الأحد ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم عبد الإله الراوي

تنقية المواليد الجدد

النسمات الخريفية تدفعنا للنوم بدغدغتها جفوننا ..تهدهدنا كأم حنون ..ونحن ممددين على سريرينا .،.أنا وسعيد، على سطح أحد فنادق مدينة الموصل، والذي جمعتني به صلة قرابة بعيدة لا أكثر.

الصمت عبادة.. إنه أكثر دلالة من الثرثرة ولكن الكلام يريح أكثر لكونه تفريغ ما لدى الإنسان حتى وإن كان مجرد ثرثرة كما هو الآن.

 ثائر .. لقد حان وقت النوم.. وأريد أن أنام . بهذه البساطة يتكلم.. يريد أن ينام شيء بديهي لا يحتاج لأي جدل.. يا له من سعيد.. بل تبا له من أبله..

 سعيد أنت تحيرني بتصرفك الغريب هذا إنك تغفو بمجرد أن تقول أريد أن أنام .. وكأنك آلة .. أو ساعة توقيت .. ولكن ما الفرق بينك وبين الآلة..الإنسان يمتاز بالتفكير وأنت لا تفكر.

بينما كنت مسترسلا وجدت نفسي وحيدا .. ها هو سعيد اجتاز مرحلة الوعي .. منزلقا لحالة الموت المؤقت .. أو السعادة بالتخدير الطبيعي.

بقيت وحيدا متأملا النجوم المتلألئة على سطح السماء الحريري، هذه ذرات نارية متوهجة تسقط .. معلنة موت أحد هذه الكواكب أو كما كان يقول أجدادنا سامحهم الله. أن هذه الظاهرة دليل على موت إنسان. استمررت بالهذيان .. إنسان ألف الوحدة متقوقعا في زنزانته .. كمريض في مستشفى الأمراض العقلية.

لقد تعود عل الوحدة .. آه العادة اللعينة. كنت أجادل نفسي جدال لا يجمعه إلا مائة كاتب من الجن.. فمرة تراني فيلسوفا عظيما وأخرى شاعرا كبيرا وأحيانا كبقية الناس العاديين أفكر في مشاكلي اليومية أو الأيام التي تنقضي خالية من أي معنى.

وفي بعض الأحيان أتطلع نحو المستقبل علي أجد بارقة أمل تمنحني إشارة الانطلاق نحو غد مشرق ... أو الوقوف أو النهاية أفكار متشعبة .. دهاليز مظلمة بلا مخرج ..

عقارب الساعة تشير إلى الواحدة صباحا .. لقد سرق الوقت مني .. أفكاري لص قذر علي أن أنام .. تبا للأفكار .. لا يمكن الاستمرار على هذه الحالة أريد النوم مهما كانت الوسيلة .. عدت أتقلب في فراشي أشعر بضيق في صدري .. جميع هواء الكون لا يشبع ظمأي..إني أختنق .. نظرت حولي باصقا بكمية ضخمة من الهواء الفاسد.

الأفكار تلاحقني .. لا مفر.. والكل تؤدي ‘إلى طريق معتم .. مغلق ..النهاية ..الموت .. إن نهايتي ستكون الموت حتما .. العدم .. إذا ما فائدة المشاريع والأفكار وكل شيء..؟ نظرت إلى ساعتي إنها تشير إلى الساعة الثانية صباحا .. وعلي أن أستيقظ في الساعة السادسة لأذهب إلى عملي الممل. يجب أن أنام النوم الوسيلة الوحيدة القادرة على قطع سلسلة أفكاري ..الأفكار المزعجة التي اعتادت ملاحقتي كلما وضعت رأسي على الوسادة .. إن بيني وبين النوم عداء قديم.

التفت إلى سعيد إنه يغط في نومه غير مهتم بما يدور حوله .. كل شيء بسيط .. أأقوم وأشبعه رفسا علي أستطيع تحريك عقله الآسن.؟ ولكن لا ..إنه ينام نوما هنيئا وهو راض عن نفسه وأفكاره ..إن وجدت لديه أفكار .. أنا واثق بأني لو حدثته قليلا عما يدور برأسي لسخر مني واتهمني بالجنون .. الحق معه .. ما له ولهذه الأفكار الشيطانية ... الماضي .. مستقبل الإنسانية . إنه يعيش الساعة مطمئن البال .. وهذا أهم شيء !!!

أما الموت فعلى الإنسان أن لا يفكر به ويعدمه من قاموسه عدا أن يفكر بعمل الخير .. لأنه إن لم يستطع طرده من رأسه يموت قبل أن يراه .. إنها فلسفة رائعة حقا .. أنا فيلسوف كبير ..المجتمع المتعفن لا يقدر العباقرة .، ولكن ما دهاني لا أقتنع بهذه الفلسفة وأكتفي بالعيش في اللحظة التي أنا فيها؟

غمضت عيني ..إغماض العين سهلا ولكن الدماغ !!؟.آه لا أمل، الليل والخيل والبيداء تعرفني .. لا ليس هذا وقت مثل هذا الشعر .. شعر البطولة .. شعر التسلط المبالغ فيه .. شعر من يبحث عن موقع قيادي في الحياة العادية .. ويبالغ بمدح نفسه .. لا علي البحث عن شعر .. لغو .. يقودني للنوم. ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي اعتقد بأن القصيدة الأولى للمتنبي والثانية لامرئ القيس . ولكن ليذهبوا جميعا إلى الجحيم .. المهم أن أنام.

عدت سارحا بصحراء أفكاري .. وأخيرا نمت .. لا أدري متى وكيف .. استيقظت على صوت يصرخ بي .. أنت إنسان واع يجب أن تتمرد .فركت عيني لأتأكد من مصدر هذا الصوت .. لا أحد بجانبي، سعيد صخرة صامدة لا يحركها قبل صوت المنبه جميع ما أنتجته معا مل نوبل من متفجرات.

إنها رؤيا .. هذه خيوطها المتشابكة بدأت تحل تدريجيا .. كنت أسير في طريق خاو لا نهائي ..وكنت ألهث كالكلب العطشان من كثرة ما سرت فيه .. السأم يأكلني ..يلتهمني بنهم .. صوت مدو: ماذا تعمل هنا أين تريد ، الطريق طويل ثائر أنا واثق بأنك لست كالآخرين ولكنك تزيف حقيقتك لتصبح مثلهم وهذا مستحيل ثائر أنت إنسان واع يجب أن تتمرد.

لماذا كنت أسير في ذلك الطريق ولماذا استمررت فيه؟ كنت مستمرا لمجرد الاستمرار، أو لقضاء الوقت هروبا مما أنا فيه أليس كذلك؟ ولكن من ذلك الشخص الذي نبهني للحقيقة ؟ أهي حقيقتي .. أنا؟ ولكن تبا لي ما هي الحقيقة أو حقيقتي؟ أم شخص مجهول كان يسير ورائي ترى من هو؟

فكرت .. حقا أنا لست كالآخرين ..مثلا في عملي كم سألت زملائي في المعمل والذين يقومون بنفس العمل الذي أقوم به أن كانوا يشعرون بالملل أو الضجر.. يجيبوني بالنفي أو يقولون لي في بعض الحالات النادرة وللحظات قليلة لا يلبث أن يزول.

أما أنا فكأنني والملل توأمان .. لا الحقيقة إن عملي ممل فأنا عامل في شركة للمرطبات وعملي هو الجلوس على مقعد وأمامي مسرف حديدي متحرك تمر فوقه القناني المليئة.. لأفحصها لأتأكد إن كان بينها واحدة فيها أي عنصر غريب أو فيما إذا كان لونها يختلف عن الأخريات. لأخرجها وأضعها جانبا .ليتم إعادة ملئها.

ها أنا جالس في مكان عملي وأنا أسمع نهيق رئيس المراقبين بصوته المزعج يشتم ويلعن أحد العمال المساكين لماذا تأخرت لمدة خمسة دقائق؟، العامل المسكين يعتذر ويقول: هذه هي المرة الأولى التي أتأخر بها لكوني سهرت قليلا لمرض أحد أطفالي لكن هذا الاعتذار لم يجد صداه لدى المسؤول المذكور.

القناني اللعينة تمر أمامي متلاحقة أحدها تدفع الأخرى .. أفعى طويل .. قبيح المنظر ، ولكني لا أرى لها رؤوسا .. بل تحولت جميعها إلى رؤوس تريد التهامي.

هذه قنينة غير ممزوجة جيدا .. وعلي إخراجها هذا هو عملي القيام بإخراج كل قنينة شاذة عن مثيلاتها، إني منق اجتماعي أقوم بعزل كل شاذ لتعاد ولادته من جديد ..ليكون كالآخرين ولكن لو وجد هذا المنقي وكنته أنا فهل سأقوم بنفس العمل الذي أقوم به الآن؟

لا لا يمكن .. يجب أن يسمح للمختلفين عن المجتمع بالعيش بين ظهرانيه ومزاحمته وإلا انعدم التطور .. ولكن لماذا التطور؟

آه ليت في المجتمع مثل هذا العمل الانتقائي .. وإمكانية إعادة الولادة للشخص الغريب ليكون منسجما ومتجاوبا مع المجتمع وسحقا للتطور. وللتقدم، ولكن لا ..لا أوافق أن أكون من القطيع لا أريد انعدام الفروق وموت الآمال

 أيها الخامل.. ماذا تعمل؟

ما هذا؟ نظرت إنه مراقب العمل قلت له : ماذا أصابك ولم الصراخ؟

 يا متعفن العقل ..قم إلى المدير لترى السبب.

حقا إنا متعفن العقل وإلا ما هذه الأفكار .. ها هو المدير منتفخا على كرسييه الدوار، ناظرا لي نظرة ملؤها الاحتقار .. قال بتهكم

 أين كنت طوال هذه المدة يا شاطر؟

الرفض يتقمصني .. رفض قبول مكانتي الحقيرة من قبل كومة القذارة هذه .... أأصرخ بوجهه وأقول له كنت أفكر بمصير البشرية .. تفكير لم ولن تصله أنت بعقلك الآسن ولا أمثالك الحقراء ...ولكن لا يجب أن أسيطر على أعصابي..

 كنت في مكاني يا أستاذ وأقسم بأني لم أتركه.

مد يده وهو يدمدم إلى دولاب بجانبه وأخرج عدة قناني .. وضعها على المنضدة وقال

 إني أعلم بأنك لم تغادر مكانك .. ولكن كيف مرت هذه القناني غير النظامية دون أن تشاهدها؟ أظنها تركت مسيرتها وخدعتك بعبورها من خلف ظهرك ...أليس كذلك؟!!؟

ماذا أعمل؟ كيف أحتمل هذه الاهانات أأقفز عليه وأهشم رأسه بهذه القناني .. وليذهب إلى الجحيم؟ ولكن لا.

 الحقيقة يا أستاذ كنت غارقا ببعض الأفكار.

وهنا انفجر ضاحكا باستهزاء.

 آه ..كنت تفكر .. أليس كلك؟ خبرنا أين وصلت بأفكارك أيها الفيلسوف الكبير .. والعبقري الأثير؟ هل تمكنت من تحويل التراب ذهبا ..أو الماء خمرا؟ مسكين لقد ظلمك المجتمع ، ولم يدع لعبقريتك مجالا لتتفتح .. ها ..ها وغرق في قهقهة لا نظير لها إلا نعيق الغربان.

إنه ساذج كالآخرين لا يفكر إلا بالمال. والخمر. عاد المدير معلقا بعد أن خفت عاصفة الضحك.

 الذنب ليس ذنبك ..نحن المذنبون. لكوننا نعين أطفالا مراهقين أمثالك في حين أن واجبنا يفرض علينا أن لا ندع لهم مجالا في معملنا لأنهم دائما مشغولوا البال ..اليوم غضبت حبيبته ويفكر بوسيلة أو بأخرى لإرضائها .. ويوم آخر شاهد فتاة جميلة ملئت عليه قلبه وفكره .. ويحكم بأسلوب يمكنه من التقرب إليها.

وبينما كان المدير مسترسلا بسخريته هذه ، انفجرت ضاحكا .. إنه تافه كالآخرين ..لا أنا التافه لأني شاذ ولكن لا .. ألم يقل أحد الفلاسفة – بأن الإنسان الوحيد هو الرجل العظيم أو المتميز عن الآخرين؟ ألم يكن أغلب العباقرة شاذين؟
ولولا هؤلاء المتميزين لما سارت الحضارة بهذه الخطوات الجريئة .. ولشاخت الحضارات القديمة وماتت.

في هذه اللحظة شعرت بيد تضغط على يدي وتضع فيها ورقة .. علمت أنها أمر فصلي من العمل.
نظرت إلى المعمل خلفي وأنا أتذكر الثلاثة أشهر التي قضيتها فيه ..مضيعا لوجودي .. ومزيفا لشخصيتي .. حقا لقد كنت قنينة مرطبات لا أكثر.

كتبت في الموصل في الشهر السابع أو الثامن عام 1964


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى