الأربعاء ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٨

توظيفُ الدينِ لأغراضٍ استعماريّةٍ

يوسف شحادة

"لا ألومُ لوسي...الّتي أغوتْ نفسًا يهوديّةً من أجلِ المسِّ بدولتِنا ومنْعِ المزيدِ من أحفادِ اليهودِ من الاستمرارِ في السُّلالةِ اليهوديةِّ". كلماتٌ لعُضوِ الكنيست "أورن حزان" تنْضَحُ بالسُّمِ وكُرهِ الآخر، قالها في أعقاب التزاوج بين "لوسي هريش" والممثّل "تساحي هليفي" ليعبّرَ فيها "حزان" عن طهارةِ الدّمِ اليهوديِّ كشرطٍ مسبقٍ لاستمراريةِ الوجودِ اليهوديِّ؛ ومن هذا المنطلقِ دعاها لتغيير ديانتها واعتناق اليهودية وذلك كي لا تعرّض استمراريةَ الحياةِ اليهوديّةِ للخطرِ.

كلمات حزان رأيتها أفضلَ بدايةِ لمداخلتي أتوّخى فيها فضْحَ أكاذيبَ ورواياتِ الصهاينةِ الجددِ الذين تقنّعوا بلباسٍ دينيِّ عقائديٍّ، بدعوى امتلاكِ الحقيقةِ حولَ شعبِ اللهِ المختارِ ونقاوةِ العرقِ اليهوديِّ وتوظيفِها لأغراضٍ سياسيّةٍ.

إنّ هذهِ الحادثةَ تعكسُ كغيرِها منْ الأحداثِ الّتي سأتطرّقُ إليْها في مُداخلتي، روحَ ما وردَ في مقالاتِ كتّابِ الصهيونيةِّ الدينيةِّ (مترجمة للعربية في كتاب أشقر) من خرافاتٍ وأساطيرَ تُغذّي أفعالَهم الظّالمةَ ضدّ الآخرينَ. "حزان" الّذي نشأ وترعْرعَ في مدرسةٍ دينيّةٍ في المناطقِ الُمحتلّةِ هذا مع أنّه تغيب عنه السماتُ اليهوديةُ لحياته المضّطربةِ، غريبةِ الأطوارِ، يعكس بشكل صارخ حقيقةَ ما ترعرعَ عليْهِ وما يؤمنُ به أتباعُ الديانةِ اليهوديّةِ من القوميين، بأنّ أيّ تحلّلٍ أو انصهارٍ لليهود في الشعوب الأخرى هو سيّئٌ وحرامٌ، وذلك يعكسُ الفكرةَ أوِ الحالةَ الذِهْنِيَّةَ العامّةَ عندَ غالبيّةِ الجمهورِ اليهوديِّ اليميني، جمهور صُبغت عقولِ أفرادهِ بالعنصريّة الدينيّةِ.

قبلَ سنواتٍ مضت قرأْتُ كتابَ "كفاحي" لهتلر الّذي بعث فيّ الاشمئزاز وعلت عدّة تساؤلاتٍ ظلّت تلّحُ عليَّ وتلاحقُني في كل حال تتعلّقُ بفكرةِ التراتبِ العرقيِّ كمفتاحٍ يفسّرُ أوْ يبرّرُ التشكيلاتِ البشريّةَ، وقد عاودتُ قراءَتَه مرّةً أخرى منذ أيّامٍ خلت لمراجعةِ ما كتبَه وترجمه الباحثُ "أحمد أشقر"، لأتيقّنَ أني أمامَ فقْهٍ يهوديٍّ (ما ورد في مقالات حاخامات اليهود) حقًّا يتماثلُ مع واقعِ النظريّةِ العرقيّةِ أو يقتربُ منْها، والمفارقةُ كانت بأن النظريّةَ العرقيّةَ القائمةَ على التطهيرِ العرقيِّ والّتي كان قد اكتوى بنارِها يهودُ أوروبّا، أضحت تشكّلُ الآنَ مُسَوِّغًا وتبريرًا لسلوكِ أصحابِ التيّار الدينيِّ-الصهيونيِّ ولأفعالِهم الماديّةِ، الثقافيّةِ الغريزيّةِ وهي سلوكيّاتٌ وأفعالٌ لا تخضعُ إلّا لقوانينِهم التوراتيّةِ والتلموديّةِ كما عبّروا وما زالوا يعبّرون عنها في أقوالِهم وكتاباتِهم.

وأنا لسْتُ الوحيدَ في هذا المضمار، فالتشابهِ بينَ ما يُكتبُ ويُقالُ ويُنشرُ في المعاهدِ الدينيّةِ وغيْرِ الدينيّةِ كالأفكارِ الساديّةِ والفاشيّة وبين التطبيقِ العمليِّ للتطهيرِ العرقيِّ يقلق البعض من الشخصيات ذات الاعتبار في المجتمع الاسرائيلي، فها هو رئيسُ المحكمةِ العُليا الأسبقُ "أهرون براك" يقول في معرض خطبته في مؤتمر إيلات أكتوبر 2018، "إنّ ما حدث في ألمانيا يمكن أن يحدثَ هنا" "إذا كان ذلك قد حصل في ألمانيا الّتي أنجبت باخ وغوته وبتهوفن؛ فمن الممكن حصولُه في كلّ مكانٍ وذلك لأن النظامَ الّذي ينفي القيمَ الأساسيّةَ وحقوقَ الإنسانِ ليسَ نظامًا ديموقراطيًّا". والتّخوّف الّذي يشيرُ إليه، هو تدهور حال المجتمع الإسرائيلي. فما تصرّح به مجموعةٌ من السياسيّينَ والكتّابِ اليهودِ المتطرّفينَ في هذا الشأنِ قائمِ أصلا على فكرتيْنِ رئيسيتيْنِ هما: تصنيفُ المجموعةِ البشريّةِ وترتيبُها وفْق تقسيمٍ عرقيِّ شبيه لما ظهر في المانيا، وإقامةِ الدولةِ الوطنيّةِ النقيّةِ من الأغيارِ بادعاء أنها الأداةُ الوحيدةُ لتحقيقِ خلاصِ الأمّةِ اليهوديّةِ.

لم تعرفِ البشريّةُ في العصرِ الحديثِ عنصريّةً ممنهجةً وخطابَ كراهيةٍ بمستوى نخبِ الدولةِ إلّا في حِقبٍ تاريخيّةٍ لا تتعدّى أصابعَ اليدِ الواحدةِ، وقد لا نُغالي إذا قلنا بأنّ الأيديولوجيا الدينيّةَ الّتي يعتمدُها روّادُ الحركةِ القوميّةِ الدينيّةِ اليهوديّةِ أوِ الصهيونيّةِ الدينيّةِ خاصّةً، تتوّجُ وتؤسّسُ لحقبةٍ تاريخيّةٍ معاصرةٍ على شاكلةِ الحِقبِ الظلاميةِ الاستبداديةِ وتعملُ على تأسيسِ نظامِ فصْلٍ عنصريٍّ وتطهيرٍ عرقيٍّ قائمٍ على أساسِ التفوّقِ العرقيِّ، يستمدُّ أفكاره من الأساطيرِ الدينيّةِ كما وردَ في النصوصِ قيدِ المعالجةِ. فهذا التيّارُ الدينيُّ القويُّ يرى باليهودِ كيانًا دينيًّا متماسِكًا يتمتّعُ بعلاقةٍ خاصّةٍ مع الربِّ، الّذي يتجسّدُ فيهم ويمنحُهُم درجةً عاليةً منَ القَداسةِ؛ وكأنّ الدّينَ والإلهَ مُقتصرٌ على شعبِ اللهِ المختارِ مالكُ هذه الأرضِ بفعلِ وعدٍ ربّانيٍّ.

إنّ فنّ استغلالِ وتوظيفِ الدّينِ لأغراضٍ سياسيةٍ واستعماريّةٍ أسّست لها مجموعةٌ من الكتّابِ اليهودِ، تلك مجموعةٌ منَ المثقّفينَ الّتي أوجدت تعريفاتٍ جديدة لمصطلحاتِ الأمّةِ والشعبِ، القوميّةِ الاثنيةِ وربطتْها بالدينِ عَنوَةً بما يتلاءمُ مع الروايةِ الدينيّةِ اليهوديّةِ لإبادةِ شعبٍ وسلبِ وطنٍ ليس لهم حقٌّ فيه، الّا بفعل الدين كما يزعمون.

لقد انقضّتِ الحركةُ الصهيونيّةُ -العلمانية بطابعها-على هذه الفكرةِ الخرافيّةِ وغرستْ في ذهنِ أبناءِ الشعب اليهوديِّ فكرةَ الوعدِ بعودةِ الأمّةِ اليهوديّةِ إلى الأرضِ الموعودةِ، والأسوأ والأخطرُ أن يتماهى بعضٌ من مُدّعي الثقافةِ وبعضُ الكياناتِ العربيّةِ والغربيّةِ مع هذه الأكذوبةِ الّتي وللأسف تلقى رواجًا في

أوساطِ ثلّةٍ من العربِ. فها هو تصريحُ محمّد بن سلمان الباعثُ على الدّهشة وغيرُ المسبوقِ حولَ حقِّ الشعبِ اليهوديِّ "بأرضٍ خاصّةٍ بهم" وهكذا يبدي تبنّيه للرؤيةِ الصهيونيّةِ بلْ يروّجُ لها. رغم ذلك، فإنّ هذه التصريحاتِ لوليِّ العهدِ السعوديِّ لم تحظَ باهتمامِ صنّاعِ القرارِ في الدولةِ العبريّةِ وامتنعتْ عن تسميةِ تصريحاتِه بالتاريخيّةِ لأنّهم ليسوا بحاجةٍ لمن يُثَبّت لهم حقَّهم المُثبتَ توراتيًّا حسْبَ ما يزعُمون.

هذه المجموعةُ منَ الكتّابِ اليهودِ حوّلتِ وبامتياز تلك الأساطيرَ الدينيّةَ إلى حاجةٍ سياسيّةٍ تهدفُ إلى مأسسةِ فكْرٍ ظلّاميٍّ وإضفاءِ صبغةٍ تلموديّةٍ، قوميّةٍ-دينيّةٍ متطرّفةٍ لما يسمونّه "أرض إسرائيل الكاملة"، ممّا يعني منحَ الشرعيّةِ الكاملةِ لأسطورةِ "أرض إسرائيل" منْ جهاتٍ سياسيّةٍ يمينيّةٍ متشدّدةٍ لتبريرِ ولترسيخِ الروايةِ الصهيونيّةِ في الذاكرةِ اليهوديّةِ وكأنّ هذه البلادَ لم تكنْ عامرةً بأهلِها، بل أرضَ يَبابٍ قاحلةٍ أحيوها من جديدٍ على حدِّ زعمِهِم.

ومن المفارقةِ، أنّ الخطابَ الدينيَّ حولَ دورِ القادةِ السياسيّينَ من التيّاِر الصهيونيِّ المتطرّفِ والحركةِ الدينيّةِ القوميّةِ والّذي يتمحورُ حولَ التحريضِ المباشرِ والصريحِ وغيرِ المسبوقِ على إبادةِ الشعبِ الفلسطينيِّ (كما يظهر في المقالات)، لم يتمَّ التطرّقُ إليْهِ بجدّيّةٍ لا منْ قِبلِ الإعلامِ العربيِّ ولا من قِبلِ الإعلامِ الغربيِّ، فالكلُّ مشغولٌ بالروايةِ الغربيّةِ حولَ مسؤوليّةِ المصادرِ الدينيّةِ الإسلاميّةِ عنِ التحريضِ على "الإرهابِ" وهمْ بذلكَ يقلبونَ الحقيقةَ رأسًا على عقِب مستغلّينَ ما تقومُ به مجموعةٌ متطرّفةٌ من الإسلاميّينَ لتبريرِ سلطانِهم بزعمِ أنّهم يستمدّونه من الله مباشرةً.

اهتمّتِ النخَبُ الإعلاميّةُ والفكريّةُ الصهيونيّةُ بنقلِ التحريضِ على العنفِ والإرهابِ من الحاخاماتِ والمرجعيّاتِ الدينيّةِ إلى المستوياتِ السياسيّةِ الحاكمةِ. وهكذا استغلّتِ الصهيونيّةُ الديانةَ اليهوديّةَ كتبريرٍ لأحقيّةِ اليهودِ على هذه البلادِ غيرُ مكترثةٍ بجميعِ الأعرافِ الدوليّةِ والحقِّ الطبيعيِّ للفلسطينيّينَ في تقريرِ مصيرِهِم. مع ذلك، إنّ اعتبارَ الصهيونيةِ كحركةٍ استعماريّةٍ والّتي صدّرتها لنا الدولُ الغربيّةُ لا يفي بغرضِ فهْمِ المراجعِ الّتي اعتمدْتها ودورِ الدينِ في المشروعِ الصهيونيِّ الكلّي كما يشيرُ الباحثُ.

مع أنّ بعضَ المرجعيّاتِ اليهوديّةِ قد أصدرت مئاتِ الفتاوى الّتي تحثُّ على قتلِ الفلسطينيّينَ وتجيزُ سلبَ ممتلكاتِهم لتحقيقِ الوعدِ المُفْتَرى؛ إلا أنّه وحتّى وقتٍ قريبٍ لم يحدثْ أنْ تمَّ تبنّي هذهِ الفتاوى منْ قِبلِ مرجعيّاتٍ سياسيّةٍ تشريعيّةٍ في الكيانِ الصهيونيِّ كما يحدثُ حاليًّا، أقصدُ بذلك "قانون الدولة القومية لليهود". فالخطابُ الصهيونيُّ اليمينيّ الرسميُّ باتَ يتبنّى بدونِ مُواربةٍ الأساطيرَ الدينيّةَ والدعوةَ لإبادةِ الفلسطينيّينَ واجتثاثِهم دونَ أنْ يتركَ هذا الخطابُ أيّ تأثيرٍ يُذكرُ في تغطيةِ وسائلِ الإعلامِ العربيّةِ والغربيّةِ.

وعلى سبيل الذكْرِ لا الحصْرِ، لم يتردّدْ "بتسلئيل سموتريتش"، - الّذي ينتمي إلى حزب البيتِ اليهوديِّ اليمينيِّ المتطرّفِ- في أنْ يُطالبَ بتطبيقِ فتْوى أصدرَها "الحاخامُ موشيه بن ميمون" (الرمبام) - الّذي عاشَ في القرنِ الثاني عشر- تُلْزمُ اليهودَ بأنْ يعرِضوا على غيْرِ اليهودِ الّذين يعيشون في فلسطينَ ثلاثةَ خياراتٍ لا رابعَ لها، أوّلُهم: مغادرةُ "البلاد" فورًا، ثانيهم: القبولُ بالعيشِ تحتَ حكمِ دولةِ إسرائيلَ لكنْ بحقوقٍ أقلّ درجةٍ منّ المواطنينَ اليهودِ بمعنى أن يقبلوا بالعيشِ كعبيدٍ لليهودٍ، أمّا ثالثهم فهو مقاومةُ الفلسطينيين لخطّته وعندها "سيقومُ الجيشُ بما يلزمُ"، حسب تعبيرِهِ، حيث يقصدُ قتلَهم جميعًا وبضمنُ أولئك الأطفالَ والنساءَ وبناء عليه إنّ كلَّ جريمةٍ تصبحُ شرعيّةً وقانونيّةً من أجلِ تحقيقِ وعْدِ الربِّ.

وفي ظلّ التراخي العربيِّ والفلسطيني، تقوم مجموعة دينية متطرفة بكبحِ جماحِ كلِّ من سوّلت له نفسُه مناقضةَ روايتِهم الدينيّةِ أو الانحرافِ عنها. وتلقى روايات المؤرخين الجدد (كأمثال شلومو ساند وزئيف هارتسوغ) انتقاداتٍ شديدةً ومعارضةً شرسةً لدرجةِ النبْذِ من جهاتٍ متنفّذةٍ في دائرةِ صنّاعِ القرارِ ومثقّفين يهود. وعلى حدّ قولهم إن كان ذاك قد حصل أو لم يحصل منذ مئات أو آلاف السنين وحتّى على افتراض أنّ الأحداثَ كانت مجرّدَ أساطيرَ فما يهمُّهم هو التأكيدُ على مصداقيّةِ هذه الأساطيرِ وتسويقها على أنها أكثرُ صحّةً من جميعِ حقائقِ العال!

مع اشتداد الصراع العربيّ اليهوديّ، دأبت القيادة اليهودية على دراسة النصوص الدينية لدى العرب، خاصة الإسلاميّة منها وذلك لمعرفةِ مفاتيحِ هذا الصراع، والتوصلِ إلى الوسيلةِ الّتي من خلالها تمكّنوا وما زالوا يتمكّنون من إلحاق الهزائم بالعرب. هذا ولم يقف اليهود عند حدود الأسطورة النظريّة، وإنما ألحّوا على جعلها دينًا ووحْيًا مقدّسًا، يستوجبُ التنفيذَ ويستلزمُ التطبيقَ. لقد شكّلت الأسطورةُ الدينيةُ الّتي اعتمدَتها الحركةُ الصهيونيّةُ "العودة إلى الأرض الموعودة" قاعدةً فكريّةً لتبرير استعمار البلاد بعد عمليات التطهير العرقيَّ التي مارستها خاصة عام 1948 وحتّى يومنا هذا.

ليس خافيا على أحدٍ أنّ إسرائيلَ أوّلُ من رفع الشعارَ الدينيَّ في الصراعِ من خلال ِمزاعمِ حقِّها التاريخيِّ في فلسطينَ وقولها إنّها أرضُ الميعادِ وفقاً لعقيدتِها اليهوديّةِ. هذا الخطابُ أعلنَه بشكلٍ جليٍّ أوّلُ رئيسِ وزراء إسرائيليٍّ "ديفيد بن غوريون" عام 1948 في الأممِ المتّحدةِ، حين قالَ: "قد لا تكونُ فلسطينُ لنا بالحقِّ السياسيِّ أو القانونيِّ ولكنّها حقٌّ لنا على أساسٍ دينيٍّ، فهي الأرضُ التي وعدَنا اللهُ بها وأعطانا إيّاها من الفراتِ إلى النيلِ". وممّا لا ريْبَ فيه، أنَّ قادةَ إسرائيل استطاعوا توظيفَ الدّينِ جيّدًا وبشكلٍ

براغماتيٍّ (عمليٍّ) في صراعِهم منذ البدايةِ، بالرغم من كوْنِ أهمّ قادتِهم لم يكونوا من المؤمنين مثل "غولدا مائير" و"ديفيد بن غوريون".

وبناء عليه؛ تمّ نقلُ مركزِ الثقلِ من التبريرِ الّذي يعتمدُ على حقِّ تقريرِ المصيرِ للشعوبِ، وهو فكرٌ علمانيٌّ في الأساس إلى تبريرٍ يعتمدُ على الفكرِ الدينيِّ اليهوديِّ الّذي هدف ويهدف لاستعمار البلاد وتطهيرها من العرب. لقد دأبتِ الصهيونيةُ على التضليلِ بخلق علاقةٍ وهميّةٍ بين الدين اليهوديِّ و"أرض إسرائيل" (أرض فلسطين) وتركيز الانتباه عليها بهدف تبريرها الاستيلاء على البلاد، وهذا يعني توظيف التاريخِ المُتَخَيّلِ وجعله حقيقة واقعيّة باسم الدين. لأنّ جميعَ التبريرات العقلانية، السياسية والدولية لا تفي بالغرض.

مقابل ذلك نرى العربَ – ساسة وكيانات – يعزون فشلهم وهزائمهم في الصراع مع إسرائيل لأسباب متخيّلة أحيانا ويهملون إدراك الجذور الحقيقية للصراع كما يقول الباحث أشقر. فالقصور في إدراك مدى أهمية فهم اليهود من خلال نصوصهم الدينية كما يفسرّونها هم؛ أدّى الى معالجة قضيّة التحرر من نيْر الاحتلال من خلال رؤى وسياقات مشوّهة مثل: التسوية من خلال المفاوضات، حلّ الدولتين، دولة ثنائية القومية، الدولة الواحدة وغيره.

وفي نظري أنّ جميع هذه الطروحات ما هي إلّا متنفّسٌ لإدارةِ الصراع والإبقاء على الوضع الراهن من خلال فرض الوقائع على الأرض وليس ومحاولة لحلِّ الصراع. وأبرز دليل على ذلك، تطالب إسرائيل رسمياً بالاعتراف بضم الجولان إلى أراضيها، وخيبة أملها من قرار الأردن استعادة سيادته على أراضي منطقتي "الباقورة "و"الغمر" بعد 25 عاما من تأجيرها لإسرائيل، ناهيك عن التوسع الاستيطاني في رقعة من الأراضي الفلسطينية.

يعلّمنا تاريخُ الأممِ أنّ أيّ صراعٍ يحتاج إلى القوّة من أجل إنهائه، وقد تكون هذه القوّةُ ماديّةً أو معنويّةً أو الاثنتين معا. والشعب اليهوديّ بخلاف العرب امتلك القوّتين معًا، خاصّة القوّة المعنويّة التي أسّست لها الصهيونيةُ مستمدةً إياها من الأساطير الدينيّة والعمل على التمسّكِ بها حتّى من قِبل الأوساطِ العلمانيّةِ للقيادة اليهوديّةِ. إنّ القوة المعنوية لليهود والتي اكتسبوها من خلال المعرفةِ والإدراكِ وجمع المعلوماتِ الدقيقةِ عن عدوّهم، من دراسة القرآن، السير النبوية، التاريخ العربيّ وغيره ساهم في نجاحهم أكثر ممّا ساهمت به الآلةُ العسكريةُ، لأن أيّ استراتيجيّةٍ عسكريةٍ بحاجةٍ إلى معرفةِ أدقِّ التفاصيل عن العدوِّ.

يعنون الباحث أحمد أشقر وكتابه "التهجير ...والابادة" (الفقه اليهودي المعاصر تجاه العرب) للدلالة على أنّ الفكرَ الّذي تنطوي عليه هذه المقالاتُ المترجمةُ من العبريّةِ، خطيرٌ ويتحدّثُ صراحةً عن استعمارِ

فلسطين، "أرض إسرائيل" كما يزعمون، وتطهيرها من العرب حتى لو كلّف الأمرُ إبادةّ شيوخِهم قبلَ أطفالِهم ونسائِهم. وهو بذلك، يستفزنا ويثيرنا لكيلا نبحرَ في فضاءات المتخيّل، بل أن نعود للواقع لمعرفة ولدراسة هذا الفكرِ الذي يتشكّلُ في البؤرِ الاستيطانيّةِ والذي تحوّل إلى مرجعٍ للقادة السياسيين والعسكريين وعدم الاكتفاءِ بما يُنظّرُه الكتّابُ اليهودُ الليبراليّون.

القضيةُ مثارُ الجدلِ والّتي يطرحها الكاتبُ إلى أيّ مدى يحدّدُ التحيّزُ الفقهيُّ اليهوديُّ صورةَ فهْمِنا وإدراكِنا لحلّ القضيةِ الفلسطينية؟ حسب رؤيا الكاتب، إنّ عدمَ معرفةِ الفقْهِ اليهوديِّ الّذي يتمّ إنتاجُه من جديدٍ في المعاهدِ اليهوديّةِ والّذي يطغى على تفكيرِ صنّاعِ القرارِ يجعل العرب والفلسطينيين الطرّفَ الأضعفَ في معادلةِ فهْمِ القضيّةِ وحلّها. لذلك يجتهد الباحثُ في شرح العلاقة ما بيْن الديانة اليهودية والصهيونية الاستعمارية للاستفادة منها والتحذير بأنّ عدمَ فهمها يُفقِدُنا حلقةً مهمّةً في المواجهةِ وحلِّ الصراع.

(مداخلة الدّكتور يوسف شحادة، في أمسية إشهار كتاب "التهجير... والإبادة، الفقهُ اليهوديُّ المعاصرُ تجاهَ العربِ لأحمد أشقر في نادي حيفا الثقافي 25-10-2018)

يوسف شحادة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى