

ثلاث مدن تمشي إلى الغياب
(نصّ روائي شعري عن نكبة 1948)
الفصل الأول – حين بدأ الصمت
في تموز 1948، كانت الرملة تنام على أنفاسها الأخيرة.
الهواء مشبعٌ برائحة الخبز والخوف،
والأبواب تُغلق ببطء كأنها تخجل من الرحيل.
في الساحات، تلتف النساء حول تنانير الطين الساخنة،
وفي المآذن يتردد الأذان بلا مؤذن،
صوتٌ بلا جسد، كأن الله نفسه يوشك أن يغادر المدينة.
في اللد، كانت البيوت ترتجف قبل أن تسقط.
وفي يافا، كانت العروس البحرية تُنتزع من فستانها،
والبحر واقف على الشاطئ كقاضٍ لا يستطيع الحكم.
لم تكن تلك حربًا،
كانت نهاية شكلٍ من أشكال الوجود.
الفصل الثاني – الطريق إلى رام الله
خرج الناس من الرملة واللد ويافا معًا،
قافلة واحدة من أجسادٍ أنهكها الخوف والعطش.
الطريق كان طويلًا،
يمتدّ كجرحٍ مفتوحٍ نحو رام الله.
في الصفوف، رجالٌ يسيرون بلا ظلال،
ونساءٌ يحملن العجين بدل الأطفال.
كانت كل امرأة تحمل بيتها على رأسها،
وكل رجلٍ يحمل وطنه في صدره ويكتم الصرخة.
طفلٌ سقط من التعب،
انحنت أمه فوقه وهمست:
“نم قليلًا يا بني، الطريق ما زال طويلًا.”
لكن الطفل لم يفتح عينيه بعدها أبدًا،
وكأن النوم صار وطنه الأخير.
الحرّ يأكل الجلود،
والتراب يلسع الأقدام،
والسماء صماء لا تمطر سوى الغبار.
الفصل الثالث – العطش
حين نفد الماء، بدأت رحلةٌ أخرى من القهر.
العطش صار معركةً لا ضد العدو، بل ضد الجسد.
منهم من شرب من غدرانٍ آسنة،
ومنهم من شرب بوله كي يمدّ خطوته أكثر.
امرأة شابة سقطت وهي تحمل عجينها.
حاولت أن تنهض،
لكنها قالت بصوتٍ مرتجف:
“كنت أريد خبزًا لأطفالي،
فإذا بالعجين صار أثقل من الحياة.”
لم يكن أحد يصرخ.
الصراخ ترفٌ لا يملكه من تذوّق الرماد.
كانوا يسيرون بصمتٍ مطلق،
كأنهم يمشون في جنازةٍ جماعيةٍ لا نهاية لها.
الفصل الرابع – يافا التي لم تمت
على البعد، كانت يافا ما تزال تلوّح.
البرتقال تساقط من أغصانه دون أن يُقطف،
والبحر صار مرآةً للغائبين.
رجل من يافا التفت وهو على الطريق،
نظر إلى البحر وقال:
“حتى الموج ينادي أسماءنا،
لكنه لا يعرف أين نردّ عليه.”
في الأزقة التي تُركت خلفهم،
ظلّت تنانير الخبز مشتعلة،
كأن النار ترفض أن تطفئ نفسها قبل أن تعود الأيدي.
يافا لم تمت،
لكنها تقمّصت البحر كي تبقى حيّة في ذاكرة من رحلوا.
الفصل الخامس – رماد المدن
حين وصل بعضهم إلى رام الله،
لم يعرفوا هل نجا أحدٌ حقًا،
أم أن الجميع صار جزءًا من هذا الموت الطويل.
ناموا في العراء،
غطّاهم الليل بدل البطانيات،
وكانت النجوم كأنها ثقوبٌ في السماء تُطلّ منها أرواح البيوت القديمة.
امرأة خبأت عجينها في قطعة قماش،
وقالت: “غدًا سأخبزه حين نعود.”
لكن الغد لم يأتِ أبدًا،
وظلّ العجين رطبًا كأنه ينتظرها حتى اليوم.
الفصل السادس – ما بعد الغياب
مرت الأعوام،
والرملة بقيت في ذاكرة الذين نجوا،
تتنفّس في أحلامهم كما تتنفس الأرض بعد المطر.
اللد تنام على كتف الرملة،
ويافا تهمس لهما من بعيد عبر الموج:
“أنا لم أمت… أنتم فقط ابتعدتم أكثر.”
كل حجرٍ في المدن الثلاث يتذكّر الأقدام التي غادرته،
وكل مفتاحٍ في جيبٍ قديمٍ يلمع كلما ذُكرت العودة.
حين تمطر فلسطين،
يشرب المطر من أثر تلك الخطوات،
كأنه يُعيد إليهم الماء الذي عطشوا إليه ذات يوم.
الخاتمة – النكبة التي لا تنتهي
لم تكن النكبة يومًا في التاريخ،
كانت استمرارًا للوجع في ذاكرة الجغرافيا.
الرملة واللد ويافا ما زلن يمشين فينا،
نحملها في العيون والملامح والكلمات.
كلما نطق أحدٌ باسمها،
ارتجف حجرٌ في مكانٍ ما،
وارتفع صوتٌ خافت من تحت التراب يقول:
“ما زلنا هنا،
لم نُهزم،
نحن فقط ننتظر الطريق المعاكس… طريق العودة.”