توهان
علبة السجائر ترتمي على المنضدة ببلادة ووقاحة، كعادتها. كتب متناثرة هنا وهناك، أمامه، والغبار يكتسح سطح مكتبه. يرمقه بغضب ويمد يديه المرتعشتين، ويمسح ما ظهر لعينيه اللتين غادرهما الوهج. يضع أصابعه داخل جيبيه وكأنه يحاول أن يخفي شيئا مسروقا ثم يعجز عن ذلك؛ فيخرجهما ثانية. يضعهما هذه المرة في مواجهة عينيه وكأنه يقرأ صحيفة.
" أحس أن دمي يتجمد في العروق. لم يعد لي قدرة على التركيز. ابتسامتها البلهاء لا تزال ترقص على شفتيها. لم تترك، لغاية الآن، ثني شفاهها دلالة الامتعاض. آه.. آه.. لا بد من سيجارة ".
ينتشل يده من أمام وجهه ويقذفها لتقبض على علبة السجائر. يخرج سيجارة. يقلبها بين أصابعه. يتأملها. يزفر:
أنت وحدك أشعر معك بالعدالة. أمتصك نفسا تلو الآخر. تعطين كل ما لديك حتى بداية الفلتر... وهناك ينطفئ اشتعالك بصمت.
يرسل عينيه لتذرع كل شبر من مساحة الطاولة باحثة عن الولاعة. يغمض عينيه ويفتحهما باطراد متسارع. يشعر بأن قطرات من الصمغ تغطي جفونه، وتسح منها إلى الحدقتين.
" أين اختفيت يا لعينة؟. في الملمات لا أجدك؛ مثلها: تخفي عينيها خلف تلك الإطارات الزجاجية، وتترك لثغرها المفتوح كي يمارس الشبق ببلاهة... ودائما هي تضحك. على ماذا تضحكين؛ يا غبية، وترقصين؟ ...أعلى نبض قلبي الذي لم يترك سيمفونية إلا وعزف عليها لحن حبك؟ "
عيناه لا تزالان تجوسان سطح المنضدة اللامع المصقول بالبني، ويداه تقبضان على القداحة فيتنهد ارتياحا. يجر يديه باتجاه فمه ويعلق السيجارة بين شفتيه. يزم شفتيه عليها، ويسحب الولاعة لتلامس مؤخرتها طرف ذقنه، ويضغط على مقدمتها ويشعل السيجارة. يسحب نفسا ثم يتبعه بآخر، وينفث الدخان باتجاه آخر مرمى بصره.
" إلى أين ستذهب؟ لن تستطيع الوصول إليها، ولن تنجح، كذلك، في النفاذ إلى تلافيف مخها. عقلها ما يزال مقفلا بترباس الجهل، وعيناها لا تفتآن النظر إلى الظلام ".
يسحب نفسا ثم يتبعه بآخر كأنه يشرب من قربة ماء بعد سفر طويل في صحراء مقفرة ليس فيها أي عين ماء. تحترق السيجارة شيئا فشيئا ويتابع، هو، امتصاص دخانها الرمادي.
" احترقي وأحرقي معك صورتها التي لا تزال تسبح في بؤبؤ العينين. إن لم تستطيعي ذلك؛ فعلى الأقل، شوهيها.. أو احرقيني أنا الـ.."
السيجارة لا تزال تحترق، وهو لم يكن لينتبه بأن وهجها قد وصل الفلتر:
أي...أخ.