته الأولى إلى الإفادة القصوى من تقنية ”التذكر”، وهي التقنية المسيطرة منذ المفتتح، وهذا طبيعي يتسق مع المضمون المطروح في الرواية، لقد وظّف محمد نصار في روايته تقنية التذكر بإتقان، ليس فيه وجل أو تردد، جاعلاً من شخصياته المأزومة تجارب إنسانية عميقة، إذ انبهر السارد بالغوص في المحتوى الذهني لشخصيته محاولاً سبر دواخلها النفسية.
المتتبع لجزئيات الرواية وتفاصيل خطوطها العريضة يلحظ أن فعل التذكر هو العنصر الأساس والرئيس في بناء حركية الرواية.
وتشكيل زخرفها اللغوي وتشكلها الجمالي الذي يحدد بنية الرواية؛ بوصفها كتلة أدبية قائمة.
لقد شغلت الذكريات حيزاً واسعاً من الخطاب السردي للرواية، وكان لتلك الذكريات حضور لافت ومكثف فيها، إذ تُقدّم الرواية كثيراً من أحداثها بصيغة “التداعي الحر”؛ وبأسلوب التذكر والاستعادة (تيار الوعي في الرواية الحديثة، روبرت همفري، ترجمة د. محمود الربيعي، دار المعارف بمصر، طبعة ثانية، ١٩٩٥م، ص٨).
تعد تقنية الذاكرة من أهم الركائز التي استند إليها نصوص الرواية الإبداعيـة، فهي قيمة معرفية تعتمد على صور تخزينية وانبعاثية، وتتكشـف عـن قـدرات وقابليـات متعددة تبعاً للمرجعية التي تنحدر منها، ولا أحـد يجادل في أن الذاكرة – بهذا المعنى- هي منطلق أي عمل أدبي، ومعينه الأساس في بنينة اقتصاده الدلالي والشكلي وتشييد عوامله المتخيلة.
البعد الثالث - أنماط تقنية التذكر في رواية دروب العتمة:
اتخذت تقنية التذكر في الرواية أنماطًاً عدة تتمثل في الآتي:
أ- الذاتية والجمعية.
ب - التذكر والمكان.
ج- التذكر والموروثات الشعبية.
أ- الذاتية والجمعية:
يقصد بتقنية التذكر الارتداد إلى الماضي، أي: أن تصور حدثاً معاصراً، ثم تعود بالذاكرة إلى الوراء؛ لتذكر حدثا من الماضي.
يصور الكاتب في هذا النمط تجاربه الذاتية، وأحاسيسه الخاصة، وينقل صوراً يجسد فيها أياماً حلوة في هذا النمط من تقنية التداعي، ويتجلى مفهوم الارتداد، وهو "أن يوحي مشهد بمشهد آخر، أي: استدعاء أشياء متشابهة معها.
فالكاتب يستذكر تجاربه الذاتية في الماضي، وهو يشاهد أشياء من الحاضر، ويتبدى ذلك في الرواية حين يصور الراوي مشهداً حياً معاصراً ليكشف فيه عن صورة إحدى بناته، وقد كبرت، بلغ عمرها أربعة عشر عاماً، يقول:
"جاءتني صبية في الرابعة عشرة من عمرها، زهرة متفتحة يفوح منها الشذى، وضعت حقيبتها المدرسية جانبا ودنت مني بثوبها المدرسي يشوبها الخجل والتوتر(الرواية ١١٤).
مشهد ابنته الصبية ابنة الرابعة عشرة سنة جعل الراوي يستدعى مشهداً لتلك الطفلة من الذاكرة عندما استقبلت الحياة لأول مرة في إحدى المستشفيات، يقول ناهلاً من معين الذكريات ، وقد عاده طيف ابنته عند ولادتها، إذ كانت:
"في لفافة بيضاء تحمله ممرضة دمشقية في الثلاثينيات من عمرها، أدنتها مني بوجه بشوش وبلهجة دمشقية تدخل القلب، قالت مبشرة: «تابرني يا استاز بنت مثل الامر ماش الله حولها. (الرواية١١٤).
فالبطل الراوي المشارك يستذكر الماضي وهو يشاهد أشياء من الحاضر، ويلح في ذلك كنوع من الاستمتاع العقلي المعتاد، كلما رأى واحدٌ ما يذكّره بما يحب.
ويدرك القارئ أن تقنية التذكر في كثير من الأحيان لا تأتي مفردة منفصلة عن سائر التقنيات الحديثة؛ إنما غالباً ما تأتي مختلطة بوسائل التعبير الأخرى من ارتداد للماضي، والحلم، واللغة التصويرية، وفضاءات الزمن والمكان.
ومن أمثلة التذكر الذاتي التي تبنى أساساً على تقنية الارتداد الفني، وفيها يتم الربط بين حادثة وحادثة أخرى، وفي هذه التقنية يُوقف الراوي أو السارد تطور الحدث، ليعود بنا إلى الوراء، كي يسترجع أحداثاً ماضية، لها علاقة وارتباط بالأحداث الحاضرة، فقد حرص الروائي في مشاهد عديدة على أن يكون الاسترجاع الفني طبيعياً، وملتحماً في نسيج مستوى النص السردي، فكان يقدم حدثاُ حاضراً، هذا الحدث يستدعي ذكرياتٍ أخرى مرتبطةً بنفس الحدث، من ذلك حديث بطل الرواية عن مشاهدته حفلة للعروسين جديدين الليلة، هذا استدعى أن يسترجع زمن أن كان مستمتعاً بحفلة عرسه مع عروسه عريسا.
بهذه التقنيات التي استخدمها الروائي، جاء الاسترجاع الفني ملتحماً بمستوى القص الأول، دون أن يحس القارئ وهو ينتقل بين الزمن الحاضر والزمن الماضي بحركة غير طبيعية، يقول الراوي:
"حين وصلت إلى المكان لم أجد أحدا من معارفي فيه، أخذت أحد المقاعد القريبة من سوره المطل على الشارع، رحتُ أنظر إلى المارة والمتجولين في المكان، تداهمني الصور والذكريات وتطل من دفتر أيامي المهترئة، حاملة معها ما بقي بين السطور من مواقف، أراها أمامي في عروسين يجلسان تحت شجرة مقابلة، يتهامسان.. يضحكان كعصفورين يتناجيان على غصن شجرة.. أرى أسرة يمرح أطفالها، فتعيدني إلى ذكرى مشابهة أبتسم حيناً وأشيح أحياناً كثيرة، حتى لا يلحظ أحد تراقص الدمع في مقلتي" (الرواية ص ٢٠٧).
فالكاتب يستدعي مشهداً من الماضي في شعور مغمور باللذة والبهجة، في المشهد السابق تقنية الارتداد للماضي الذي يتمثل في أن يصور الكاتب حدثاً معاصراً ثم يعود بالذاكرة للوراء ليذكر حدثا من الماضي.
ويعكس هذا المشهد الحالة النفسية للراوي، ويعي المتلقي هنا دور الارتداد الفني في استرجاع الماضي وربطه بحياة الشخصية النفسية؛ بهدف تعميق الإحساس بالسرور والبهجة والفرح.
وقد جاء التذكر عند الكاتب عفوياً، دون فواصل، وفي تداعٍ حر، ناتج عن استحضار الوعي لما مضى، في الرواية، فقد كانت الذكريات تنثال على ذهنه بعفوية وتلقائية دون تكلف أو تعمل، استدعتها الأحداث والشخصيات، والأزمنة.
وحينما يتذكر زوجته سلوى، وهو حدث معاصر، تتداعى إليه نماذج صورتها وهي طفلة في السادسة من عمرها، يقول:
"يا إلهي كم هي سريعة خطى الأيام! .. كم هي خادعة ! بالأمس كنا طفلين يلهوان في الساحة المطلة على حيِّنا.. أتذكرين يا سلوى يوم كنا نلعب شفت القمر…"(الرواية: ١٢).
هذا المشهد من شريط الذكريات، التي تداعت في مخيلة الراوي المشارك البطل كحلم جميل، هو من أحد المشاهد الحلوة أيام مرحلة الطفولة والمراهقة التي تختزنها ذاكرته، والتي تساعد في تفسير تصرفت الراوي في الرواية، فمرحلة الطفولة كانت من أجمل مراحل حياة الراوي يقول مخاطبا زوجته سلوى:
"لعلك تذكرينه مثلي، يوم كنا نلعب الاستغماية، خليط من صبيان الحي وبناته، يومها كنتُ معصوب العينين كنتم تختبئون خلف حاويات القمامة، أو دورات المياه القائمة في المكان وأحيانا بداخلها، لكنك أثرت الاختباء في الكرم الذي يفصل حيَّنا عن الحدود المصرية، لم ننتبه لتأخرك ولم نتدارك الأمر حتى أوشك النهار على نهايته، ولولا مجيء أمك للسؤال ما التفت لغيابك أحد، عندها احتشدنا لبحث عنك، جبْنا الأزقة.. فتشنا دورات المياه.. حاويات الزبالة، سألنا كل من صادف وجوده في المكان «بنت صغيرة.. بيضاء.. شعرها أصفر عمرها سبع سنين، لابسه فستان أزرق». أحد الكهول القاطنين قريبا من الحدود أطرق قليلا ثم قال: كأني لمحت بنتا بهذه المواصفات، دخلت الكرم قبل ساعة من الآن" ( الرواية: ١٢، ١٣).
وأحياناً تشتبك الذكريات الذاتية الفردية مع الذكريات الجمعية الوطنية؛ لتعبر عن الأحاسيس النفسية المستكنة في قاع النفس البشرية. ومن ذلك حكاية الرجل الذي عاني من معاملة الهجانة العرب السيئة؛ لأنه تسلل إلى بلدته المحتلة من اليهود؛ ليحضر مستلزمات له ولأسرته، وهي حكاية مبنية على الذكريات، وتكشف عن مدى القسوة والجور الذي كان يعانيه الإنسان الفلسطيني من ذوي القربي، وفي هذا المشهد لا يحتكر الراوي سرد الحكاية وإنما يفسح المجال للشخصيات الأخرى لترد حكايتها بنفسها ، وهذا يستجلب التنويع الأمر الي يمنح النص السردي مصداقية وأمانة وإقناعاً،
يقول الراوي على لسان أحد الرجال، مخاطباً جمعاً من رجال آخرين: "يا رجل، مسكوا والدي بعد الهجرة بأيام لحظة خروجه من البلد بأشياء القضاء خَاطَر من أجلها بالدخول، واليهود ما زالوا فيها، وضعها على ظهر الحمار وانطلق من زقاق إلى رفاق، ومن شارع إلى آخر، يحفه الموت في كل خطوة، وحين صارت البلد من خلفه، ضبطه الحاجز الأول للهجانة، أخذوا الحمار بما حمل، وأوقفوه جانباً، ثم راحوا يسألونه عن الجهة التي جاء من قِبلها، حاول إقناعهم بشتى السبل، أنه تسلل للبلدة فجرا؛ لكي يجلب مؤونة لنا بعدما نفد ما لدينا من طعام، فلم تقنعهم حجته، ثم نظر أحدهم إلى عنقه وتحسس کیّاً قدیماُ مازالت نتوؤه ظاهرة للعيان، وقال بنشوة المنتصر: "يا جاسوسة يا بنت الهرام، دي الألامة اللي يأرفوك منها اليهود ".
ثم انهالت الكرابيج على جسده من كل صوب، تحفر فيه أخاديد من نار، خرَّ على إثرها مغشياً، ولم يصحُ إلا مع أفول الشمس، نظر حوله فرآهم منشغلين بإعداد الطعام، تسلل متحاملاً على جراحه الملتهبة، وراح يزحف بين أعشاب الوادي التي أخفته عـن عيونهم، حتى وصلنا مع بزوغ الفجر، وفي اليوم التالي وصل الحمار" (الرواية ص ١٥).
ينفتح هذا المشهد المبني على تقنية التذكر على تعرية المعاملة السيئة التي كان يلقاها المهاجرون على أيدي الصهاينة والعرب على السواء؛ الأمر الذي أشعل في النفس غصة، وأبان أن لا رحمة ولا شفقة في سلوك ذوي القربي تُجاه المهجرين الفلسطينيين. يشتبك عادة مع الجماعي ويختلط بالتاريخي والثقافي، ويجعل أسئلة الذات تمتزج بأسئلة المجموعة، فالفردي لا ينفصل عن الجماعي في الرواية، فهذا الفردي الذي تجسده أنماط مختلفة من السرد الروائي يشتبك عادة مع الجماعي، ويختلط بالتاريخي والثقافي، وبذلك تكون الرواية مرآة للواقع الاجتماعي.
خرج الكاتب في هذا المشهد بنصه عن التهويمات الذاتية الحائرة وتداعيات الذاكرة، وجعله نصّاً منفتحاً على الذاكرة الجماعيّة، وواقع المجتمع وثقافته.
ثمة ما يشير في الرواية إلى أن الكاتب وظف عدداً من التقنيات البنائية الحديثة في الرواية مثل: الحوار بنوعيه، والارتداد الفني والمواقف وتقنية التداعي، وأسلوب القطع، وعالم الحلم، وإنها جميعها جاءت متماهية مع تقنية التذكر الوسيلة الرئيسة في بناء الرواية.
وقد شكل التنوع أسلوباً جماليا لتكسير رتابة الزمن عن طريق تقنية الاستباق والارتداد والاسترجاع "فهذه المفارقات تتيح للروائي إمكانية و احتمالات متعددة في ترتيب الأحداث، و تحقيق غايات جمالية، و تستجيب للاختيارات الفنية" (تحليل النص السردي، تقنيات و مفاهيم،محمد بوعزة، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، دار الأمان، الرباط، الطبعة1، 2010، ص88).
ب- التذكر والمكان:
من المعروف أن الذكريات تظل مصدر سعادة ومنبع هناءة وسرور للإنسان، يرجع إليها كلما ألمت به ضائقة تعكر صفو سعادته، لا سيما الأماكن التي قضى فيها طفولته وصباه، فالمكان يحمل ذكريات الإنسان أينما ارتحل وحلَّ أو عاد بعد غربة ونفي.
ففي أحد المشاهد يتذكر الراوي صورا باتت تلاحقه منذ الطفولة، صورة حياته في المخيم الذي ولد فيه، وغاب عنه زمناً، ولمّا عاد إليه ألفه بنثرياته ومواضعاته: بيوته وشوارعه، حواريه، كما هو لم تتغير، يقول:
"شوارع المخيم التي لم أدخلها منذ عودتي إلا فيما ندر أعادها أمامي بكامل تفاصيلها، لم يتغير فيها سوى شكل البناء، أسطحُ القرميد والزينكو صارت معظمها أسمنتاً، وبقيت الأزقة على حالها، حبال الغسيل المواجهة للبيوت، وفيه استبدلت السيارات الحديثة ببعض عربات الكارو، جلسات المسنين على العتبات كما هي، مشاهد ولدت بداخلي رغبة في البقاء، بل كدت أن أطلب منه(السائق) تركي في المكان، أجوب أزقته وحواريه، أتنسم شذا غاب عني سنين.. أسترجع ماضياً مازال حنيني إليه متقداً.
صورهً تنساب أمامي كشلال عذب، كأغنية أترنم بها في ليل أيامي الموحشة..حِرْزاً أتقي به شرور واقعي المليء بالجراح، لكنه نسف كل ما تداعى في ذهني من صوروذكريات حين قل: وصلنا يا أستاذ( الرواية : ٢٠٧).
جاء استدعاء المكان في هذا المشهد بشيء فيه متعة للراوي، فاختار مشهداً إنسانياً، يحمل الإحساس بحميمية المكان، والأشياء لدى الراوي منذ نعومته، فهي علاقة متناغمة في التداعي.
ويدرك المتلقي أن لغة الكاتب في المقطع السابق لغة نظرية بسيطة، بيد أنها تتسم بقدرته على تصوير العالم الروائي بشخصياته ومكانه وزمانه،
ويلحظ المتلقي أنها لغة نأت عن التقريرية والمباشرة واتسمت بالعفوية والبساطة ، وجنحت للغة شعرية قادرة على استعمال المفردات ذات الطاقة الإيحائية والتوصيلية، ورسم صور سردية متدفقة، من خلال استخدام العبارات المجازية بما تكتنزه من ألوان التصوير البيانية من تشبيهات واستعارات وكنايات ما يجعلها لغة فنية قادرة على تجسيد الحركة، وتنمية الأحداث والمواقف،
ويرى المتلقي أن لغة المشهد قد مالت في أجزاء منه نحو لغة الشعر لغة تصويرية كقوله:
"صورهً تنساب أمامي كشلال عذب، كأغنية أترنم بها في ليل أيامي الموحشة..حِرْزاً أتقي به شرور واقعي المليء بالجراح" إنها لغة ذات حمالات إيحائية قادرة على نقل الأجواء العامة للمشهد، وانتشال مشاعر الكاتب وأحاسيسه بقصد إحداث المشاركة الوجدانية والتأثير في نفوس المتلقين.
يرسم الكاتب مشاهد للحياة في مخيم اللاجئين حيث علاقات التعاون والمساعدة القائمة على المحبة والود، يقول عن ذكرياته التي امتاحها في طفولته في المخيم:
"أذكر يوم كُنَّا في المخيم وجاءت جارتنا (عيشة)؛ لتستدين بعض الدقيق من أمي؛ حتى تُعد كسكساً للأهل الذين جاءوها زائرين، فعمدت أمي إلى الكيس، وأفرغت ما فيه، ثم تبعتها للمساعدة التحضير.(الرواية : ١٩٤)
وقد وقد يستلهم الكاتب ذكريات طفولته في المخيم من الأحلام التي تنثال على ذاكرته انثيالاُ بدون انتظام أو ترتيب زمني، حتى باتت الحياة في المخيم مصدر سعادته وهناءته، يقول:
"أحلامي التي باتت أمام واقعي المأزوم ملاذاً أخيراً أستجير به من صلف أيامي، وقسوتها، تأخذني إلى محطات مختزنة في الذاكرة، تأتي على ضفاف الحلم، وتحملني إلى جنان طفولتي الغناء، فأراني طفلا بصحبة أقرانه، يجوبون أزقة المخيم زجاجات فارغة، حتى يجعلوا منها عجلات صغيرة، لعربات الأسلاك المعدنية، نطوف بها الأزقة والحارات، نمرح حينا ونتعارك أحيانا، علينا كبار السن، يبحثون عن غفوة القيلولة بالشتم والسباب، نهرب من المكان إلى زقاق آخر، تعاودنا الشقاوة هناك أيضا ويتكرر المشهد من جديد"( الرواية:١٩٤ ، ١٩٥).
الحلم أسلوب من أساليب بناء الرواية الحديثة؛ الأمر الذي أضفى على الشخصية / البطل حضوراً قوياً وقائماً على طول الرواية، وهو حضور مفعم بالحيوية والحركة والحياة.
كما أنَّ هذا الحضور المتحقق من خلال خطابه المباشر للقارئ يجعل القارئ يشعر وكأنه على علاقة حميمية بالبطل / الراوية.
وما زالت الحياة في المخيم مصدر غنياً بالذكريات عند الكاتب، إذ كان لمخزن التموين نصيب وافر من تلك الذكريات التي وظف الكاتب في عرضها تقنية القطع المكاني التي تُعرف بأنها تقنية القطع والمونتاج بأنها "تقنية تقوم على التقاط الكاتب صورةً، ثم يعمل لها قطعاً، ويلتقط غيرها، وربما ترتبط في اللاشعور بأمرٍ ما يذكره الراوي أو إحدى الشخصيات، ثم يعمل قطعاً للصورة الثانية، حينما تتداعى في لا شعوره صورةٌ أخرى، فيلتقط صورة ثالثة، وفي نهاية المشهد، كأنه يعمل مونتاجاً للتصوير، حيث يولَّف ويركب الصور الثلاث في خيط شعوري واحدٍ من تداعي لاوعيه، وقد برع الروائي في رسم انفعالاته من الداخل. استخدم الكاتب تقنية القطع والمونتاج السينمائي في الرواية موظفاً تقنيات سردية أخرى تماهت مع تلك التقنية؛ لبلورة مشهده مثل:
الحوار الخارجي، واللغة السردية التي تحاكي الحياة اليومية. ففي مقطع سردي يبدأ الكاتب برسم مشهد متكامل مستثمراً إمكانات تقنية القطع في صورة مكثفة، فيرسم الصورة الأولى، وذلك، بالحديث عن شخصية (عاشور) سائق الكارو الذي كان والد الراوي وأهل المخيم يوكلون إليه إتمام مهمة استلام بطاقة التموين؛ لما يتسم به من أمانة وحسن خلق. يقول الراوي:
"كنت في السادسة عشرة يومها، ولم أكن قد وقفتُ بباب التموين أبداً، كان أبي قد أوكل تلك المهمة إلى (عاشور) سائق الكارو الذي يجاورنا في الحي، يعطيه مبلغاً من المال وبطاقة التموين، فينهي المهمة على أكمل وجه" (الرواية :٢٨ ).
ثم قطع ذلك المشهد، وراح يتذكر جرأة (عاشور) المشهودة ودوره الإنساني في نقل نساء المخيم الحوامل في أيام الحرب الصعبة إلى طبيب العيادة (الرواية ٢٨ ، ٢٩). يقول:
"...فما زلتُ أذكرُ له الواقعة التي حدثت سابع أيام الحرب. حين جاءت جارتنا (أم حسن)، ترجو المساعدة من أمي في توليد كنتها التي أمسك المخاض بها وأنشب مخالبه". (الرواية :٢٨).
ثم يقطع الصورة، ويعود إلى الحديث عنه مرة ثالثة، في مكان آخر أمام مخزن التموين، فيقول:
"بحثتُ عنه بين الوجوه المكسوة بمسحوق الدقيق، فَصَعُبَ عليَّ تمييزه من بينها ....وقفتُ جانياً ورحتُ أتفحصُ الوجوه مرة أخرى، أتابعُ ملامحها المنهكة وتجاعيدها الشاهدة على حقب من القسوة والهوان، فشدني صوته المميز ببحته الخفيفة، أقبل عليَّ باشّاً متهللاً، ناولته بطاقة التموين، وطلبتُ منه أن يحضر المخصصات إلى الموقف القريب من بيتنا، فانطلق الرجل في مهمته" (الرواية : ص ٢٩).
شغلت القرية ونثرياتها ومواضعاتها من شوارع وأشجار البرتقال والزيتون؛ بوصفها مكوناً أساسيأً من مكونات المكان حيزاً واسعاً من اهتمامات الكاتب وذكرياته العميقة أيام طفولته البريئة، يقول:
"...شوارع ترابیة ضيقة بين مساحات مزروعة بأشجار الزيتون والبرتقال، تحغها اسيجه التين الشوكي الذي أصبح من ذكريات مضت، هدوء أعاد لي ذكرى القرية حين كنت أرافق أمي في زياراتها للأهل، مشهد أعادني خمسين عاما إلى الوراء ورغبة تفجرت بداخلي، كدت أن أقول معها دعوني هنا واذهبوا"( الرواية:١١٨).
ويبدو أن غرض الكاتب من سرد ذكرياته في القرية بما فيها من شوراع ترابية وأشجار هو الحث على التشبث بالأرض، والتجذر فيها، فهي مصدر الخير والبركة.
يتعامل الراوي (المشارك) مع المشهد المكاني بقدسية وطنية تحيط به، فـ "عراقة" المكان وحضوره وامتداداته أضفت عليه صفة القداسة؛ فالمكان مسكون بذاكرة الراوي المشارك، لم يجرَ عليه التغيير والتطور إلا في جوانب بسيطة، إذ حافظ على هيئته الأصلية ووضعيته الأولى؛ الأمر الذي سبب لدى الراوي المشارك الدهشة والتعجب فالطرق، الزوايا، المباني، كما هي، وعادات الناس وطرق معائشهم كما هي، وفي ذلك مفارقة على المستوى البنائي للمكان، ولاسيما أمكنة الوطن التي لم تحظ بهذه الرؤية الأليفة المندمجة مع المكان وعناصره، لذلك التقطت عين (الواصف/ الراوي) معالم المكان الأصلية، فهي محفورة في ذهنه وقلبه.
والحق أن رواية (دروب العتمة) كانت بامتياز رواية المكان المتعدد جغرافياً وإنسانياً(القرية، المخيم، المدينة).
ج – تقنية التذكر والموروث الشعبي:
تتبدى علاقة الذكريات الوثيقة مع الموروثات الاجتماعية حين ينقل الكاتب حكايا غيره من شخصيات الرواية عن التقاليد والموروثات التي كانت سائدة في المجتمع الفلسطيني في الحقبة الماضية، يقول الراوي المشارك عن حكايات أمه عن المعتقدات الشعبية لا سيما حكايات العفاريت، فيقول:
"تداعت إلى مخيلتي البريئة كل الحكايات التي سمعتها من أمي عن العفاريت التي تخرج ليلًاً عن أبي رجل مسلوخة، عن القتيل الذي اعترض طريقها، يوم خرجت ليلاُ بآلام المخاض إلى عيادة الطبيب، لم تكن يومها تعرف شيئاً عنه، كل ما شاهدته حينها عبارة عن حمار ضخم ممد في عرض الشارع ولصغر سنها، أو ألم المخاض الذي يعتصر أحشائها، ركلته بقدمها قائلة: لم نجد غير هذا الطريق حتى تقطعه علينا. لم يستجب لها، ولم يبدِ حَراكاً، بل أكدت من بعد بأنها لم تشعر بشيء لامس قدمها ولم تسمع شيئاً من القابلة العجوز التي رافقتها بصمت وعجلة، لكنها في الصباح أخبرتها بحكايته وقالت: بأنه لا يظهر إلا في الليالي القمرية، وعلى أشكال مختلفة، تقطع الطريق على من رمتهم السبل إلى هناك" (دروب العتمة ١١٦، ١١٧).
إن استدعاء مثل هذه الذكريات يحمل دلالة على أخلاق أهل القرية وطريقة وعيهم وإدراكهم للحياة، وترسخ عادات المجتمع وتقاليد في أذهان أبنائه، وتكشف عن مدى اعتقاد الناس بمثل هذه الموروثات الشعبية.
وقد حاول الكاتب الكشف عن إحساسه بالتمرد على مثل هذه التقاليد والأفكار الغيبية التي كانت شائعة في المجتمع الفلسطيني الريفي.
لقد كشف استلهام الكاتب لتقنية تداعي التذكر عن طبيعة تلك الذاكريات في ذهنه ونفسه، يقول عنها:
"صور تداعت على الذاكرة فجأة، لم أسعَ إليها ولم أستدعها، جاءت بمحض إرادتها، مصطحبة معها مراحل ومحطات كنتُ أظنها طويت مع الأيام، لكنها عادت کما لو كانت من صنيع الأمس" (الرواية : ١١٤).
يدرك القارئ أن تقنية التذكر في كثير من الأحيان لا تأتي مفردة منفصلة عن سائر التقنيات الحديثة؛ إنما غالباً ما تأتي مختلطة بوسائل التعبير الأخرى من ارتداد بالماضي، والحلم، واللغة التصويرية، وفضاءات الزمن والمكان.
كما أن توظيف تلك التقنيات الحديثة جاء متساوقاً مع السرد ومتداخلا معه.. كما أنها جاءت - أيضاً- تلقائية بدون تعمد من الكاتب؛
وقد كان الكاتب موفقا إلى حد بعيد في توظيف التقنيات السردية الحديثة المتنوعة.. حيث جاء توظيفه متساوقاً ومتداخلاً في صلب الرواية .. وغير متناقض مع نسيجها .. أو مضمونها العام؛ الأمر الذي منحها بعدا سرديا خصبا وحيوية.
ومن المشاهد التي تصور العادات والتقاليد الموروثة في المجتمع الفلسطيني ما كان يعقد من مجالس يجتمع فيها الناس للحديث عن ذكرياتهم، يقول الكاتب:
"جلست أنا بين الرجال أستقبلُ التحيا التي توالتْ تباعاً عليَّ، ناولني كبيرهم فنجان القهوة مصحوباً بالتحية، ثم التفتَ؛ ليكمل حديثه الذي انقطع لحظة وصولي إليهم، ماضٍ يسترجعونه في كلّ حين.. قصصٌ تتكرر في كلّ لقاء، بلا مللّ أو كدر وكأنها زاد يتقوتون به على قسوة الحاضر، ومرِّ أيامه، حديثُ الذكريات عن البلاد التي سُلبت في غفلةٍ منهم، كابوس لم يفيقوا منه بعد، يُذْكِي الألم في الروح، خصوصاً حين يستعيدون رغد العيش الذي كان، يسرُ الحياة وسلاستها.. بساطةُ الناس وطيبُ خلقهم، شيءٌ من زادٍ يمدهم بما يلزم لمواصلة العيش في واقع، صار كل ما فيه مغايراً إلى أبعد حد" (الرواية :١٩١ ).
الخاتمة:
تبين من الدراسة أن الرواية وظفت تقنية التذكر بالانتماء على تقنية الارتداد والرجوع إلى الماضي، والذي جاء؛ ليوضح أكثر شعورها الحالي بذكر صورة ماضية تثير الشعور وتحدث في القلب شرخاً يبحث عن الاندمال وقد اختار صاحب الرواية الغوص في تجربة فريدة في كتابة الرواية الذي يسمو بالنص؛ ليخرج الشخصية من ضيق العبارة